انتهت المعركة مع ملك الشياطين، وسرعان ما تم احتواء الوضع.
واصل بعض فرسان الهيكل البحث، لاحتمالية وجود وحوش أخرى قريبة. أما من تبقى من الفرسان، فقد أتموا إجلاء من كانوا في الممرات تحت الأرض.
رغم اختفاء ملك الشياطين وسائر الوحوش، فقد تمنى البعض الصعود مجددًا إلى جهة المذبح، لكن ذلك الطلب رُفض سريعًا.
فالمبنى نفسه كان قد تضرر بشدة، وكان هناك خطرٌ من انهيار الأنقاض المتبقية. ولتفادي وقوع المزيد من الضحايا، لم يكن هناك خيارٌ سوى اتخاذ ذلك القرار.
وبعد أن هدأت الفوضى إلى حد ما، خيّم جو أشبه بالاحتفال.
موت ملك الشياطين، الذي كان صداعًا مزمنًا لإمبراطورية فيدوس لفترة طويلة، منح الناس طمأنينةً فاقت التوقع. حتى أن موت الإمبراطور، الذي كان يُشتبه في كونه مهرطقًا، لم يعد يهمهم كثيرًا.
وبالطبع، لم يكن من الممكن الاطمئنان تمامًا، إذ لا بد أن بعض الوحوش دخلت إلى المذبح.
لكن على الأقل، مثل ما كان يحدث مؤخرًا من هجومها بأعداد هائلة، لن يتكرر بعد الآن. وذلك وحده كان كافيًا ليجعل هذا العالم يبدو مسالمًا.
وقد ساهم في تعزيز هذا الشعور سماعهم بأن من قضى على ملك الشياطين هو هاوارد بنفسه. فلم يكن هناك مجالٌ للشك في صدق ذلك.
“هاوارد تشيلستون كما هو متوقعٌ منه.”
“قائد فرساننا البارع.”
“البطل الذي أنقذ الجميع.”
كان الجميع يهتف باسم هاوارد. و تمنوا أن يخرج أمام الناس ويُظهر لهم بطولته، وأن ينال إعجاب الجميع.
لكن، هاوارد تشيلستون، بطل كل هذا الاهتمام، لم يظهر لا في اليوم التالي، ولا في الذي بعده.
و حتى لا يُستغل جسد بروتور لأي غرض آخر، تخلّص منه ثم عاد بعد بضعة أيام، وهو يجرّ قدميه في ممرات المعبد بلا حيلة.
لم يكن له هدفٌ معين. لقد قادته قدماه إلى هناك بشكل تلقائي، نتيجةً للحياة الطويلة التي قضاها كشخصية غير قابلة للعب.
لم يكن يعلم ما الذي يجب عليه فعله من الآن فصاعدًا. ولا حتى ما الذي يريده هو نفسه.
“أحبكَ……”
“شكرًا لكَ، حقًا. في ذلك اليوم……لقد كان من الجيد أنني أتيتُ إلى أوفيلين. لقاؤكَ من جديد……كان نعمةً فعلًا.”
هذه الكلمات التي نطقت بها ريكا وهي تعصر آخر ما تبقى لديها من قوة.
تلك الكلمات كانت تدور في رأس هاوارد بلا توقف، تمزقه من الداخل.
كان يشتاق إلى ريكا حد الألم. و كان يريدها بشدة حتى كاد يموت من الحنين.
حاول أن ينام لعلّه يراها في الحلم، لكنه لم يكن محظوظاً كفاية. فلم يكن النوم يواتيه.
وإن غلبه النعاس فجأةً وسقط في غفوة قصيرة كالمغمى عليه، لم تظهر له ريكا أبدًا. ولا حتى شعرةً واحدة من شعرها.
كان يظن أنه إن رأى ولو القليل من بياض شعرها، فقد تهدأ روحه قليلًا. و لربما يتمكن من الاستمرار في العيش.
‘……ألستُ مرغوبًا لديها؟’
لأني لست الرجل القوي الذي كانت تظنّه.
و لأنني بعد مرور كل هذه الأيام، ما زلت أبدو بهذا الشكل البائس، فربما أصبحت تشمئز من رؤيتي.
لكنني كنت هكذا دومًا في الأصل……
“أشتاق إليكِ، ريكا……”
حتى وإن كان من بعيد، لا بأس. أرجوكِ، فقط مرةً أخيرة، لمرةٍ واحدة فقط.
لا تزال هناك الكثير من الكلمات التي لم تسنح لي الفرصة لقولها.
سرعان ما احمرت عيناه وامتلأت بالدموع، وانهمرت دموعه كالشلال.
و رغم أنه ظل يبكي كلما سنحت له الفرصة خلال الأيام الماضية، إلا أنه كان من المدهش أن دموعه لم تجف بعد.
لم يعد هاوارد قادرًا على التحمل، فرفع يده ليغطي بها عينيه. وزفر تنهيدةً طويلة……
“سيدي القائد.”
ثم جاءه صوتٌ مألوف من الخلف. و حتى دون أن يلتفت، كان يعلم من هو.
لقد كان فيليب، الذي خدمه لسنين طويلة تمامًا كليون.
حين استدار هاوارد نصف استدارة لينظر إلى فيليب، تردد الأخير بعدما رأى ملامح وجهه.
و اهتزّت عينا فيليب كما لو أن زلزالًا قد ضرب قلبه.
“هاه……”
تنهّد فيليب بخفوت، وارتسمت على وجهه ملامح الألم. ثم انحنى بعمق، وملامحه توحي بأنه على وشك البكاء.
“أنا آسف……سيدي القائد.”
“.……”
“أنا حقًا آسف.”
كان اعتذاراً خرج فجأةً دون أي مقدمات أو تفسير. لكن هاوارد لم يسأل فيليب عن الأمر.
بل الأدق، أنه لم يكن يملك القوة الكافية لذلك.
رفع فيليب رأسه من جديد، وعضّ على شفتيه كما لو كان يحاول كبت شيء، ثم أسرع يتابع الحديث وكأنه يفهم حال هاوارد.
“أنا……أنا من قتل الآنسة إتفريت.”
“لا، لم تكن أنتَ من قتل ريكا.”
ردّ هاوارد فورًا. فقد اختارت ريكا الموت بنفسها.
لا، ليس كذلك. بل هو من دفعها إلى اتخاذ ذلك القرار.
هو، دون سواه.
لأنه لم يكن جديرًا بالثقة، ولأن تلك الفتاة اللطيفة أرادت أن تحميه رغم كل شيء، حتى وهو على هذه الحال.
“أنا من جعلها تموت. هذه هي الحقيقة.”
“لا، ليس كذلك!”
هزّ فيليب رأسه بسرعة، و بانفعال.
“هذا غير صحيح أبدًا. أنا……أنا من قتل الآنسة. أنا المسؤول. لقد كنت السبب في أن تتصرف بهذه الطريقة……لقد حاصرتها حتى لم تعد تملك خيارًا آخر.”
نظر هاوارد إلى فيليب بصمت. وحينها فقط، أدرك الحقيقة التي لم يكن يعلمها.
فيليب كان يعرف هوية ريكا منذ البداية.
“بالتأكيد لم يرَ ذلك. فحين دخل نائب القائد إلى المكتب، كنت واقفةً بجهةٍ مائلة نحو الباب، لذا لم يكن بمقدوره رؤية ماتحت كتفي. وأيضًا لم يكن لديه وقتٌ ليراني. فقد كانت العلامة على عنق الآنسة آفلز واضحة جدًا، وكان مشغولًا بمحاولة السيطرة عليها.”
“حين أمسك نائب القائد بالآنسة آفلز، سقط منها زيّ الكهنة، فالتقطته فورًا وارتديته فوق ملابسي المبللة. و قماشٌ زي الكهنة لم يكن رقيقًا لدرجة أن يُظهر ما تحته لمجرد أنه مبتل.”
هذا……كان كذبًا إذًا.
‘لماذا لم أُدرك ذلك في حينه؟’
كان ذلك القلق الذي شعرت به وقتها حقيقيًا، كان يجب أن أتمسك بها وأستمر في الشك.
كان يجب أن أسلك كل الطرق مع ريكا.
أنا، ما دام الطريق بصحبتكِ، فلم يكن ليهمني أي دربٍ نسلكه.
“……الآنسة وصلت إلى تلك الحال بسببي. كنت أضغط عليها باستمرار كي تجد حلًا لهذا الوضع بأي وسيلة……لا أعلم من أين حصلت على ذلك السم، لكنني جعلتها على تلك الحال، وبلا شك، كان تحذيري هو السبب في ما حدث.”
لم يكن من الضروري معرفة التفاصيل، فالأمر كان واضحًا. لا بد أنها اشترته من خلال نظام اللعبة.
مثل ذلك السم القاتل لا يُباع بسهولةٍ في الأسواق. أما المال، فبإمكانها جمعه متى ما شاءت، ما دامت تبيع ما بحوزتها……
لكن، هذا كله لم يكن مهمًا الآن. فحتى لو عرف كل شيء، لن تعود ريكا.
هذه هي الحقيقة.
“……أريد فقط أن أرتاح، يا فيليب.”
قال هاوارد ذلك وهو يدير ظهره، دون أن ينتظر جوابًا. ولم يحاول فيليب منعه.
وبينما كان هاوارد يسير بلا وجهة، وجد نفسه يقف أمام مكتبه.
فتح الباب ودخل، وما إن خطت قدماه إلى الداخل، حتى لفت انتباهه شيء ما. زهرة شقائق النعمان التي كانت موضوعةً على المكتب، تتلألأ تحت أشعة الشمس.
“آه……”
اندفع هاوارد نحو المكتب على عجل.
زهرة شقائق النعمان التي كان هاوارد قد صبّ فيها قواه المقدسة حتى صارت بيضاء، عادت الآن إلى لونها الأصلي.
حبٌ لا يمكن تحقيقه.
حبٌ عبثي.
ذلك اللون القرمزي الذي لطالما ارتبط بكل المعاني البائسة.
ولم يكن ذلك كل شيء. فقد كانت الأيام الماضية مزدحمةً للغاية، ولم تسنح له الفرصة لزيارة المكتب، وحتى إن فعل، فقد كان مشغولًا دومًا، فلم يجد الوقت للعناية بالزهرة.
فذبلت تمامًا، وصارت باهتةً وبلا حياة. ولم يبقَ منها سوى بضع بتلاتٍ يابسة تنتظر قدومه.
وكان مظهرها وكأنه يقول لهاوارد بصوت خافت،
“مهما حاولت……فهذه هي النهاية التي كتبها القدر لنا.”
“أحبكَ……”
“آه……”
ترنّح هاوارد ثم احتضن المزهرية بشدة. وانتزع من بين شفتيه المطبقتين صرخةً مكتومة.
ثم سقطت دموعه فوق زهرة شقائق النعمان التي انتهى عمرها.
وظل على تلك الحال دون أن يتحرك. حتى بعدما غابت الشمس خلف النافذة.
ولفترةٍ طويلة جدًا.
***
ثم، مرّ الزمن بسرعة.
العرش الإمبراطوري الذي شغر، ورثه الأمير الوحيد، فريدريك. وقد تقرر من خلال مجلس النبلاء أن تُعاونه الإمبراطورة في الحكم حتى يبلغ سنًّا كافيًا.
وذلك كان ممكنًا بعد أن أثبتت التحقيقات أن كل ما حدث حتى الآن كان من تدبير ماركوس وحده.
أما الموالون للإمبراطور، فبعد مقتل بروتور، الذي كان ملك الشياطين، لم يستطيعوا إخفاء علاماتهم، وكُشف أنهم جميعًا من الهراطقة.
أما أولئك الذين عاشوا طويلًا وهم يخفون هذه الحقيقة، فقد أُعدموا جميعًا.
ولأنهم فقدوا الدعم الذي كانوا يعتمدون عليه، لم يكن هناك من يقاوم، فسار تنفيذ الأحكام بسلاسة.
وقبيل إعدام سيرديا آفلز، بدأت تصرخ مدعيةً أن ريكا إيفريت أيضًا كانت من الهراطقة، لكن كلماتها اعتُبرت هذيانًا فارغًا.
فوفقًا لما صرّح به نائب قائد فرسان الهيكل، فإن ريكا إيفريت كانت من الأبطال الذين ضحّوا بأنفسهم لهزيمة ملك الشياطين.
وهكذا، بدأت الحادثة التي هزّت الإمبراطورية تصل إلى نهايتها.
وأما البطل الآخر، هاوارد تشيلستون، فـ……
_______________________
فـ؟؟ تمفى لا تىْتحر ريكا بترجع يمكن لو بالغلط دام ذا العالم لعبه😭
يعني لعبه سوو ريسيت للشخصيه وخلاص 😔
ودي اضم هاوارد 🫂
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 135"