ساد الصمت لوهلةٍ في حديقة القصر الإمبراطوري.
لم يجرؤ أحد على الكلام بسهولة. فمن كان ليتوقع أن يعلو صوت أحدٍ بهذا الشكل المفاجئ؟
خصوصًا في القصر الإمبراطوري، وأمام الإمبراطور نفسه.
ماركوس، الذي كان ينظر إلى ريكا بوجهٍ مصدوم، شرع في السعال فجأة، وكأنه اختنق بالشاي الذي كان يشربه.
كان هذا المشهد مختلفًا تمامًا عن هدوئه المعتاد، لكن هاوارد لم يستطع حتى النظر إلى ماركوس، لأنه هو نفسه، وبسبب الدهشة، نسي الألم للحظة.
أما ريكا، فكانت تتصرف وكأن شيئًا لم يحدث.
“يا إلهي، هل أنتَ بخير، جلالتك؟ يبدو أنني أخفتكَ بصوتي العالي.”
“لا، لا بأس…..كح كح…..أنا بخير.”
أجاب ماركوس محاولًا تهدئة نفسه. ثم وضع فنجان الشاي على الطاولة بصعوبة، وأخرج من جيبه منديلاً ومسح ما تطاير من الشاي عن فمه بسرعة.
“…..من ردّ فعلكِ، يبدو أنكِ معجبةٌ كثيرًا بوجه هاوارد.”
“بالطبع! من المستحيل ألا يعجبني وهو بهذا الشكل!”
“كح.”
هذه المرة، هاوارد هو من سعل.
‘ما الذي تفكر فيه بحق..…؟’
تملّكه الارتباك. لقد ظن أنه بدأ يفهم ريكا بعض الشيء من خلال الوقت الذي قضياه سويًا، لكن يبدو أنه كان مخطئًا تمامًا.
سواء أكان هاوارد وماركوس يفكران بها كما يشاءان أم لا، تابعت ريكا الحديث وكأن الأمر لا يعنيها بشيء.
“يبدو أن جلالتكَ لا تعرف هاوارد جيدًا. ذلك الشخص شجاعٌ ورائع جدًا. منذ البداية، ليس أي أحدٍ يمكنه أن يمسك بملك الشياطين أو الهراطقة. من يدري متى قد يحدث شيءٌ كهذا؟”
قالت ريكا ذلك وهي تضم يديها معًا وتبتسم بصفاء.
كمن وقعت في الحب فعلًا.
“وربما لهذا السبب، فهو يحظى بشعبيةٍ هائلة. عدد طلبات الزواج التي تصل إلى قصر الدوق كثيرةٌ لدرجة أنه يمكن استخدامها وقودًا إن جمعناها كلها. قد يكون من غير اللائق قول هذا، لكن لا داعي للقلق من برد هذا الشتاء.”
“…….”
“وهذا ليس كل شيء. كلما خرج إلى الخارج، يظل الناس يحدقون به. أنا أيضًا لم يمض وقتٌ طويل منذ أن تعرفت عليه، لذا لا أعرفه جيدًا، لكن أعتقد أن السبب في عدم حضوره الحفلات في الفترة الماضية هو هذا تمامًا. أليس مرهقًا أن يقترب منكَ الناس دون أن تفعل شيئًا فقط لأنهم يريدون أن يصبحوا مقربين منكَ؟ أليس كذلك؟”
ماركوس لم يرد. بل بدا وكأنه لا يملك الوقت أو التركيز للرد.
ومن النادر، أن هاوارد فهم ماركوس.
“آه، يبدو أنكَ لا تعرف. لو أن جلالتكَ حضرتَ ولو مرةً واحدة حفلة كان فيها هاوارد، لكنت عرفتَ…..لا، غريب. حتى من دون حضور الحفلات، ألا تعرفُ أن هاوارد مشهورٌ جدًا؟ لقد وصلت سمعته حتى إلى الشمال حيث كنت أقيم.”
أمالت ريكا رأسها بتعبيرٍ متعجب.
“الآن بعد أن فكرت في الأمر، كان من المدهش أيضًا أن جلالتكَ قلت أن هاوارد شخصٌ خجول ومنطوٍ. أي مواطنٍ في إمبراطورية فيدوس يعرف مدى براعة هاوارد في القبض على الهراطقة. لقد وصلت هذه السمعة أيضًا إلى الشمال. آه، هل من الممكن أن القصر الإمبراطوري يمنع وصول الشائعات من الخارج؟ إن كان الأمر كذلك، فقد يكون مفهومًا.”
“يا آنسة..…”
شدّ ماركوس على يده الموضوعة فوق الطاولة. لكنه لم يتمكن من أن يوبخ ريكا.
لأن ريكا، وهي تتحدث بحماس، كانت تظهر وجهًا بريئًا وكأنها لا تعلم شيئًا على الإطلاق.
كما لو أنها من تلك المواقف التي يكون فيها كلام الطرف الآخر صريحًا ونقيًا لدرجة أنكَ إن حاولت الإشارة إلى أي جزءٍ باعتباره وقحًا، ستبدو أنت الأحمق بدلاً منه.
نظرت ريكا إلى ماركوس الذي بقي صامتًا، وتنهد بصوت خافت.
“آه، هل قلتُ شيئًا فيه قلة احترام؟ أنا آسفة جدًا. كما تعلم، لقد كنتُ أعيش في الشمال طوال الوقت، لذا لست معتادةً على مثل هذه الحوارات. لو كان لدي وقتٌ أطول قليلًا قبل حضور حفلة الشاي، لكنت استعددت بشكلٍ أفضل، لكن للأسف لم يكن ذلك ممكنًا..…”
…..هل من الممكن فعلًا أنها لا تعرف شيئًا؟
تنفس ماركوس بعمق وهو يمتحن صبره. ثم بدلاً من قول أي شيء، اكتفى بهز رأسه بهدوء.
فريكا كانت تعتذر بصدق مع حواجب مرفوعة بأسى، ولبسببٍ ما، لم يكن لدى ماركوس طاقةٌ ليقول لها أي شيء أكثر من ذلك.
وفوق ذلك، كان لدى ماركوس سببٌ يمنعه من إثارة ريكا في هذا الوقت.
“…..قد يكون ذلك ممكنًا، لا بأس. وأنا أعلم أيضًا أن هاوارد شابٌ جيد. فقط كنتُ قلقًا عليكِ، يا آنسة. لا بأس أن تكون علاقتكِ بهاوارد جيدة، لكن من غير الجيد أن يتناقل الناس الحديث عنكما كثيرًا. أعني، إن فكرتِ في المستقبل.”
“حين تقول المستقبل…..هل تقصد عندما أنفصل عن هاوارد؟”
“لا أحد يعلم ما قد يحدث. قد يتغير قلبكِ، أو قد يتغير قلب هاوارد.”
عند تلك الكلمات، أدارت ريكا رأسها بعيدًا عن ماركوس.
ونظرت بهدوءٍ إلى هاوارد.
عيونها الزرقاء لمع بريقها في تلك اللحظة حتى كاد يُذهل من يراها، فحدق هاوارد بها لبرهةٍ بلا وعي.
ثم عادت ريكا لتلتفت إلى ماركوس من جديد.
“أقدّر قلقكَ جلالتك، لكن حتى لو لم أضمن مشاعر هاوارد، فأنا متأكدةٌ من مشاعري. لقد تأكدت الآن مجددًا، لا أظن أنني سأتعب من هذا الوجه أبدًا.”
ومع ذلك، ظل هاوارد ينظر إلى ريكا. و لسببٍ ما، لم يستطع أن يشيح بنظره عنها.
لم يعرف السبب، لكنه لم يكن يسمع سوى صوت ريكا وحده. و لم يسمع ذهول ماركوس، ولا همسات الخادمات الواقفات حولهم.
“حتى لو لم يكن بسبب وجهه، فإن هاوارد هو أكثر رجلٍ وسامة وجاذبية في إمبراطورية آرتشن. ولهذا السبب وقعتُ في حبه من النظرة الأولى، وتبعته حتى أوفلين.”
ثم ابتسمت ريكا ابتسامةً ساحرة، بينما كانت عيناها مغمضتان بلطف. وأمسكت بيد هاوارد على حين غرة.
“رغم ما قد يبدو، فإن ذوقي عاااااالي جدًا!”
دوّى صوت ريكا في أرجاء الحديقة مرةً أخرى. وفي تلك اللحظة، اختفى ألم هاوارد تمامًا.
أما ماركوس، فقد بدا وكأن الأمر قد أصبح مرهقًا له.
نظر هاوارد إلى هذا المشهد كله، ثم ضحك.
“فوهه!”
ولم يستطع التوقف عن الضحك بعد أن بدأه، ولو كان ضحكًا خفيفًا. رغم أنه شعر بنظرات ماركوس تتجه نحوه.
آه، متى كانت آخر مرة ضحك فيها في القصر الإمبراطوري؟
يبدو أنها كانت أول مرة منذ أن جاء إلى هنا وهو طفل صغير ممسكًا بيد والده.
“لماذا تضحك؟”
سألت ريكا هاوارد. و كانت عيناها قد اتخذتا شكلًا مثلثًا قليلًا.
كأنها تقول له بوجهها: “لو أفسدت الجو الذي صنعته بكلمةٍ واحدة فقط، فلن أسامحك.” وفي أثناء ذلك، كانت تحاول حتى ضبط تعابير وجهها وهي تشعر بنظرات ماركوس عليها.
ومجرد رؤيتها على هذا الحال جعله يضحك مرةً أخرى بلا سبب واضح.
ثم تحدث هاوارد،
“لا شيء. فقط شعرت أنني أيضًا لن أتغير.”
لأن في تلك اللحظة، شعر أن هذا هو الجواب الذي يجب أن يقوله.
***
انتهت حفلة الشاي بعد ذلك بوقتٍ قصير.
وكان ذلك أمرًا طبيعيًا. بسبب انتقال زمام الحديث إلى ريكا دون أن يشعر أحد، و لم يعد لبقاء ماركوس في ذلك المجلس أي معنى.
غادر ماركوس المكان وهو يبدو منزعجًا. وبالنظر إلى تصرفاته السابقة، كان من المتوقع أن يقول شيئًا على الأقل لريكا، لذا كان الأمر مفاجئًا بعض الشيء.
وبالتالي، شعر هاوارد ببعض الإحباط، بعد أن كان مستعدًا تمامًا لحماية ريكا.
لكن بما أن الإحباط كان أفضل من حدوث شيء أسوأ، فلم يكن الأمر مزعجًا.
“لقد كنتِ متهورةً اليوم، ريكا.”
قال هاوارد ذلك فجأة أثناء توجههما نحو العربة. بعد أن تأكد من خلوّ المكان من الناس.
“ما كان عليكِ التدخل. لو تركتِ الأمر، لكان توقف بعد قليل. هكذا كان يفعل دائمًا.”
“كان سيتوقف؟”
قطبت ريكا حاجبيها. وكان وجهها يدل على أنها سمعت كلامًا غير منطقي.
“الصمت لا يعني التوقف. كان سيستمر في النظر بذلك الشكل والتفكير بنفس الطريقة. والصمت لن يحل أي شيء.”
تابعت كلامها بصوتٍ هادئ وواضح.
“إذا بقيتَ صامتًا بينما تسمع كلامًا سيئًا، سيظن الطرف الآخر أن بإمكانه الاستمرار. بل سيتمادى أكثر. لا بد من توجيه ضربةٍ قوية كي يتوقف عن تصرفاته الغريبة، حتى لو مؤقتًا. رأيتَ ذلك، أليس كذلك؟ لم يستطع قول أي كلمة.”
ابتسمت ريكا بابتسامةً ممتلئة بالفخر. وكأنها خرجت لتوها من معركةٍ عظيمة منتصرة.
حاول هاوارد كتم ضحكته مجددًا وهو يسأل،
“هل تعنين أنكِ وجهتِ ضربةً للإمبراطور الآن؟ هل يمكن قول شيء كهذا بهذه البساطة؟ نحن ما زلنا داخل القصر الإمبراطوري.”
“آه..…”
فجأة شحب وجه ريكا قليلًا. ثم نظرت حولها بسرعة،
“أرجوكَ…..لن تخبر أحدًا، صحيح؟”
“…….”
“أنتَ تعرف لماذا تدخلت اليوم، أليس كذلك؟ أليس كذلك؟”
قبل قليل كانت تصرخ وتفتعل جلبةً وكأن شيئًا لا يهمها، أما الآن فقد تراجعت وبدأت تبدو قلقةً و خائفة.
ما هذا النوع من النساء؟
في النهاية، لم يتمالك هاوارد نفسه وانفجر ضاحكًا مرة أخرى. بينما يسمع صوت ريكا المرتبكة والمليء بالتوتر.
و ضحك حتى كادت تنزل دموعه.
__________________
ابي المشهد مرسوم غش 🥲
المهم يا حظ هاوارد 🤏🏻
والله يقطع ذا الامبراطور كأنه بزر
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 23"