ما ظهر أمامي وأمام هاوارد كان فتى صغيرًا.
بنية جسده توحي بأنه في العاشرة من عمره بالكاد. و عيناه البنفسجيتان اللامعتان كانتا تنظران نحونا، وشعره الذهبي المموج كان يلمع بضوء الشمس بشكلٍ ساحر.
عندما بدأت أفكر أن ملامحه تشبه شخصًا ما قليلًا، سمعت صوت هاوارد بجانبي.
“……أحيي سمو الأمير، شمس الإمبراطورية الصغيرة.”
سمو الأمير؟
الآن أتذكر أني سمعت أن ماركوس لديه ابنٌ واحد. و بسبب صغر سنه لم يُعلَن بعد كولي للعهد، لكنه على الأرجح سيكون الإمبراطور القادم.
لذلك شعرت أن مظهره مألوف. لأنه من أقارب هاوارد إذًا.
‘كان اسمه فريدريك دي لوكولين، أليس كذلك.’
نظرت بحذرٍ قليلاً ثم حييت كما فعل هاوارد.
“أحيي سمو الأمير، شمس الإمبراطورية الصغيرة.”
اهتز ظهري قليلًا وأنا أنحني. فقد كان من الصعب عليّ أن أؤدي التحية وفقًا للآداب التي تعلمتها البارحة فقط. و كان من حسن الحظ أن هاوارد لا يهتم بهذه الشكليات عادة.
لو كنت مضطرةً لفعل هذا في قصر الدوق أيضًا، لكان الأمر شاقًا حقًا.
“د-دوق! لا داعي لأن تحييني بهذه الطريقة!”
تحدث الفتى، فريدريك، وهو يلوّح بيده بارتباك. كان يتجاهلني تمامًا وكأنه لا يراني، وواصل النظر فقط إلى هاوارد.
حينها تردد فريدريك قليلًا ثم أضاف.
“الدوق……أنت ابن عمي، صحيح؟ لا داعي للتكلف.”
خدّاه الممتلئان تلونا باللون الوردي. و كان من الواضح تمامًا أنه يريد التقرب من هاوارد.
أصبحت أفهم تقريبًا ما الذي يحدث.
بمعنى آخر، فريدريك ركض مسرعًا إلى هنا فور سماعه أن هاوارد قادم إلى القصر الإمبراطوري.
فقد كان هاوارد طوال الوقت منغلقًا في المعبد وقصر الدوق، ولم تكن هناك فرصةٌ لرؤيته إلا في مثل هذه اللحظات. وفي خضم ذلك، من الطبيعي ألا يلتفت إلى شخص غريب مثلي.
في البداية شعرت بالضيق لأنني ظننت أنه تجاهلني، لكن الآن أصبحت أتفهم الأمر قليلًا.
‘لأنه طفل……يبدو لطيفًا.’
……من الصعب التصديق أن هذا الطفل اللطيف هو ابن ماركوس. أتمنى فقط ألا يتحول في المستقبل إلى شخص مزعج يزعج الآخرين في وقت راحتهم.
لسببٍ ما، شعرت بقليلٍ من الغيرة تجاه هاوارد. فأن يكون لديه قريب يحبه إلى هذا الحد. بينما أنا لم يتبقَّ لي أي علاقةٍ كهذه.
نظرت إلى فريدريك وأنا أبتسم دون أن أشعر، ثم أدرت وجهي بعيدًا. ظننت أن هاوارد يبتسم بلطف مثلي تمامًا.
لكن.
‘آه……’
ما إن التقت عيناي بوجه هاوارد حتى أدركت أنه لم يكن كما توقعت. فقد كان ينظر إلى فريدريك بوجه متجمد قليلًا.
“لا يمكنني فعل ذلك، يا سمو الأمير. فأنتَ الشخص الذي سيعتلي يومًا ما عرش هذه البلاد.”
قال هاوارد ذلك بصوت لا عالٍ ولا منخفض.
كانت نبرته ناعمة، لكن من السهل ملاحظة أنه يرسم حدودًا بينه وبين فريدريك. ويبدو أن فريدريك، رغم صغر سنه، الا أنه لاحظ ذلك أيضًا.
“أنا فقط……فقط شعرت بالسعادة لأنك أتيت إلى القصر الإمبراطوري بعد وقتٍ طويل……”
توقف فريدريك عن الكلام وأغلق فمه. و اهتزتا عيناه البنفسجيتان.
‘آه، يبدو أنه سيبكي.’
وكما توقعت، امتلأت عينا فريدريك بالدموع. بدا وكأنه يحاول جاهدًا ألا يبكي، لكن يبدو أن ذلك كان صعبًا على طفلٍ صغير مثله.
وفي النهاية، انزلقت دمعةٌ من عينه وسقطت. ثم تحدث فريدريك بصوتٍ حزين،
“لأني……لا أملكُ إخوةً أو أخوات، فأبقى دايمًا لوحدي في القصر……وأشعر بوحدةٍ شديدة……وأنتَ، أنت قريبي الوحيد يا دوق. لهذا كنت أريد أن ألعب معكَ……”
“….…”
“وهذه أول مرةٍ أراكَ فيها هذه السنة……فكنت أريد أن أدردش معكَ……ههئ…”
يا إلهي.
وقفت أنظر بصمتٍ إلى فريدريك وهو ينفجر بالبكاء بصوت عالٍ، “هواااااه”، بينما بدأت الخادمات اللواتي جئن معه بمحاولة تهدئته وأخذنه بعيدًا.
هاوارد ارتجف قليلًا ومد يده نحوه، لكنه لم يقترب أكثر.
وبعد لحظة، أنزل يده ببطء وكأن شيئًا لم يحدث. لكنني أمسكت بمعصمه قبل أن ينزل يده تمامًا.
اتسعت عيناه الحمراوان بدهشة وهو ينظر إليّ.
“ماذا تفعل؟”
“ما الذي تعنينه؟”
“تصرفكَ الآن……لا يشبه هاوارد الذي أعرفه.”
تنهد هاوارد بصوتٍ خافت عند سماع كلامي. ثم أدار رأسه ليتأكد أن فريدريك قد ابتعد قليلًا، وأجاب بصوت بالكاد يُسمع لي وحدي.
“أنا فقط أفعل ما يجب عليّ فعله. لا يوجد أي خيرٍ في أن يقترب مني سمو الأمير. بل على العكس، لن يجلب ذلك سوى المشاكل له. كما كان الحال دائمًا.”
“ماذا تعني بالمشاكل؟”
سألت وأنا أميل برأسي، فتوقف هاوارد عن الكلام. و بدا وكأنه متردد في قول شيء ما.
لم يكن يُسمع سوى صوت بكاء فريدريك وصوت الخادمات وهن يحاولن تهدئته.
وبعد لحظات، تكلم هاوارد مجددًا.
“ريكا، قلتِ أنكِ لعبتِ عالم الفانتازيا قبل أن تتجسدي في هذا العالم، صحيح؟”
“نعم.”
“إذًا فلا بد أنكِ تعرفين. عن إبادة عائلة الدوق تشيلستون عندما كنت صغيرًا.”
“آه……”
فاتني الرد في الوقت المناسب. فلم أكن أتوقع أن يفتح موضوعًا كهذا فجأة.
تابع هاوارد حديثه بهدوء، وكأنه كان يتوقع رد فعلي.
“كل ذلك……كان بسببي.”
……ماذا؟
ما الذي يقوله؟ كيف يمكن أن تكون إبادة عائلة الدوق بسببه؟
كانت لدي الكثير من الأسئلة، لكن هاوارد لم يشرح أكثر. فقط اكتفى بالتحدث وهو يخفض عينيه قليلًا،
“الآن تفهمين؟ عندما أقول إن مرافقتي تجلب المتاعب، فأنا لا أقولها عبثًا.”
بدا هاوارد حزينًا وهو يتكلم. وكأنه محبوسٌ في مكان بعيد، منعزلٍ تمامًا.
“لذلك، ما أفعله الآن هو الصواب. سمو الأمير سيفهم ذلك عندما يكبر. وسيرى أن من حسن حظه أنه لم يقترب مني. لأنه سيبدؤُ في الحذر مني بسبب حقي في وراثة العرش.”
……لماذا؟
فجأة، ظهرت في رأسي علامةُ استفهام.
لماذا يشعر هاوارد بهذه الطريقة؟
إذا كان هاوارد، الذي يبدو أكثر إشراقًا من أي شخصٍ آخر، يشعر بهذا……فما عساي أنا أن أفعل؟
إذا كان هو كذلك……
“ريكا، حتى لو متُّ، فأنتِ……”
فكلامه يجعلني أشعر وكأن موت ذلك الشخص كان خطئي حقًا.
لأنه اهتم بشخصٍ مثلي، شخصٌ يُسلب منه كل شيء بمجرد حلول منتصف الليل، شخصٌ لم يستطع حتى أن يحافظ على ثمن الدواء الذي جناه بشق الأنفس. شخصٌ لم يجرؤ حتى على محاولة إنقاذه.
‘……أي من هذا لا يُعد عدلًا.’
لذلك، لا يجب أن يقول مثل هذا الكلام. لأني لا أستطيع حتى أن أتنفس وأواصل الحياة بهذا الذنب.
فتحت فمي بكلماتٍ تنبع من رغبة أنانية قليلًا.
“إذًا، ماذا عني؟”
شدَدت قبضتي على معصم هاوارد وجذبته نحوي. ويبدو أنه كان واقفًا بلا حذر، فانحنى قليلاً باتجاهي.
نظر إليّ هاوارد بعيونٍ متوسعة.
“أنا، ومنذ أن التقيت بكَ، لم تكن لي معكَ سوى ذكرياتٍ طيبة.”
اقتربت المسافة بيني وبينه أكثر. وبينما نحن على هذا القرب، همست له بخفة،
“أو ماذا؟ هل أبقيتني بجانبكَ عمدًا لكي تحدث أمورٌ سيئة؟ فقط لأن بيننا علاقةً تعاقدية؟”
“لا، هذا ليس……”
هاوارد لم يستطع أن يرد بشكلٍ واضح. فقررت أن أستغل الموقف وأوجه له ضربةً قاضية بكلماتي.
“إن لم يكن الأمر كذلك، فلا تقل مثل هذا الكلام باستخفاف. بالتأكيد هناك أشخاصٌ تغيرت حياتهم للأفضل بسببكَ. سيكون ذلك إهانةً لهم.”
نعم، مثل حالتي تمامًا.
لو لم يكن هاوارد موجودًا، لكنت لا أزال أضيع وقتي في البحث عن الشخصية الأصلية، وأعيش أوقاتًا أصعب بكثير. و ما كنت لأحلم بهذه الحياة اليومية المسالمة أبدًا.
لأنه، لو أردنا قول الحقيقة……هاوارد يشبه حسابي البنكي نوعًا ما.
رغم أن التعبير يبدو غريبًا قليلًا، لكنه هو من يعطيني المال ويحتفظ به من أجلي في نفس الوقت.
“ثم، أليس من المبكر جدًا أن تقلق بشأن ما سيفكر فيه سمو الأمير في المستقبل؟ الشخص الذي تراه الآن مجرد طفلٍ صغير يحب اللعب. لا يعرف حتى معنى وراثة العرش بشكلٍ صحيح.”
“آه……”
تنهد هاوارد بخفة. و يبدو أنه فهم تمامًا ما كنت أحاول قوله.
فككت قبضتي من على معصمه وابتعدت عنه قليلاً.
“لذا، رجاءً كن ألطف مع سمو الأمير. من الواضح، أنه فقط يرغب في أن يكون قريبًا منكَ، أليس كذلك؟”
ما إن أنهيتُ كلامي حتى التفتُّ نحو فريدريك. ويبدو أنه قد توقف عن البكاء منذ لحظة، فقد كان يرمقنا بنظراتٍ خفية.
تردد هاوارد قليلًا، ثم تنهد بخفة وتقدم نحوه. ثم انحنى أمام فريدريك،
“إذا سنحت لي الفرصة للقدوم إلى القصر الإمبراطوري، فسأزور سموكَ أيضًا.”
“……حقًا؟”
اتسعت عينا فريدريك بدهشة.
رمش عدة مراتٍ وكأنه لا يصدق، مما جعلني أظن أن هذا الطفل الصغير قد عانى كثيرًا من مشاعر الحزن.
“ه، هل يمكنني زيارة قصر الدوق أيضًا؟ كنت دومًا أرغب في الذهاب ولو لمرة……”
“إن أذنَ جلالة الإمبراطور بذلك، فبالطبع.”
“واو!”
امتلأ وجه فريدريك بالفرح. وبينما كان على وشك قول شيءٍ آخر……
خطوة- خطوة-
سمعنا صوت خطوات شخصٍ يقترب.
______________________
يجنن فريدريك بس مب كأنه زودها حتى سلام لريكا مافيه؟
المهم هاوارد وقع بس للحين ماجته لحظة الادراك 🙂↕️
الاخير جا الي محد يبيه
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 20"