“أريد العودة إلى المملكة، يا دوق.”
ساد صمتٌ قصير بعد كلامي. و بالطبع، لم يكن ذلك ما حدث فعليًا.
لم يكن بيني وبين هاوارد أي كلام، لكننا كنا في وسط حي أوفيلين المزدحم، يعبره آلاف الناس كل يوم. ومع ذلك، شعرت وكأن المكان هادئٌ تمامًا.
لفّ صمتٌ خانق جسدي كله.
“ابتعدوا قليلًا جميعًا.”
قال هاوارد ذلك بصوت خافت بعد أن ظل ساكنًا. فنظر الخدم إلى بعضهم يتبادلون النظرات، ثم انسحبوا بسرعة.
اختفوا بين الناس حتى إنني بالكاد أراهم.
وحين التفت مجددًا، كان هاوارد لا يزال جاثيًا على إحدى ركبتيه ينظر إليّ.
“ما بكِ ريكا؟ هل حدث شيء؟”
ثم سألني هاوارد وهو يتفحصني. و كان يبدو عليه الارتباك الشديد.
حدقت في ذلك الوجه الجميل الذي لا يحاول حتى إخفاء قلقه، ثم زفرت زفرةً صغيرة.
كان بإمكاني قول الحقيقة، لكن لساني عجز عن النطق بها.
ألم يكن هاوارد تشيلستون قد قضى ثلاث سنوات حبيسًا في دوقيته قبل أن يخرج مؤخرًا؟
ماذا لو كان بالكاد يصارع ليعيش، ثم سببت له أنا مشكلةً جديدة؟ لم أكن أريد لذلك أن يحدث.
وكان هناك أيضًا شيءٌ من كبريائي.
هذا الرجل اعتبرني بديلة، ولم أرد أن يعلم أنني، في لحظة قصيرة، صدّقت ذلك.
“لا شيء.”
“لا شيء؟ قبل أن أغيب عنكِ لم تكوني هكذا. كوني صادقة. ماذا حدث في تلك الأثناء؟”
أمسك هاوارد برسغي برفق. و بدا وكأنه يفكر في شيء،
“……هل الأمر بسبب ذلك الشخص الذي تحدثتِ معه قليلًا؟ ماذا قال لكِ ذلك الرجل؟”
كيف عرف؟
أملت رأسي متعجبة، لكن سرعان ما تذكرت ما قلته.
“لا. لا بأس. التقيت صدفةً بشخص آخر وتحدثت معه قليلًا.”
……يا لي من حمقاء. لمَ تفوهت بكلام لا داعي له؟
“من كان؟”
“هذا ليس مهمًا الآن……”
“حتى لو رفضتِ إخباري، هناك طرقٌ كثيرة لأعرف. يمكنني مثلًا سؤال الخدم الذين كانوا بقربكِ أثناء حديثكِ معه.”
وأشار هاوارد بعينيه نحو الحشود. فتنهدت من تلقاء نفسي.
بهذا، لم يعد هناك مجالٌ لإخفاء الأمر. فخدم عائلة الدوق لن يراعوا شأني على حساب سيدهم هاوارد تشيلستون.
“التقيت جلالة الإمبراطور. كان يقوم بجولةٍ تفقدية.”
“……ماذا؟”
فشحبت ملامح هاوارد تمامًا. و يبدو أنه أدرك الموقف فور سماعه أنني التقيت فريدريك، حتى أن كل محاولاته المستميتة لإخفاء الأمر صارت بلا جدوى في لحظة.
“جلالته ناداني بـ‘الآنسة إيفريت’.”
استسلمت أخيرًا وأخبرته. عندها، اضطربت عيناه الحمراوان وهما تحدقان بي.
“ريكا، هذا……أعلم تمامًا ما الذي تفكرين فيه الآن. لا بد أنكِ مصدومةٌ ومرتبكة. لكن صدقيني، الأمر ليس أبدًا كما تتخيلين.”
“ماذا تظن أنني أفكر به؟”
“أني كنتُ.….”
توقف هاوارد عن الكلام. ثم بعد لحظة، خرج ما تبقى من كلماته بصوتٍ خافت.
“……أني كنت أستغلكِ طوال ذلك الوقت.”
لم أنكر ما قاله. سواءً فعل ذلك عن قصد أو دون أن يشعر، فالنتيجة لم تكن لتتغير.
“كلامكَ صحيح يا دوق.”
ظللت أحدق في معصمي الذي لا يزال ممسكًا به. و كانت حرارة جلده ما تزال دافئة.
وذلك جعل الأمر أشد إيلامًا.
“هل أدركت الآن لماذا أريد العودة إلى مملكتي؟”
“ريكا، أرجوكِ اسمعيني.”
و اشتد ضغط يده على معصمي.
“لم أفكر أبدًا بتلك الطريقة. أنتِ لستِ شخصًا يمكن لأحد أن يحل محله. فقط……منذ اللحظة التي رأيتكِ فيها، عرفت ذلك على الفور.”
“عرفتَ ماذا؟”
“أن الشخص الذي كنت أنتظره قد عاد إليّ.”
قال هاوارد ذلك بوجه يائس. ولمستُ في صوته ارتجافاً خفيفاً.
“أنتِ بالتأكيد نفس ريكا التي أحببتها. ملامحكِ واسمكِ كما هما، وحتى إشراقتكِ لم تتغير……ما زلتِ فاتنةً كما كنتِ دومًا. حتى ما تحبينه وتكرهينه لم يتبدل……لا، هذا غير منطقي. أنا، أنا……”
“….…”
“لا يمكن ألا أتعرف عليكِ، صحيح؟ أليس كذلك؟”
كانت عينا هاوارد محمرتين، وكأنه كاد يبكي، وهو يفرغ تلك الكلمات دفعةً واحدة، وكأنها خرجت من فمه بلا وعي، لا بعد تفكيرٍ طويل.
لأنه الآن بدا كمن فقد صوابه. وإلا، فهل كان ليكشف عن ضعفه بهذا الشكل في منتصف طريق يعج بالناس؟
‘خدم عائلة الدوق يمنعون أحدًا من الاقتراب، لذا لن يسمعوا محتوى الحديث، لكن لا بد أنهم يدركون الوضع عمومًا……’
انتشار شائعةٍ كهذه، بأن رمزًا من رموز إمبراطورية فيدوس جثا على ركبتيه متوسلًا أمام ممثلة وفد مملكة بيآتي، لن يكون في صالح هاوارد تشيلستون.
ولا شك أنه كان واعيًا لذلك. ومع ذلك، فعلها.
كم يا ترى كانت ريكا تلك غاليةً عليه ليُقدم على هذا؟
هل سيكون شعور من يتلقى حبًا بهذا القدر، عظيمًا إلى حدٍ يخنق الأنفاس؟
شعرت فجأةً بالغيرة من تلك التي رحلت عن هذا العالم.
‘…..بل وأشد بؤسًا أيضًا.’
حين يتصرف هاوارد هكذا، ألن يصبح الأمر واضحًا تمامًا؟ أنني لست سوى صورة حبيبته الراحلة في عينيه.
كدت أبكي، فتنفست بعمق.
“صحيحٌ أننا لا نزال نملك أسبوعًا على الموعد المحدد، لكن أعتقد أن بقائي هنا لم يعد ممكنًا. هل يمكنكَ تجهيز السفينة التي وعدتني بها من قبل لتعود بي إلى المملكة؟”
“…..حقًا، ألا تتذكرين شيئًا إطلاقًا؟”
“يا دوق.”
ناديت هاوارد بهدوء. فنظر إليّ بسرعة، يائسًا كي تلتقي نظراتنا.
“أنا لستُ الشخص الذي تظنه. لذا، لنلتزم بهذا القرار…..لن نلتقِ مجددًا. بل، لن نرى بعضنا أبدًا بعد الآن. فهذا هو الصواب.”
“لا، ريكا. أنتِ..…”
“ولا تنادني هكذا.”
أبعدت معصمي ببطءٍ من يد هاوارد. كان ذلك كل ما فعلته، ومع هذا بدا عليه وكأنه تلقى صدمةً مميتة، كمن سمع للتو حكمًا بالإعدام.
فمد يده إليّ كالغريق الذي يتشبث بطوق نجاة.
“ريكا، لقد أخطأت. في البداية كنت أريد فقط أن أراكِ من بعيد، لكنني طمعتُ كثيرًا. تمنيت لو أستطيع التحدث إليكِ حتى ولو قليلًا، أن أرى وجهكِ عن قرب…..لن أفعل ذلك مجددًا. لذا، أرجوكِ..…فقط لا تقولي إنك لا تريدين رؤيتي مجددًا.”
قطرة-
سقطت دمعةٌ من عيني هاوارد التي كانت ممتلئةً بالدموع.
رؤيته هكذا جعلت قلبي ينقبض، وكأنني حقًا حبيبته التي فقدها.
‘آه، هذا أقصى ما أستطيع تحمله.’
لم أعد أحتمل أكثر.
“يا دوق، توقف. هذا يسبب لي إزعاجًا كبيرًا.”
عندها توقفت حركة هاوارد. حتى شهقاته الصغيرة وبكاؤه، وحتى يده التي كانت تمتد نحوي.
كأن العالم كله تجمد.
“هل…..سببت لكِ ألمًا؟”
ثم خرج همسٌ ضعيف من بين شفتي هاوارد. لكنه بدا واضحًا جدًا في أذني.
كان وجهه مشوهًا من شدة تأنيب الذات. فشعرت بانقباض في قلبي، لكنني أومأت. إذ لو لم أفعل، لما استطعت الخروج من هذه الدوامة.
“نعم، لذا أرجوكَ، دعني أرحل الآن.”
انخفض رأس هاوارد قليلًا إلى الأسفل. وكذلك يده التي كانت معلقةً في الهواء، هوت معه.
ظل هكذا لحظة، ثم تمتم بصوت خافت،
“لا يجب…..أن أؤلمكِ مجددًا. لقد تألمتِ بسببي كثيرًا، لا يمكن أن أكرر الشيء نفسه….. لا يجب أن يتكرر هذا مهما حدث.”
وبعد همسه القصير، رفع هاوارد رأسه من جديد، وقد بدا وجهه مستقرًا إلى حد كبير. و لولا آثار الدموع على وجنتيه واحمرار عينيه، لصدقت أنه لم يحدث شيءٌ أبدًا.
“حسنًا، فهمت. سأجهز لكِ السفينة التي ستعودين بها إلى مملكة بيآتي. ارتاحي اليوم، وسننطلق صباح الغد.”
لكن ذلك زاد ألمي أكثر.
لأن النظرة في عيني هاوارد الآن جعلتني أشعر أن بكاءه كان أهون عليّ من هذا.
____________________
حالهم بائس 😭😭😭
ليتها تتذكر قبل تروح منب قاعده انتظر تتذكر ثم ترجع
ثم تخيلوا هاوارد يىْتحر وترجعه اللعبه وهو بعد فاقد الذاكره😭😭😭😭😭
لو تسويها المؤلفه ياويلها
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 145"