جسدي توجه ببطء إلى هناك. وكأنني مسحورة، دون أي عائق.
و دون أن أشعر، كنت قد أمسكت بمقبض الباب وفتحت باب المكتبة على مصراعيه.
المكتبة كانت أوسع حتى مما توقعت. وأول ما وقع بصري عليه عند فتح الباب كان نافذة كبيرة. أمامها طاولةٌ طويلة أشبه بما يوجد في المكاتب.
و الأرضية كانت مغطاةً بالكامل بسجاد فاخر النقوش، وعلى الأريكة في وسط المكتبة وُضعت وسادة ولحاف.
أخذت أتفحص رفوف الكتب التي غطت الجدران، ثم أدرْت رأسي ببطء. ولأن المكان كان واسعًا جدًا، ظلت نظراتي تتجول طويلًا حتى توقفت في موضع ما.
على الجدار في وسط المكتبة كانت هناك لوحة. لهاوارد تشيلستون……
وإلى جواره امرأةٌ يقال أنها حبيبته الراحلة، كانت تشبهني تمامًا، وقد ارتسمت على ملامحها سعادةٌ واضحة.
لوحةٌ لا شيء غريب فيها على الإطلاق.
وجود لوحة تجمعه بذكرى حبيبته التي غادرته منذ زمن طويل في منزله، أمر يمكن تفهمه. وعندما أفكر في تلك اللوحة، يصبح من الطبيعي أن تبدو آثار الحياة هنا أكثر من غرفته.
نعم، كل ذلك كان له ما يبرره. لكن لماذا إذًا أشعر بهذا الشعور؟
‘……لا أستطيع أن أتنفس.’
ما إن وقع بصري على تلك اللوحة، حتى أحسست وكأن أنفاسي انقطعت.
ولم يتوقف الأمر عند ذلك. بل جسدي كله بدا وكأنه تجمد، فلم أستطع تحريك حتى إصبع واحد.
وقفت أحدق في اللوحة شاردة، دون أن أجرؤ حتى على الرمش. وسرعان ما احمرّت عيناي.
ثم بدأت الدموع، التي امتلأت بها مقلتاي دون أن أدري، تتساقط قطرةً قطرة. حتى لم أعد قادرةً على السيطرة عليها مطلقًا.
“……مـ، ما هذا. لماذا أنا هكذا.”
تسلل الضعف ببطء إلى ساقي. ولم أعد أقوى حتى على الوقوف، فانقاد جسدي تلقائيًا نحو الأريكة ليجلس عليها منهارًا.
لكن رغم ذلك، بقي بصري مثبتًا على اللوحة.
كانت حزينةً للغاية، مؤلمةً وعذبة إلى حدٍ لا يُحتمل، مليئةً بالحب لدرجة أنني لم أستطع صرف نظري عنها.
بل الأدق، لم أرد أن أصرف نظري.
كنت مدركةً تمامًا أن حالتي غريبة إلى حدٍ مقلق، لكن لم يكن بوسعي فعل شيء. و لم أملك سوى أن أبكي كما لو أن في قلبي حكايةٌ موجعة.
“لِماذا بحق……”
وبينما كنت أنتفض باكية على هذا الحال، وصل إلى مسامعي صوتٌ غامض.
كما لو أن أحدًا يهمس لي.
“أحبكِ.”
“أما زال هذا لا يكفي؟”
“ألا تزالين تجدين حبي لك أمرًا غير منطقي؟”
فانتفضت فزعًا وأدرت رأسي. لكن المكتبة الفسيحة لم يكن فيها أحدٌ سواي.
“قلت لكِ أن المُصاب لا ينبغي أن يهتم بمثل هذه الأمور. هذا كان خياري. لستِ مضطرةً للقلق.”
“توقفي عن البكاء، ريكا. حين تبكين، يفرغ رأسي تمامًا ولا أعلم ما الذي علي فعله.”
مـ، ما هذا؟
هل……جننت فعلًا؟
لو فكرت فيها بعقلي، لوجدتها حالةً مرعبة، لكن الغريب أنني فقط شعرت بالارتباك، ولم يخالطني أي خوف.
لأنني أدركت أن الصوت الذي كنت أسمعه هو صوت هاوارد تشيلستون.
لا، بل بسبب تلك المشاعر الغامرة التي بدأت تتصاعد من أعماق قلبي دون سبب واضح.
“حين تخرجين من لقاء أوديا……هل يمكنكِ تكرري ما قلتِه قبل قليل، لكن بوضوحٍ هذه المرة؟”
وكأنني عثرت للتو على شيءٌ ظللت أتوق إليه طويلًا، أو استعدت أمرًا كنت قد نسيته منذ زمن بعيد.
“قلت لكِ من قبل يا ريكا. أنني أحبكِ كثيرًا.”
“هل أقولها مجددًا؟ إن أردتِ، سأظل أكررها لكِ دائمًا، بلا عدد.”
وفجأة، شعرت بألم في رأسي. وفي اللحظة ذاتها، لم أعد أسمع صوته فقط، بل بدأت أرى أمام عيني المشهد الذي يليق بتلك الأصوات.
امتلأت رؤيتي بشعر ذهبي لامع يخطف الأبصار.
“لا، ليس هذا مهمًا الآن يا ريكا. في الحقيقة……أنا……”
“أنا الآن……حتى هذا الوقت الذي نمضيه في الجدال أراه مضيعة. لا أعرف حتى إن كنت أوصل ما أريد قوله بشكل صحيح.”
“مجرد فكرة أنني قد أفقدكِ إلى الأبد تملأ رأسي بالكامل……حتى يكاد ينفجر. لمجرد تخيل ذلك أشعر برعبٍ هائل. و لا أستطيع التفكير في أي شيء آخر يا ريكا.”
وكذلك تلك العينان الحمراوان اللتان كانتا تنظران إليَّ برقة.
“سأتأكد ألا تكوني وحدكِ أبدًا.”
“آه……”
هكذا إذًا.
هكذا كان الأمر……
تنهدت وأنا جالسة أحدق في اللوحة. ثم نهضت ببطء وتوجهت للخروج من المكتبة.
و تحولت خطواتي المتثاقلة شيئًا فشيئًا إلى عدو مسرع. بينما رمقني أحد الخدم بنظرة مذهولة، لكنني لم أتوقف.
أخيرًا، بدا لي أنني فهمت كل شيء.
و أدركت الآن ما الذي يجب علي فعله.
***
“آه……”
فتح هاوارد عينيه مطلقًا أنينًا خافتًا. فوقع بصره على سقف مألوفٍ و غريب في آنٍ واحد.
كان هاوارد في غرفته الآن. بل الأدق من ذلك، على سريره في الغرفة.
ومع أنه المكان الذي اعتاد استخدامه منذ أن أصبح دوق العائلة، إلا أنه شعر بشيء من الغرابة.
والسبب بسيط، ففي السنوات الأخيرة، ظل يقيم في مكتبته دون انقطاع.
مع ذلك، وجد نفسه ممددًا في الغرفة دون أن يعلم كيف……
‘هل أغمي عليّ مجددًا……؟’
وضع هاوارد يده على جبينه ونهض جالسًا ببطء.
لم يكن فقدانه للوعي بهذه الطريقة أمرًا جديدًا عليه، بل تكرر كثيرًا في الآونة الأخيرة، فلم يكن مستغربًا.
كان هذا نتيجةً جانبية لمواصلته خرق قوانين اللعبة واحدًا تلو الآخر.
وجسده الذي عانى أصلًا من قوة القداسة الجامحة والعقوبات المرافقة لها، لم يحتمل آلامًا تراكمت لسنوات بسبب انقطاعه عن الذهاب إلى المعبد.
ففي كل مرة يصل فيها إلى حدوده، كان ينهار هكذا.
والفرق فقط أن هذه المرة صادف توقيتها الآن. بل إنه كان في حالٍ أسوأ من المعتاد……
“ريكا……”
تمتم هاوارد بينما استعاد أحداث الأمس. واتسعت عيناه فجأة.
ثم تذكّر أنه هذه المرة لم ينهار في قصره. إذ في صباح اليوم، خرج هاوارد إلى الميناء.
فلم يستطع أن يُثقل على ريكا التي قالت أن وجوده يسبب لها الألم، ولم يشأ إلا أن يراها مرة أخيرة……
وهكذا، التقى بريكا، وشاهدها وهي تصعد إلى السفينة.
وكان ذلك آخر ما يتذكره، فلا شك أنه فقد وعيه هناك في الميناء.
‘إذًا……ريكا؟’
استدار هارارد بسرعة وقد انتابته العجلة. فرأى من النافذة السماء تكتسي بحمرة الغروب.
حين أغمي عليه كانت الشمس تشرق، وها هي الآن توشك على المغيب. حتى بحساب تقريبي، لا بد أن أكثر من عشر ساعات قد مضت.
وقت كافٍ لتكون ريكا قد رحلت منذ زمن.
أو……هل أردتُ التأكد حتى أن اليوم لم ينتهِ ويبدأ يومٰ جديد؟
كم مضى من الوقت بحق؟
“سيدي الدوق! هل أفقتَ؟”
دخل كبير الخدم في تلك اللحظة، واقترب مسرعًا. وأخذ يتفحص حال هاوارد بسرعة.
“كيف حالكَ؟ هل أنتَ بخير؟”
كان في نظرته قلقٌ شديد، لكن هاوارد لم يجبه، بل سأل عن شيء آخر على الفور.
“ريكا……أعني، الآنسة فيليشا، أين هي؟”
خرج صوته مشحونًا بالاضطراب. ففهم كبير الخدم فورًا ما الذي يحتاج سيده لسماعه، وأعطاه الجواب الذي ينتظره.
“الآنسة فيليشا، لقد أحضرت سيدي المغمى عليه إلى القصر بنفسها. ثم غادرت القصر مرة أخرى، لكنني لا أعلم إلى أين توجهت.”
“جاءت……ثم غادرت؟”
إذًا لم يبق سوى احتمالٌ واحد. لقد عادت ريكا إلى مملكة بيآتي.
“أنا لست الشخص الذي تظنه يا دوق. لذا، دعنا نتوقف عن اللقاء هكذا. لا، لا ترني مجددًا أبدًا. فهذا هو الصواب.”
“ولا تنادِني هكذا بعد الآن.”
“دوق، أرجوكَ توقف. هذا يجعلني أشعر بغاية الانزعاج.”
لأنها لم تعد ترغب في رؤيته بعد الآن.
ولأنها خابت أملًا فيه إلى حدٍ لم تعد تريد أن تمنحه فرصةً أخرى.
“……آه.”
اجتاح هاوارد شعورٌ عميق باليأس. وكأن أحدهم انتزع قلبه وراح يعصره بين يديه.
حتى إن الوقت لم يحن بعد لتلقي العقوبة، ومع ذلك لم يكن لذلك أدنى أثر مقارنةً بما شعر به حين لفظت ريكا كلمات الفراق، رغم أنه كان مستعدًا لذلك.
“هاها.”
انطلق من بين شفتيه ضحكٌ ممزوج بالمرارة.
و اجتاحه تأنيبٌ شديد على نفسه التي أوصلت الأمور إلى هذا الحد، وترافق ذلك مع إحساسٍ بالحب تجاه ريكا التي رغم كل شيء أقلقها أمره فجاءت به حتى قصره.
‘الآن……حقًا……يجب أن أتركها تذهب.’
فريكا عادت على قيد الحياة. وذاك كان غايته منذ البداية……
وهكذا ظل يكرر ذلك في داخله بجهد حتى يصدق.
إلى أن وصل قرب أذنه ذلك الصوت الذي ظل يحنّ إليه.
“آه، دوق. لقد استيقظتَ!”
______________________
رجعت ذاكرتها صححححححح؟
اخيرااااااااااااا
المهم باقي بس ثلاث فصول على الروايه😔
وهاوارد وريكا اهم شي يرجعون الوعد في الفصول الاضافيه🤏🏻
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 147"