كان من الصعب فهم ما قاله بعد ذلك. وكأن هذه كانت حدود قدرته، إذ لم يكن من عادة هاوارد أن يصدر كلماتٍ مشوشة وغير مفهومة إلى هذا الحد.
تنفس هاوارد كان متقطّعًا، كمن خرج للتو من تحت الماء، شديدًا لدرجة تجعل الناظر يتألم من رؤيته.
ولهذا السبب بالكاد كان صوته مسموعًا بعد الآن، و لم يكن يتردد في الأذن سوى صدى ضعيف يشبه صوت الحديد.
ومع ذلك، كنت أفهم تمامًا ما كان هاوارد يحاول أن يقوله لي في تلك اللحظة. فلم يكن بالإمكان أن أجهل ذلك، في الحقيقة كان كما لو أنه يحدثني فعلًا.
بعينين يائستين تتوسلان، بنظرةٍ مملوءةٍ بالذعر، بأنفاسه المضطربة، وبالهالة التي خيّمت بيننا.
‘أرجوكِ، امنحيني قليلًا من الوقت لأبقى إلى جانبكِ.’
هاوارد كان يصرخ بكل كيانه بذلك.
لم يصل صوته إلى أذني، لكنه بلغ قلبي. بعمقٍ لا يمكن إنكاره.
وحين أدركت ذلك، شعرت كأن الضباب الذي غطّى ناظري انقشع فجأة، وكأن رؤيتي أصبحت صافيةً بعد طول عتمة.
رأيت ما أمامي بوضوح. هاوارد كان خائفًا. وليس من أي أحد، بل بسببي أنا.
‘……آه.’
كما لو أن دلواً من الماء البارد انسكب على رأسي، عادت إليّ حواسي دفعةً واحدة.
ما كنت أريده لم يكن هذا. لم أكن أرغب في رؤية هاوارد بهذا الشكل.
لم أرد أن أواجه تلك العيون الحمراء التي تفيض دموعًا لدرجة أن رؤيتها تؤلم.
رغم كل شيء، من تسبب في هذه الحالة هي أنا. فقد كنت أحاصر هاوارد بلا هوادة، بحجة أنني أفعل ذلك من أجله. كنت أقول أنني أريده أن يكون سعيدًا، أن يبتسم، ومع ذلك كنت أخنقه.
وحين أدركت هذه الحقيقة، شعرت وكأن قلبي يزداد ثِقَلاً بلا نهاية. بل لم يكن القلب وحده، بل كل جسدي أيضًا.
كان ثقيلًا كما لو أنني أغوص في الماء.
ورغم أن جسدي ابتلّ بمياه المطر منذ زمن، إلا أنني لم أشعر بذلك حقًا إلا الآن، ويا للسخرية.
كأنني أغرق أكثر فأكثر نحو الأعماق، دون أن أجد فرصةً للطفو.
وانتزع شيءٌ مني نفسي في لحظة.
ما الذي كنت أفعله بحق؟
“……آسـ، ـفة.”
خرجت كلماتي من قلبي دون أن تمر حتى بالتفكير.
وإن كان من الممكن تسميتها “كلمات”، وهي مجرد صوتٍ متقطع لم يُنطق بشكل سليم.
آسفة، لكَ.
“أنا آسفة.”
ضممت هاوارد الذي كان شبه مستند عليّ، بكل قوتي، وأخذت أردد هذه الكلمات مرارًا. و خشيت أن تخفيها أصوات المطر الغزير فلا يسمعها.
أردت بأي طريقة أن تصل إلى قلبه.
“أنا آسفة. لقد أخطأت. كان عليّ أن أقول لكَ في وقت أبكر……ما كان يجب أن يحدث ذلك……”
مددت يدي، وأخذت أمسح برفق على رأس هاوارد، وعنقه، وكتفيه. و كل ما كنت أريده أن تُشفى الجراح التي تسببتُ بها.
أن يتحسن، ولو قليلًا……
“لا، ليس هذا هو المهم الآن، ريكا. في الحقيقة، ما يحدث الآن……لا يهم.”
“مجرد التفكير في أنني قد أفقدكِ إلى الأبد يملأ رأسي بالكامل……أشعر أنني على وشك الانفجار. فمجرد تخيله يرعبني بشدة. لا أستطيع التفكير في أي شيء آخر، ريكا.”
في اللحظة التي سمعت فيها توسلات هاوارد تلك التي لا تنتهي، وفي اللحظة التي واجهت فيها وجهه الخالي من معنى الحياة، أدركت أنني كنت غارقةً في وهم كبير طوال هذا الوقت.
الشيء الذي كان يجب أن أفعله وأنا أقف على أعتاب الموت، لم يكن مجرد إراحة ضميري.
بسبب تلك الفكرة الساذجة: “شهرٌ واحد إضافي لن يغيّر شيئًا”، لم أفكر بما قد تؤول إليه الأمور.
لم أفكر جيدًا كيف سيكون حال هاوارد حين يكتشف الحقيقة لاحقًا، أو كيف ستكون مشاعره إن سمع بها من شخصٍ آخر.
وهذا بحد ذاته كان تصرفًا خاليًا تمامًا من أي اعتبارٍ له، رغم أنه أصبح حبيبي.
كما كنت أحتاج وقتًا لأتقبل موتي، كان يجب أن أمنحه هو أيضًا فرصةً ليتهيأ لفراقي.
لكني لم أتنبه لذلك، فقط لأنني كنت أتألم.
مع ذلك، هاوارد—حتى بعدما عرف كل شيء—قال لي أنني لست هرطقية.
“أنا آسفة……لأني جعلتكَ تشعر بالوحدة.”
الدموع التي تساقطت بغزارةٍ بللت جسدينا من كل جانب. ولم أكن أعرف لمن كانت. فكلانا كان يبكي بحرقة، كما لو كنا سننهار في أي لحظة.
احتمينا بصوت المطر، وبكينا طويلًا.
ظل هاوارد يعانقني لفترةٍ طويلة، ثم رفع رأسه بهدوء.
وفي تلك اللحظة، أمسك يدي التي كانت تلامس وجنته، برفقٍ دون أن يؤذيني. ثم دفن وجهه أعمق في راحة كفّي،
“لنعد، ريكا.”
“.……”
“لنعد إلى منزلنا.”
عيناه الحمراوان كانتا تنظران إليّ. كما لو أنهما تقيدانني، و تمنعانني من الفرار.
ترددت للحظة، ثم أومأت برأسي. وحين منحتُه موافقتي، نهض هاوارد ببطء، ثم رفعني بين ذراعيه بكل حذر.
ثم استدار، وبدأ بالنزول من الجبل بخطى ليست بالبطيئة ولا السريعة.
صوت الأقدام وهي تلامس برك الماء كان يهمس في أذني. وفي تلك الأثناء، كان المطر قد هدأ بشكل ملحوظ. لدرجة أن المرء ما كان ليلاحظه، لولا رطوبة الهواء المشبعة من حولنا.
ربما، منذ أن وجدني هاوارد في هذا المكان، كان كل شيء قد حُسم مسبقًا.
لا. بل حتى قبل ذلك.
منذ اللحظة التي أحبّني فيها هاوارد تشيلستون، ومنذ اللحظة التي أحببته فيها أنا أيضًا.
‘كيف لي أن أرفض طلبًا من هاوارد؟’
وكذلك هو، لا يختلف عني.
لم يُحلّ شيء بعد، ومع ذلك، شعرت أن هذا وحده يكفي الآن.
ثم، أثناء نزولنا من الجبل، واصل هاوارد الحديث،
“لن أدعكِ تبقين لوحدكِ أبدًا.”
نعم، كان ذلك كافيًا.
أغمضت عيني لوهلةٍ وأنا أنظر إلى بوابة قصر الدوق تشيلستون التي بدأت تلوح في الأفق.
هذا الدفء الذي شعرت به بين ذراعيه كان لا متناهٍ، رغم أن أجسادنا كانت مبللة تمامًا.
***
عند عودتي إلى قصر الدوق تشيلستون، استقبلني الجميع بنظراتٍ ممتلئة بالقلق، وترحيبٍ حار.
وكان أول ما فعلوه هو إرسالي إلى الحمام. فجسدي كان متسخًا بعد مغادرتي للقصر الإمبراطوري وتنقلي هنا وهناك، وكان لا بد من معالجة الجروح الجديدة أيضًا.
وطبيعيٌ أنني كنت وحدي في الحمّام، دون وجود الخدم.
هاوارد بدا قلقًا من فكرة استحمامي بمفردي، لا سيما بعد أن بللتني الأمطار وأصبحت حالتي الصحية غير مستقرة، لكن لم يكن هناك خيارٌ آخر.
فمعظم خدم قصر تشيلستون القدامى إما قُتلوا أو أُصيبوا إصاباتً خطيرة خلال الهجوم الذي شنّه بروتور. والذين تعافوا منهم كانوا يؤدون أعمالًا أساسية لا يمكن الاستغناء عنها.
وبسبب انشغال القصر الكامل، لم يتم بعد توظيف خدم جدد.
لم أكن ساذجةً لدرجة أن أطلب من أحد أن يساعدني في الاستحمام في مثل هذا الوضع. فمنذ البداية، كنت معتادةً على الاستحمام وحدي، وكان ذلك أكثر راحة لي.
لكن في الحقيقة، بعيدًا عن كل هذه الأسباب، كان هناك سبب أعمق، السبب نفسه الذي جعل هاوارد، رغم تردده، لا يملك سوى الإيماء بالموافقة في النهاية.
‘لأن في جسدي شيئًا لا يجب أن يراه الآخرون.’
الوشم الذي كان على كتفي الأيسر، فراشةٌ سوداء براقة، كأنها على وشك أن تنشر جناحيها وتطير، ما زالت ماثلة بوضوح في عيني.
‘……ليتني كنت مثل غيري من الهراطقة رفيعي المستوى، قادرين على إخفاء وشومهم.’
لكني كنت حالة مختلفة قليلاً، ولهذا حتى هذا النوع من الأفعال غير المباحة لم يُسمح لي به.
وبينما كنت غارقةً في خيبة الأمل، رنّ جرس منتصف الليل. فأفقت فجأة من أفكاري، وسارعت إلى غسل جسدي بأسرع ما يمكن، ثم ارتديت فستانًا بسيطًا على عجل.
لأنني لم أكن أحتمل أن يكون وشم الفراشة ظاهرًا. فمجرد رؤيته كان يدفعني للغثيان.
وفوق هذا كله……
‘……أشعر بالبرد.’
المكان الذي يحمل الوشم، كان بارداً إلى حدٍ لا يُحتمل، كأن البرد يخترق جسدي كله.
رغم أن هاوارد أخبرني أنه أمر بإبقاء المدفأة مشتعلةً دائمًا في غرفتي، حتى أجد الراحة متى ما عدت.
عندما عدت إلى الغرفة المتصلة بالحمام وأنا أضم جسدي متقلصًا من البرد، كان هاوارد قد انتهى للتو من الاستحمام أيضًا، وكان ينتظرني حاملاً الدواء والضمادات.
جلسني على السرير بعناية، وبدأ يعالج جروحي بحذر شديد، و يتفقد بدقة إن كان هناك أي إصاباتٍ أخرى قد فاتتني.
وفي تلك اللحظة، حين لمست أصابعه الطويلة جلدي، فقط بذلك اللمس، غمر جسدي دفءٌ غريب.
ثم مرة أخرى، ومرة أخرى.
‘هذا شعورٌ جيد.’
قبل أن أتساءل لماذا، جاءت هذه الفكرة إلى ذهني أولاً. كان السبب واضحًا.
“أعتقد أن هذا كافٍ الآن. غدًا لنطلب من الطبيب المعالج أن يفحصكِ مجددًا. نامي جيدًا الآن، ريكا.”
عندما قام هاوارد ليغادر بعد الانتهاء من العلاج، أمسكت به.
“هاوارد.”
عندما أمسكت يده، عاد الدفء إلى جسدي مرة أخرى.
وكأنني كنت مخمورةً بشيء ما، خرجت كلماتي دون تفكير،
“هل يمكننا أن نبقى معًا هذه الليلة؟”
___________________
رجعواااااا عيالي رجعوااا😭
ريكا دامها هي الي بادرت الحين تكفين لاعاد تطقين 😔
بكيتهم تبكي الواحد وهو مايدري 😔
من امس وانا جايتني الحاله اي شي يقولون بكيت معهم كله من الزفت التبن الي ما يتسمى بروتور
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 120"