“ألا يمكن أن نبقى معًا هذه الليلة؟”
كانت جملةً خرجت بشكل متهور بعض الشيء. و حتى أنا صُدمت من طلبي هذا فارتجف جسدي لا إراديًا.
ويبدو أن هاوارد لم يكن مختلفًا، بل بدا عليه الارتباك أكثر بكثير. فعيناه الحمراوان اللتان كانت تنظران إلي اتسعتا بدهشة، وبؤبؤاه كانا يرتجفان بلا استقرار.
شعرت بيده المرتجفة وهي تلامس يدي. ولم أسمع جواب هاوارد المتصلب كالحجر إلا بعد مضي بعض الوقت.
“……لا، لا يمكن.”
خرج صوته متقطعًا. وكأنه استجمع كل قوته لينطق به.
“لا بد أنكِ متعبة، نامي الآن ريكا.”
“….…”
“غدًا، ……سنتحدث غدًا من جديد.”
ما إن قال ذلك حتى استدار مبتعدًا.
كانت حركته لنزع يده من يدي مستعجلةً إلى حد كبير. وكأنه يريد الفرار من هذا الموقف بأي طريقة.
تلك الاستجابة أثارت في نفسي رغبة عكسية. و لم أكن أعلم السبب بدقة.
ربما لأنني لم أُرد رؤية هاوارد يبتعد عني، أو لأنني كنت خائفةً من البقاء وحدي بعيدًا عنه، وربما كلا الأمرين معًا.
المهم في النهاية، أنني أمسكت به مجددًا قبل أن يغادر الغرفة. فتوقف هاوارد عندما أمسكت بطرف سترته من الخلف.
لو كان الأمر كالمعتاد، لكنت تركته يفعل ما يريد، أو بالأحرى، لكان هو من راعى مشاعري. لكن حين أفكر في الأمر، كان هناك شيءٌ غريب في ذلك اليوم.
كلانا، هاوارد وأنا.
“ألا يمكنكَ فقط أن تبقى بجانبي اليوم؟”
قلت ذلك وأنا ممسكةٌ بسترته بإحكام.
شعرت بالارتياح لأنه كان يدير ظهره لي، فلن يرى وجهي. وإلا لاكتشف تعبير وجهي البائس واليائس.
“لأنني……لدي الكثير مما أريد قوله. هناك الكثير من الأشياء التي لم نستطع قولها لأن كلاً منا لم يكن يتذكرها.”
كان رأسي فوضى. لكنني حاولت جاهدةً أن أُخرج الكلمات.
حقًا، على الأقل اليوم، لم أرد أن أبقى وحيدًا. فلم تكن لدي الشجاعة، ولا القوة، لمواجهة ذلك البرد المتسلل.
“أريد أن نجلس معًا ونتحدث عن طفولتنا، عن تلك الأمور التي لم نتمكن من الحديث عنها، وأريد أن أعرف كيف كنت خلال السنوات العشر التي افترقنا فيها، وأيضًا……”
وأيضًا، ما الذي كان هناك أيضًا؟
كانت هناك أشياء كثيرة أود مشاركتها مع هاوارد، وذكرياتٍ كثيرة تعود، لكن قلبي المضطرب جعل من الصعب صياغة جمل واضحة.
“وأيضًا……”
وبينما كنت أفتح فمي وأغلقه دون أن أتمكن من الكلام، هاوارد الذي ما زال يولي لي ظهره، نطق أخيرًا.
“لا يمكن.”
و بنبرة أكثر حزمًا من قبل. بيننا ما زال واقفًا دون أن يحاول حتى أن يلتقي بعينيّ.
“لا يمكن، ريكا.”
“لكـ، لكني لم أنتهِ من الحديث بعد.”
“ومع ذلك، لا يمكن.”
كان تصرفه قاسيًا على غير عادته. إلى درجة أن ذهني، الذي كان متصدعًا أصلًا بسبب كل ما جرى مؤخرًا، بدأ ينهار من جديد.
‘……نعم، كما توقعت.’
في النهاية، لا بد أن كوني الشخصية البديلة لملك الشياطين يشكل عبئًا عليه.
ربما لو كنت مجرد هرطقية عادية، لكان الأمر أفضل. عندها على الأقل، كان يمكنني قطع صلتي ببروتور.
ولو بذلت ما يكفي من الجهد، لربما تمكنت من محو ذلك الأثر المرعب على ظهري، و لربما كنت سأجعله يختفي تمامًا.
إن كان الشخص هو هاوارد تشيلستون، فمن الطبيعي أن يتصرف هكذا. بل لا مفر له من ذلك. فحتى أنا كنت سأشعر بالاشمئزاز. نعم، هذا طبيعي.
لكن.
لكن……
“ألا يمكنكَ فقط أن تراني شخصًا بائسًا ولو قليلًا؟”
شدَدت على طرف سترته أكثر. لأنني إن لم أفعل ذلك، كنت على وشك أن أجهش بالبكاء، و على وشك أن أنهار بشكلٍ مخجل.
كنت خائفةً من أن يختفي هاوارد من أمام عينيّ بهذه الطريقة.
“أعلم. أعلم أنني أتصرف بوقاحةٍ الآن. لكن، لكن……لقد التقينا مجددًا بعد كل ذلك بصعوبة، أليس كذلك؟ وأنا نفسي لم أكن أعلم بحقيقتي إلا مؤخرًا.”
عندما فُسِّرت الرسالة على أن نوكس هم هراطقة، رغم أنني صدّقت ذلك التفسير، إلا أنني اقتربت من هاوارد وأبرمت معه عقدًا، لأنني أنا نفسي لم أكن أظن أنني هرطقية.
قد يرى الآخرون الأمر بشكلٍ مختلف، لكنني على الأقل لم أفعل ما يستحق أن يُشار إليّ بأصابع الاتهام.
لكن الحقيقة التي اكتشفتها اليوم كانت بعيدةً تمامًا عمّا توقعت، فظيعةً إلى درجة أفقدتني توازني.
وإن كنت أنا كذلك، فكيف بهاوارد؟
قال أنه لا يراني هرطقية، لكن لا يمكن ألا يكون قد تأثر، وقد عرفت ذلك بمجرد لقائنا في الجبل.
فملامحه كانت تُظهر بوضوحٍ كم كان يفكر ويتردد قبل أن يأتيني. ومع ذلك، وعلى الرغم من معرفتي بذلك……
“لذا، ألا يمكنكَ فقط أن تبقى معي اليوم؟ الآن بعد أن انكشف أن بروتور هو ملك الشياطين، من الغد ستبدأ الفوضى وتزداد الضغوط.”
أنا بحاجة إلى دفء هاوارد، الآن، في هذه اللحظة.
“سأحاول ألا أطلب شيئًا كهذا مجددًا بعد اليوم. فليس هناك وقتٌ كثير متبقٍّ لأقول مثل هذا الكلام أصلًا، لذلك……”
لأنني أريد أن أكون معكَ، ولو قليلًا، قبل أن أموت.
“حتى لو كنتُ إنسانةً مليئة بالمشاكل، فقط سامحني هذه المرة.”
فقط، انظر إليّ.
في اللحظة التي أضفت فيها تلك الكلمات بتوسل، استدار هاوارد فجأة، بعد أن كان واقفًا كالحجر لا يتحرك.
وبينما كنت أتهيأ للتراجع من شدة المفاجأة، أمسكني هذه المرة وأوقفني.
“……أنا.”
يداه الكبيرتان استقرتا على كتفيّ. وانساب صوته المنخفض من بين شفتيه.
“من يحمل كل تلك المشاكل، ليس أنتِ، بل أنا.”
حينها، رأيت وجه هاوارد الذي كنت أشتاق لرؤيته بشدة.
وفي اللحظة التي التقت فيها عيناي بعينيه الحمراوين، المختبئتين قليلًا خلف خصلات شعره الذهبي، أدركت شيئًا.
الشخص الذي شعر بالراحة لأنه لم يُرَ وجهه لم يكن أنا، بل ربما كان هاوارد منذ البداية.
“تتحدثين وكأنني أبذل مجهودًا كبيرًا من أجلكِ، لكنكِ مخطئة. أنا لستُ بالشخص الطيب كما تظنين. ولا أنا بقائد الفرسان المثالي الذي تعتقدينه.”
نظراته التي كانت تستقر على وجهي كانت حارّة. وكأنها ستحرقني وتحولني إلى رماد.
“في الأصل، لست حتى بهذا القدر من التصديق. كيف لي أن أصدق المعبد، وأنا أعلم أن هذا العالم نشأ بسبب لعبة؟ لو لم تحدث تلك الواقعة قبل عشر سنوات، لما التحقت أبدًا بفرسان الهيكل.”
كانت عينا هاوارد تضجّان بمشاعر متداخلة.
غضب، ارتباك، يأس.
مشاعر لا يمكن وصفها بالجيدة على الإطلاق.
“أتدرين ما الذي خطر لي اليوم؟ فكرت، ماذا لو استطعتِ أن تحصلِ على قوة الهراطقة؟ ألن تتمكنين من العيش لفترةَ أطول؟ لأنه، لا مهمها فكرت فكرت، لا يوجد أي وسيلةٍ للمساعدة باستخدام القوة المقدسة……أليس هذا مضحكًا؟ أن قائد فرسان الهيكل يفكر بهذه الطريقة.”
لم تكن هذه الصورة مثالية، ومع ذلك، لم أشعر بأي نفور.
بل على العكس، شعرت بالامتنان. لأن هاوارد أظهر لي هذا الجانب الضعيف منه.
“لا.”
ولهذا، شعرت أنه بإمكاني أن أواسيه، ولو قليلًا.
“ليس مضحكًا. لأنكَ، في النهاية، لم تفعلها.”
قلت ذلك وأنا أحدّق في عينيه بهدوء.
كانت كلماتٍ نابعةً من صدق تام، دون ذرة كذب، لكن يبدو أن هاوارد لم يكن يوافقني. فما إن التقت عينانا مباشرةً حتى خفَض عينيه قليلًا وهز رأسه.
“ليس هذا فقط. أنا الآن……”
توقف صوته فجأة. و كانت عيناه تتجهان نحو كتفي.
بسبب الشد والجذب قبل قليل، انزلق الحزام قليلاً، فكشف عن كتفي العاري. فأسرع بإبعاد يده التي كانت مستندةً عليه.
ثم قبض على يده بشدة حتى برزت عروقه، وكأنه يقاوم شيئًا اندفع بداخله فجأة.
“……أنتِ لا تعرفين ما الذي أفكر فيه الآن.”
كان صوته الذي تلا ذلك خشنًا ومنخفضًا إلى درجةٍ لا تُقارن بما كان عليه من قبل.
وعندما رفع هاوارد نظره مجددًا والتقت أعيننا، كانت عيناه غارقتين في الظلام، حتى بدتا سوداوتين تمامًا تحت الإضاءة الخافتة من حولنا.
ومع ذلك، رأيت في بؤبؤيه حرارةً مشتعلة.
“أنا……لا يمكنني تقبّل طلبكِ بالبقاء بجانبكِ بهذه البساطة. في أوقات أخرى ربما، لكن ليس الآن. صبري ليس قويًا إلى هذا الحد. لذلك، قبل أن يحدث شيء قد نندم عليه……”
ولهذا السبب.
في اللحظة التي بدا فيها أن هاوارد، بعد أن انتقى كلماته بعناية، سيكرر رفضه ويحاول مغادرة الغرفة مجددًا. قبّلته.
لقد رفعت كعبي فجأةً وطبعت قبلةً على شفتيه.
“وماذا لو لم أندم على أي شيءٍ قد يحدث؟”
______________________
هاوارد كان يترجاها ويقول لا تقسين علي وهو الحين الي يرفضها ليه😔
ريكا بادرت اخيرا وعنها ذي مستستلمه بس اهم شي ارجعوا سوا🫂
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 121"