في البداية، ظنّ هاوارد أنها هلوسة. لأنه أمرٌ لا يُصدق على الإطلاق.
أن تكون ريكا، التي أرادت الرحيل عن إمبراطورية فيدوس وعن جانبه في أقرب وقت، واقفةً الآن أمامه……كانت معجزةً بحق.
كان يخشى التأكد من هوية الصوت الذي سمعه لتوّه. لذا لم يتمكن من رفع رأسه. و انغرست نظراته في اللحاف الذي يغطي جسده.
لم يتحرك هاوارد إلا بعد لحظات، حين استعاد الخادم رباطة جأشه وتكلم بعد أن بدا عليه الارتباك كذلك.
“آنسة فيليشا؟ ما سبب زيارتكِ إلى قصر الدوق؟ وما الذي تحملينه في يدكِ……؟”
“أعتذر على زيارتي دون إبلاغٍ مسبق. لكن الأمر طارئ.”
قاطعت ريكا الحديث بلطف. وقد كانت تتراجع للخلف خطوةً بخفة ويديها خلف ظهرها.
كان الخادم على وشك قول شيء لكنه أغلق فمه.
فلم يكن منزعجًا من نبرتها اللطيفة التي لم تُلقَ بطريقة جارحة، بل إن سبب تردده كان النظرة الحازمة في وجه ريكا فيليشا وهي تنظر إليه.
نظرة ذكّرته بشكل غريب بحبيبة سيده السابقة، “ريكا إيفريت”، رغم أنه يعلم تمامًا أن ذلك مستحيل.
نظر الخادم دون وعي نحو هاوارد. وقد كان هو، وقد رفع رأسه دون أن يشعر، يحدّق في ريكا.
كان من الواضح أنه يفكر بشيءٍ مشابه لما دار في ذهن الخادم.
وفي خضم تلك اللحظة، تحدثت ريكا من جديد.
“أعذرني، لكن هل يمكن أن تتركنا وحدنا للحظة؟”
“عفوا؟ هل يمكنني معرفة السبب؟”
“لدي أمرٌ أود مناقشته مع الدوق.”
“لكن، آنسة……”
تردد الخادم ولم يجب مباشرة. فلم يكن متأكدًا مما إذا كان من الصواب إبقاء هذه المرأة أمامه، بجانب هاوارد.
صحيحٌ أن سيد منزل الدوق، الذي راقبه لعدة أسابيع، بدا وكأنه تحوّل إلى شخص ينبض بالحياة مقارنةً بما كان عليه لسنوات، أشبه بجثةٍ حية.
فقد كان يأكل بشكل جيد، ويبدو أنه ينام نومًا عميقًا أيضًا، وقد شعر بالارتياح حقًا لذلك. و ظن أن لا شيء سيكون أفضل من استمرار هذه الأيام.
لكن ذلك لم يكن سوى طمعٍ من جانبه.
كان واضحًا أن هذه العلاقة الخاطئة ستجلب في النهاية بؤسًا أكبر. وربما كان من الأفضل إنهاؤها قبل أن تصل لمرحلة أسوأ.
وفي النهاية، فتح الخادم فمه ليعبر عن حيرته.
لكن من تكلّم أولًا كان هاوارد.
“ريـ……لا، افعل كما قالت الآنسة فيليشا.”
نظر الخادم إلى هاوارد عند سماعه ذلك الأمر.
لكن موقف هاوارد كان حاسمًا. و شعر أن الإصرار أو الممانعة قد يؤديان إلى عواقب وخيمة، فلم يجد أمامه سوى أن يتراجع عن رأيه وينسحب.
“إذا احتجتَ شيئًا، فقط نادِني.”
قال ذلك باختصار وغادر الغرفة.
نظرت ريكا إلى ظهره وهو يبتعد، ثم التفتت مجددًا نحو هاوارد،
“أرجو أن تغمض عينيكَ، دوق.”
“أغمضُ عيني؟”
“نعم، لن يستغرق الأمر سوى لحظة.”
أغمض هاوارد عينيه دون تردد.
فهذا طلبٌ من ريكا، دون سواها. ولم يكن هناك سببٌ يدعوه لرفضه.
حتى وإن كان هناك سببٌ يسبب الحرج، فقد عزم على المضي في الأمر مهما كلف.
طَق-
صدر صوتٌ خافت وكأن ريكا قد أغلقت الباب.
وبعده خيّم صمتٌ كثيف على المكان. لم يكن يُسمع حتى صوت خطواتها، وكأنها تمشي على رؤوس أصابعها، ما زاد من شعوره بالقلق الذي كان قد هدأ قليلًا للتو.
‘……ما الذي تنوي قوله؟’
هل ستسأله عن سبب قدومه إلى الميناء لوداعها؟
هل من الممكن أن السفينة لم تتمكن من الإقلاع بسببه؟ فهل جاءت لتغضب عليه وتواجهه بذلك؟
‘لا بد أنها في موقف صعب.’
فهي كانت تريد مغادرة الإمبراطورية في الحال. والآن، وجدت نفسها مجبرةً على البقاء بسبب شخص تعتقد أنه استغلها.
‘يبدو أن يومًا كاملًا لم يمضِ بعد. إن تمكنت من تدبير سفينة أخرى تغادر صباح الغد……فسيكون الأمر على ما يرام. سأتحمّل المسؤولية مهما حدث.’
حتى لو كان اللوم الذي ستلقيه عليه أشد من الأمس، وحتى لو فتح عينيه ليجد نظراتها المليئة بالاحتقار، فسيقبل بذلك.
ألم يكن يتمنى ذلك أمام صورتها يوميًا؟ كان يقول أنه على استعداد لفعل أي شيء مقابل عودتها حيّة، وأنه راضٍ بأي ثمن يُطلب منه.
لذلك……
“يمكنكَ أن تفتح عينيك الآن.”
لذلك فإن مجرد كونها لا تتذكره……
“هاوارد.”
كانت مجرد كلمةٍ واحدة فقط. كانت كلمةً صغيرة، بالكاد تُسمع لولا أنه كان منصتًا لها بكل جوارحه.
وفي تلك اللفظة القصيرة، تجمد جسد هاوارد بالكامل.
وليس لأن حالته الصحية كانت سيئةً كما في السابق. بل على العكس تمامًا.
“كيـ……كيف…..؟”
فمنذ أن عادت ريكا بشخصية “ريكا فيليشا”، لم تنادِه مرة واحدة بـ”هاوارد”.
كان اللقب المسموح به هو “الدوق تشيلستون”. لكنها الآن، من دون شك، نادته باسمه.
“ألن تعرف ما الذي حدث إلا إذا فتحت عينيك؟ هل ستبقى هكذا للأبد؟”
“أنا……”
“أم أعود إلى المملكة فحسب؟”
فتح هاوارد عينيه على الفور عند سماعه لذلك. وأدار رأسه بسرعة نحو مصدر صوتها.
كانت ريكا جالسةً على الكرسي بجانب سريره مباشرة. ومن خلفها، كانت نافذةٌ تطل على سماء الغروب التي لم تزل تتوهج.
على عكس آخر يوم في الذكرى منذ ثلاث سنوات، كان شعرها الفضي الطويل قد وصل إلى خصرها، يتلألأ بنعومة تحت ضوء الشفق.
وعيناها الزرقاوان، حين نظرتا نحوه، لم تحملا أي لوم أو قسوة، كما كان يتوقع.
بل كانتا تمامًا كما ظل يحلم بهما دومًا.
“حين كدتُ أخرج من القصر بعد أن أوصلتكَ وأنت فاقدٌ الوعي، مررتُ بالمكتبة……وهناك رأيت تلك اللوحة المعلقة.”
اللوحة التي كانت تراوده في كل أحلامه، وتظهر فيها ريكا دائمًا.
“بمجرد أن نظرتُ إلى اللوحة، فجأة بدأتُ أبكي……في البداية ظننت أنني أصبتُ بالجنون……لكن بعدها بدأت أسمع.”
“…….”
“هاوارد تشيلستون. كنت أسمع صوتكَ. و تلك الكلمات التي قلتها لي ذات يوم……”
همست ريكا بذلك بهدوء وهي تنظر إلى هاوارد.
و ورغم سماعه لتلك الكلمات، لم يستطع قول أي شيء. فقد كان يظن أن كل شيء قد انتهى. وكان مقتنعًا أن كل ذلك بسببه.
لأنه طمع أكثر مما ينبغي.
لطالما تمنى فقط أن تعود ريكا، و أن يستطيع رؤيتها ولو من بعيد، ومع ذلك تجرأ على الحلم بالبقاء إلى جانبها……ولذلك اعتقد أن العالم قد عاقبه.
لكن الأمر لم يكن كذلك. فقد لبّى هذا العالم أمنيته.
“هاوارد، هل انتظرتَ طويلًا؟”
‘نعم. لقد انتظرت طويلًا جدًا.’
بقدر ما يحتمل المرء قبل أن يموت، وبشوقٍ لا يُوصف.
“أعتذر لأني جعلتكَ تنتظر لكل هذا الوقت، ولأني لم أتذكركَ فورًا. كان يجب أن أتعرف عليكَ من اللحظة الأولى.”
لا بأس. حقًا، لا يهمني شيءٌ بعد الآن.
‘لأنك تتذكرينني الآن……و لأنك الآن بجانبي، تنظرين إليّ وتبتسمين لي.’
ظل هاوارد يردد هذه الكلمات في قلبه مرارًا وتكرارًا. لكنه لم يكن قادرًا على الرد بصوت مسموع.
فقد كان يعلم أنه إن فتح فمه، سينهار باكيًا على الفور.
وقد كان بالفعل في هيئةٍ يرثى لها عندما أغمي عليه، ولم يكن يريد أن يظهر لها جانبًا أكثر ضعفًا من ذلك.
و بالطبع، ريكا لم تكن تبالي بذلك إطلاقًا.
“فكرتُ كثيرًا فيما يمكنني فعله من أجلكَ. وكلما حاولت أن أجد شيئًا، لم يخطر ببالي سوى أمر واحد. فأنت تملك كل شيءٍ تقريبًا.”
توقفت ريكا قليلًا ثم انحنت بجسدها قليلًا إلى الأمام.
وفي يدها التي رفعتها بعد ذلك، كان هناك شيءٌ كبير، يكاد يغطي الجزء العلوي من جسدها بالكامل.
“في المرة السابقة كنتَ أنت من قالها أولًا، لذا هذه المرة، أريد أن أقولها أنا أولًا. آه، لا أقصد عند لقائنا مجددًا عند بوابة أوفيلين، فذلك اللقاء كان كارثيًا تمامًا. أحضرتُ لك زهورًا ذات معانٍ غريبة، وكنتُ حافية القدمين، و……صلعاء……حسنًا، على أي حال.”
ضحكت ريكا بخجل، ثم عدّلت من تعابير وجهها. وعيناها الزرقاوان انحنتا برقة، كأنهما تبتسمان.
كان وجهها يحمل ملامح من تكافح لحبس دموعها، لكنه بدا في عيني هاوارد جميلًا إلى حد لا يمكن صرف النظر عنه.
“هاوارد……إن كنتَ لا تمانع أن تكون بجانب فتاةٍ مثلي……”
مدّت ريكا ما في يدها نحو هاوارد.
“هل تقبل بأن تكون حبيبي؟”
أما ما وضعته أمامه، فكان باقةً من زهور شقائق النعمان البيضاء، ليست تلك التي غيّر لونها ذات يوم بقوته المقدسة، بل زهوراً ناصعة البياض، كما وُلدت، في بهائها الأصلي.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 148"