“…..ألا يُعتبر هذا مجرد موعدٍ غرامي؟”
توقفت شفتاي عن الثرثرة عند كلمات الخادمة. ومن خلال المرآة رأيت وجهي المصدوم بوضوح، و لا يمكن لأي أحد أن يخطئ في ملامحي المربكة.
اهتزت عيناي الزرقاوان كما لو كان زلزال قد ضربهما.
وحين لاحظت احمرار وجنتيّ، نهضتُ فجأة من مقعدي وكأنني لم أكن صامتةً قبل لحظة.
“مـ-موعد غرامي؟! أي هراءٍ هذا؟!”
“أوه، آنستي! لا تنهضي فجأةً هكذا! شعركِ سينقطع!”
“لأنكِ قلت شيئًا غريبًا وغير معقول!”
سقط جسدي المرهق مجددًا على الكرسي.
نعم، نعم. هذا كلامٌ لا يُصدق.
موعد؟ بيني وبين هاوارد تشيلستون؟
كم من الوقت مضى على معرفتنا ببعض أصلاً، يا للعجب.
كنت أحاول تهدئة قلبي المضطرب، لكن الخادمة، سواءً كانت تدري أم لا، تابعت بإصرار.
“لكن اسمعيني، سموكِ. حتى لو قلنا أنكما تتقابلان فقط من أجل تبادل المعرفة بين بلديكما، فقد مرّ الآن ثلاثة أسابيع وأنتما تلتقيان بمفردكما.”
“هـ-هذا صحيح، لكن..…”
“خلال ذلك ذهبتم إلى مقهى، وإلى المسرح، وحتى تسوقتم في أكبر سوق في أوفيلين، أليس كذلك؟ وماذا عن اليوم الذي قضيتماه بالكامل في المهرجان؟ أليست كل هذه من أشهر أنشطة المواعدة؟ بل دعينا من كل ذلك، مجرد أنكما سافرتما معًا هو بحد ذاته أمرٌ غير عادي.”
“السفر كان…..لأني لم أرَ الثلج من قبل فقط.”
“بصراحة، هذه مجرد حجة! وأنتِ قلتِ بنفسكِ أنكِ لم تذكري له هذا الأمر إلا لاحقًا. آنستي، أي رجل يهتم بسفر طويل ومجهد مع امرأة لا يهتم بها؟! والأسوأ، أنه لم يصطحب معه سوى عدد قليل جدًا من الخدم!”
“ذلك لأنه قال أنه لا يحب الضوضاء حين يتحرك..…”
“آنستي، هل تصدقين ذلك فعلًا؟ أن الدوق تشيلستون لا يحمل أي نيةً خفية؟”
بلعت ريقي بتوتر لا أعرف سببه. و لم أستطع أن أرد على كلام الخادمة.
لأنني، في أعماقي، كنت أظن أن هناك شيئًا غريبًا أيضًا. فكل شيء، من أوله إلى آخره، كان كذلك.
حتى لو لم يكن لدينا سوى شهر، ألا يُعقل أن نلتقي كل يوم دون انقطاع؟ وحتى أماكن اللقاء، كلها أماكن يقصدها الأحباء عادةً.
ويأتي كل مرة ليصطحبني من السكن، ويعيدني بعد انتهاء اللقاء.
ويعاملني بلطف وكأني شيءٌ هش قد يتطاير مع الرياح. ولا يطلب مني القيام بأي أمر مرهق.
وفوق كل ذلك…..
‘كان ينظر إليّ…..بلطفٍ شديد.’
تلك العينان الحمراوان اللتان تنحنيان برقة.
رغم أنني تلقيت عدة اعترافاتٍ من قبل، إلا أنني لم أُحدّق قط في نظراتٍ مثل تلك في حياتي.
حين كان هاوارد تشيلستون ينظر إليّ بتلك الطريقة، كنت أشعر أنني أثمن شخص على وجه الأرض.
سيكون من الكذب إن قلتُ أنني لم أشعر بشيء تجاه تلك النظرات.
كيف يمكنني أن أبقى غير متأثرة، وهو شخصٌ بهذا الجمال يعاملني بكل ذلك الحنان؟
لكنني، رغم ذلك، كنت أحاول إنكار كل ذلك باستمرار، فقط لأن الأمر بدا غير منطقيٍ تمامًا.
فهو ليس فقط ابن عم الإمبراطور الحالي الوحيد في إمبراطورية فيدوس، بل أيضًا قائد فرسان الهيكل صاحب القوة المقدسة الأقوى، والبطل الذي أنقذ الإمبراطورية من ملك الشياطين.
شخصٌ بهذا المجد…..يختارني أنا؟
‘كأنه حلم.’
بالطبع، لم أظن يومًا أنني بلا قيمة.
فأنا أمتّ بصلةٍ إلى العائلة الملكية في بيآتي، وسمعت كثيرًا أنني جميلة، كما أنني أملك ثروةً لا يُستهان بها.
لكن رغم كل شيء، لم أكن ساذجةً لدرجة أظن فيها أن هاوارد تشيلستون قد فقد صوابه ووقع في حبي.
كنت أمتلك ما يكفي من الموضوعية لأحكم بذلك.
“لا تتحدثي بهذا الشكل خارجًا، فهمتِ؟ بعد أسبوع واحد فقط، كل هذا سينتهي.”
“تشه، فهمت.”
ردّت الخادمة وهي تمط شفتيها بضيق.
وحين عادت لتصفيف شعري بهدوء، تنفست أنا تنهيدةً خفيفة من الارتياح، متظاهرةً بأن قلبي لا يزال غير مضطرب.
***
في اليوم التالي، وقت الغداء. جاء هاوارد ليأخذني من أمام السكن كما اعتاد دائمًا.
كانت عربة دوقية تشيلستون الفاخرة تقف هناك، لكن من نزل منها ليصطحبني كان أكثر تألقًا منها.
سرت معه تحت حمايته إلى وجهتنا لهذا اليوم.
كانت المحطة الأولى مطعمًا شهيرًا في أوفيلين. بدا أنه قد حجز مسبقًا، فبمجرد أن رأى الموظفون وجهه، اصطحبوه مباشرةً إلى غرفة داخلية.
وبينما كنا نتحدث، بدأت الأطباق تُقدّم تباعًا، وكلها كانت لذيذةً كما يشتهر بها المكان.
وكان هاوارد يراعي طوال الوقت أن لا أترك شيئًا دون أن أتناوله.
و عندما حان وقت تقديم شريحة اللحم، أظهر اهتمامًا لم أكن أتوقعه.
“خذي، استخدمي هذا.”
قطع اللحم من أجلي بطريقةٍ يسهل أكلها، ثم أخذ طبقي الذي لم أبدأ فيه بعد، ووضع طبقه المقطّع أمامي بدلًا عنه.
رغم أن تصرفاته لم تكن غريبةً بالنظر إلى سلوكه المعتاد، إلا أنني شعرت بالارتباك هذه المرة.
و فجأة، تذكرت حديثي مع الخادمة بالأمس.
“…..ألا يُعتبر هذا مجرد موعدٍ غرامي؟”
“آنستي، هل تصدقين ذلك فعلًا؟ أن الدوق تشيلستون لا يحمل أي نيةٍ خفية؟”
“…..شـ، شكراً لك.”
تماسكي، ريكا فيليشيا. إن فقدتِ صوابكِ، فستكونين قد جننتِ تمامًا!
وبينما كنت أوبّخ نفسي في داخلي، حاولت التماسك والتركيز على تناول الطعام بهدوء. وبفضل جهودي المضنية، لم يحدث ما يدعوني لأن أحمرّ خجلًا.
أي، حتى انتهينا من الطعام وهممنا بمغادرة المطعم.
“سنذهب الآن إلى ضفة البحيرة، صحيح؟”
“نعم، إنها في غاية الجمال، يمكنكِ التطلع إليها بحماس.”
“واو، أشعر بالحماس فعلاً…..آه!”
كنا ننزل درج المطعم ونحن نتحدث، لكنني، بسبب عدم انتباهي، تعثرت. ففقد جسدي توازنه وبدأ يميل تدريجيًا، واهتز بصري على نحو خطر.
أغمضت عيني بقوة تحسبًا للألم القادم، لكن بدلًا من الإحساس بالوجع، أحاط بدني دفءٌ لطيف.
ثم فتحت عيني ببطء، فوجدت هاوارد يحتضنني. و كان ينظر إليّ بقلقٍ بالغ.
“هل أنتِ بخير، ريكا؟”
سأل هاوارد بسرعة. وعيناه تتفحصان جسدي في توتر ظاهر، وقد شحب وجهه تمامًا، كما لو أن كارثةً كبرى قد وقعت.
“أعتقد أنكِ اصطدمتِ بكاحلكِ.”
امتدت يده الكبيرة لتلامس وجنتي.
لمسته كانت طبيعيةً للغاية، كما لو أنها مألوفةً منذ زمن، أو كأنني تخيلت هذا المشهد من قبل مرارًا.
نظرات القلق لم تفارق عينيه للحظة، حتى أن المارة أمام المطعم توقفوا لينظروا إلينا.
“أ، أنا بخير! فقط اصطدمت به قليلًا، لا أكثر!”
لوّحت بيدي بسرعة وأنا أقول ذلك.
لكن ما فعلته لم يكن ذا جدوى. فهاوارد، الذي كان يحدّق بوجهي وكاحلي بقلق لا ينقطع، انسحب خطوةً إلى الوراء وقد بدا عليه الحزم.
“ابقي هنا. سأذهب فورًا لأجلب لكِ دواءً.”
أجلسني على مقعد أمام المطعم، ثم استدار بسرعة واختفى عن الأنظار.
كان سريعًا جدًا، حتى إنني لم أتمكن من منعه.
“إنه يؤلمني قليلًا، لكن ليس لدرجة أنني لا أستطيع المشي…..”
ما الذي يدعوه لكل هذا التهويل؟
نظرت نحو الاتجاه الذي اختفى فيه هاوارد، ثم خفضت رأسي. و كان وجهي يشتعل خجلًا، فلم أستطع الجلوس بهدوء.
…..ما هذا حقًا؟
‘هل يعقل أنه…..يحبني فعلًا؟’
وإلا، فلا يمكن تفسير تصرفاته هذه.
من يتصرف بهذا الشكل مع شخص تجمعه به علاقة عمل فقط؟
الخدم واقفون إلى جانبه، وكان بإمكانه ببساطة أن يطلب منهم جلب الدواء، فذلك أيسر من أن يركض بنفسه. لكنه تصرف وكأنه لا يملك حتى رفاهية التفكير في ذلك…..
‘مصيبة.’
الفكرة التي ترسخت في رأسي لم تخرج منه. و قلبي بدأ ينبض بعنف، وراودني شعورٌ وكأن نسمة هواء خفيفة تدغدغني بلا توقف.
ماذا أفعل؟
كنت على وشك أن أسأل هاوارد بنفسي حتى.
‘هل…..تحبني؟’
وهل هذا هو السبب في أنكَ طلبت مني البقاء في الإمبراطورية فترةً أطول؟
عضضت شفتي في ارتباك، وقد شعرت كأن جسدي يطفو في الهواء من الخفة.
لكن في تلك اللحظة بالضبط، شعرت فجأةً بيد غريبة تمسك بذراعي، وصوتٌ مجهول يهمس في أذني،
“…..الآنسة إيفريت؟”
__________________
اااااااااا فيه احد عرفها غير هاوارد قولوللووووووش
بس من؟ فيليب؟
هاوارد ياعمري عليه 😭 تكفون رجعوا ذكريات ريكا بصييح
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 143"