أشرق صباح اليوم التالي.
جلست أمام النافذة الكبيرة في مقر الإقامة أحدق إلى الخارج.
رغم أن الوقت لا يزال باكرًا، إلا أن مواطني إمبراطورية فيدوس قد بدأوا يومهم بالفعل. و كان الناس يتحدثون تحت شمس بدأت بالكاد في الشروق، ووجوههم كلها تنبض بالحيوية والحماس.
‘……أشعر بالغيرة.’
حتى صباح البارحة، كنت أنا أيضًا مثلهم.
خرجت تنهيدةٌ صغيرة من بين شفتي.
وبينما كنت أحدق في الفراغ بتبلد، سُمع صوت طرق على الباب، ثم دخلت الخادمة إلى الغرفة.
“أوه، آنستي! لقد استيقظتِ بالفعل؟”
توقفت الخادمة في مكانها وهي تمسك بمقبض الباب. و كانت عيناها متسعتين من شدة الدهشة.
“ما الأمر؟ أنتِ معتادةٌ على النوم طويلًا، ولم تكوني تستيقظين إلا عندما آتي لإيقاظكِ!”
“هاها، استيقظتُ مبكرًا هذه المرة فحسب.”
ضحكتُ بارتباك وأنا أقول ذلك.
……و في الحقيقة، كنت أكذب.
رغم أنني حاولت النوم، إلا أنني لم أستطع أن أغمض عيني لحظةً واحدة. فقد ظلت مشاعري المتشابكة تعصف بي دون توقف.
نصف تفكيري كان يقول: “لو كنت أعلم أن الأمور ستؤول إلى هذا، لكنت عدت فورًا إلى مملكة بيآتي مع الوفد.”
والنصف الآخر يقول: “لكن، لو لم أقضِ ذلك الوقت مع هاوارد تشيلستون، لكنت ندمت بالتأكيد.”
‘……لا، ليس هذا هو السبب الحقيقي.’
صحيحٌ أن هذه الأفكار راودتني، لكنها لم تكن إلا مجرد أعذار. لأن الشيء الذي لم يغادر رأسي منذ البارحة لم يكن أياً من تلك الأمور.
“ريكا، أرجوكِ استمعي إليّ.”
تلك الحرارة الملحة التي شعرت بها على معصمي،
“لم أفكر أبدًا بهذه الطريقة. أنتِ لست شخصًا يمكن أن يحل محله أحد. فقط…..عرفت ذلك فور رؤيتكِ أول مرة.”
“كنتِ الشخص الذي انتظرته طويلاً، وقد عدتِ إليّ.”
صوتٌ مرتجف كما لو كان يرتعش كأوراق الحور.
“أنا متأكد أنكِ ريكا التي أحببتها. نفس الوجه، و نفس الاسم، وحتى ذلك الجو المشرق الذي كان يحيط بكِ دائمًا ما زال كما هو…..لا تزالين محبوبةً كما كنتِ. وما تحبينه وتكرهينه، لم يتغير أيضًا…..لا، لا، هذا غير منطقي. لا يمكن…..أنا، أنا..…”
“لا يمكن ألا أتعرف عليكِ، أليس كذلك؟”
و عينان حمراوان كانتا تحدقان بي بعمق.
“ريكا، أنا أخطأت. في البداية، كنتُ أظن أن رؤيتكِ من بعيد تكفيني، لكنني أصبحتُ جشعًا. أردت أن أتحدث معكِ مجددًا، ولو للحظة، و أردت أن أراكِ وجهًا لوجه…..لكنني لن أكرر ذلك ثانية. لذا، أرجوكِ..…”
ثم ذلك الوجه الذي انهار بالبكاء في النهاية.
“أرجوكِ فقط لا تقولي أننا لن نلتقي مجددًا.”
كل تلك المشاهد كانت حيةً في ذهني، وكأنني رأيتها للتو.
وفي الوقت ذاته، استمر الألم في صدري وكأن شيئًا ما كان يخنقني.
كنت أختنق. والدموع تسيل من تلقاء نفسها.
لقد كان شخصًا استخدمني من أجل أنانيته، وقد تركته ورحلت، لذا من المفترض أن أشعر بالراحة…..فلماذا أشعر هكذا؟
“إذًا…..سـ…..أذهب..…”
لماذا أشعر بكل هذا الانقباض؟
“……آنستي؟”
كأنني فوّت شيئًا مهمًا جدًا…..
“آنستي!”
جاء صوتٌ عالٍ مفاجئ جعلني أستفيق فجأة. وحين أدرت رأسي، كانت الخادمة واقفةً هناك، تنظر إليّ بوجهٍ مستغرب.
“ما الذي كنتِ تفكرين به؟ لقد ناديتكِ عدة مرات ولم تجيبي ولو مرة.”
“آه، آسفة…..يبدو أنني كنت مشوشةً لأنني استيقظت مبكرًا بسبب يوم العودة إلى المملكة.”
“كنت أعلم أنه سيكون كذلك. لماذا لم تنامي أكثر؟”
“هاها، معكِ حق. على كل حال، ماذا كنتِ تريدين أن تقولي؟”
“آه، بما أن الحقائب جاهزةٌ منذ الأمس، فكرت أن أستأذن إن كان بإمكانكِ الخروج مبكرًا قليلًا. لم تتسنّ لنا فرصة مشاهدة ميناء الإمبراطورية عن قرب. وقلتِ بنفسكِ أنكِ رغم ذهابكِ لأماكن كثيرة، لم تزوري الميناء قط.”
“……صحيح.”
نظرتُ للحظة إلى الأسفل.
و رأيت كاحلي الذي لم يعد يؤلمني على الإطلاق. حتى الضماد كنت قد نزعته منذ زمن.
“حسنًا، إذًا فلنجهز أنفسنا ونخرج.”
شعرت فجأةً بفراغ غريب في صدري.
فراغٌ يكاد يجعلني أبكي.
***
استغرقت جولتنا في ميناء إمبراطورية فيدوس مع الخادمة قرابة ساعتين، ولم نكملها إلا لأن وقت المغادرة كان يقترب.
كان الميناء الإمبراطوري ضخمًا إلى درجة أنه لا يمكن استكشافه في وقت قصير.
وبطبيعة الحال، لم يكن هناك مجال للمقارنة مع ميناء مملكة بيآتي. فشعرت بغرابةٍ وأنا أفكر أنني نزلتُ في هذا المكان حين وصلت إلى هنا.
حين وصلت أول مرة، كنت منشغلةً تمامًا بهاوارد تشيلستون، فلم يخطر لي حتى أن أنظر حولي…..
‘……مرة أخرى، هاوارد.’
كفى، لا بد أن أتوقف عن التفكير فيه.
فهززت رأسي بشدة.
لقد انتهت تلك العلاقة بالكامل. التفكير به لن يجلب لي سوى الألم.
وقد انتهينا بطريقةٍ سيئة بالأمس، فلا بد أن هاوارد لم يعد يرغب برؤيتي مجددًا.
ففي النهاية، هو الرجل الذي بقي بجانبي فقط لأنه كان يشتاق لحبيبته الميتة. و أنا لم أكن أعني له شيئًا حقًا.
لذلك، عليّ أن أنساه بأي طريقةٍ كانت…..
“أنا…..هل سببت لكِ الألم؟”
“هاه..…”
حين عاد مشهد هاوارد إلى ذهني مجددًا، غطيت وجهي بكلتا يديّ.
و بدأ يتصاعد شعورٌ يصعب شرحه في داخلي.
ماذا عليّ أن أفعل؟ لماذا أستمر في هذا؟
“آنستي، يقولون أنه يمكنكِ الصعود الآن. هل تودين الصعود إلى السفينة؟”
“…..نعم.”
وضعت يدي على جبيني وسرت ببطء. وأثناء صعودي إلى السفينة، استدرت لا شعوريًا نحو الميناء، ورأيت شخصًا واقفًا على بُعد مسافة مني.
بشعره الذهبي يلمع. وعيناه الحمراوان واضحتان تمامًا.
‘……هاوارد تشيلستون؟’
هل بدأت أرى أوهامًا الآن؟ فلا يمكن أن يكون موجودًا هنا.
يبدو أن تفكيري به منذ البارحة قد أفسد عقلي تمامًا.
عليّ أن أركب السفينة بسرعة وأرتاح قليلًا.
عدت وأدرت رأسي وأكملت السير. إلى أن قالت الخادمة تلك الجملة،
“يا إلهي،..انظري هناك! أليس ذاك الدوق تشيلستون؟”
إذاً…..لم يكن وهمًا؟
حين عدت ببصري نحو الميناء، كان هاوارد لا يزال واقفًا هناك. و حتى بعدما فركت عيني مرارًا، لم يتغير شيء.
إنه حقيقي. هاوارد تشيلستون كان هناك حقًا.
“يبدو أنه جاء ليودّعكِ، آنستي!”
صرخت الخادمة بحماس. ذلك لأنها لم تكن تعرف السبب الحقيقي وراء قراري بالعودة المبكرة إلى المملكة.
كانت لا تزال تظن أن هاوارد يحبني. لكن كل تلك الأحلام قد تحطّمت منذ زمن.
وبعد أن وصلت إلى هذه النقطة في تفكيري، شعرت أن وجود هاوارد لتوديعي لا يغيّر شيئًا في الأمر.
“لنصعد الآن.”
“نعم؟ ألا تودين الذهاب وإلقاء التحية؟”
“لا.”
أجبتها بإيجاز وأكملت طريقي. وحين وقفت عند مقدمة السفينة، أصبحت صورة هاوارد أوضح من ذي قبل.
و كان هو الآخر ينظر نحوي.
هل هي مجرد أوهام؟ فقد بدت ملامحه شاحبةً بشكل غير مألوف. أكثر من البارحة.
لعلّه لم ينم طوال الليل، مثلي؟
‘و ما شأني أنا بذلك؟’
تنهدت وأنا أدير جسدي مبتعدة. لكن في تلك اللحظة بالضبط، سُمِع صوت غريب من الخلف، وكأنه أمر غير طبيعي يحدث.
وقبل أن أتمكن من تحديد مصدره، صرخت الخادمة بجانبي وقد شحب وجهها تمامًا.
“ا…..الدوق! لقد أغمي عليه!”
فاستدرت بسرعة، وإذا بهاوارد قد فقد وعيه وسقط أرضًا في نفس المكان الذي كان يقف فيه منذ لحظات.
لم يكن برفقته أي خادم، ويبدو أنه جاء إلى هنا بمفرده.
حتى الناس من حوله كانوا في حالة فوضى، لا يعرفون ماذا يفعلون.
…..يا للجنون، حقًا.
“أ-أرجوكم، لحظة فقط! أخروا وقت الإبحار قليلًا!”
عليه أن يُنقَذ أولًا، مهما كان الأمر.
و هذه المرة، ستكون الأخيرة فعلًا.
***
أخذت هاوارد فورًا وتوجهت به إلى قصر الدوق.
ولأنه لم يكن هناك أي أثر لعربة رافقته إلى الميناء، اضطررنا إلى استئجار عربة جديدة.
ولحسن الحظ، كانت العربة التي جئت بها إلى الميناء لا تزال قريبة، فلم يكن الموقف محرجًا جدًا.
وعندما وصلنا إلى قصر الدوق، هرع الخدم إليه وعاونوه على الدخول إلى الداخل. وبشكل طبيعي، تبعتهم حتى أمام باب غرفته.
ولم أستعد وعيي تمامًا إلا بعد أن سمعت من طبيب القصر أن هاوارد يعاني من هذه النوبات من حين لآخر، وأنه سيكون بخير بعد بضع ساعات من الراحة.
آه، ما الذي أفعله الآن؟
‘كنت فقط سأوصله إلى القصر…..لكنني دخلت هكذا دون أن أشعر.’
وبما أن الخدم منشغلون تمامًا، فالأفضل أن أخرج بهدوء دون لفت الانتباه.
درت بجسدي بخفة، وعلى حين غرة، بدأت أُمعن النظر في أرجاء قصر الدوق الذي لم ألحظه جيدًا بسبب عجلتي عندما دخلت.
فشعرت بشعور غريب.
‘لماذا يبدو كل هذا مألوفًا؟’
رغم أنها المرة الأولى التي أزور فيها هذا المكان. أحسست بشيء يشبه الديجافو…..
وأثناء هذا التفكير، وقعت عيني على غرفة كان بابها مواربًا جزئيًا. ومن خلال الفتحة، رأيت رفوفًا مليئةً بالكتب، ما يعني أنها على الأرجح مكتبة أو مكتب.
‘يبدو أن هناك حياةً أكثر في هذه الغرفة من غرفة النوم.’
كان من المفترض أن أتابع طريقي، لكن قدماي لم تتحركا.
حتى جسدي كله كان يصرخ بي بيأس، “ادخلي هذه الغرفة. فورًا.”
___________________
بتشوف الصوره! قولوللولولولووووووووش😭
ياعمري هو تجيه نوبات فجأه يا حلال الله🫂
المهم المؤلفه ياويلها تختم وريكا رجعت ذاكرتها لا ابي فصول زياده لرخصهم ثم العرس ثم الختام
ثم فصول اصافيه للعيال😘
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 146"