هاوارد بدأ حقًا بمواعدتي منذ ذلك الحين. طبعًا لم يكن لأنه وقع في حبي فجأة، بل لنشر شائعة بأننا على علاقة.
ولكي تنتشر الشائعة على نطاق واسع، لا بد من مشاهد مصطنعة تبدو معقولة.
كانت مواعيدنا تتم في الليل عندما يستطيع هاوارد الخروج بحرية من القصر، لأن خرق الإعدادات كان يجلب ألمًا مشابهًا لانفجار القوة المقدسة.
ولم تكن المواعيد بشيء مبالغ فيه. كنا فقط نتظاهر بالعلاج تحت ذريعة إمساك الأيدي، أو نذهب معًا إلى مقهى، أو نشاهد عرضًا ما.
وخلال ذلك، كنا ننجز المهام المطلوبة منا. هاوارد كان يحقق في أمري، وأنا كنت أبحث عن شخصيتي الأصلية.
مع ذلك، لم يحقق أيٌّ منا نتائج تُذكر.
‘هذا طبيعي.’
يبدو أن هاوارد كان يحاول معرفة ماذا كنت أفعل وأين كنت قبل أن أعمل في نزل آنا، لكن في ذلك الوقت بالكاد كنت أغادر المنزل.
أما العثور على شخصيتي الأصلية فكان من البداية أمرًا شبه مستحيل.
‘لكن لا يمكنني الاستسلام.’
ورحمة بهاورد الذي كان شاحب الوجه عندما سمع أنني سأجمع الفضلات، أعددت له قائمةً بـ”الأشياء المقززة” وأرسلتها يوميًا إلى شخصيتي الأصلية عند منتصف الليل.
في النهار كنت أبحث عن شخصيتي الأصلية، وفي الليل أذهب إلى المواعيد.
وفي الأوقات الفارغة كنت أتلقى دروسًا في كيفية التصرف كابنة لعائلة نبيلة. ومر على هذا الحال شهر كامل.
وكانت النتائج مذهلة.
“مـ-ما هذا؟”
في إحدى الليالي، حين استدعاني هاوارد إلى مكتبه، فتحت فمي بدهشة وأنا أرى كومةً من الأظرف مكدسةً كالجبال على الطاولة أمام المدفأة.
كان هاوارد جالسًا على الأريكة يفتح الأظرف واحدًا تلو الآخر حين ردّ.
“دعواتٌ لحفلات.”
“كل هذه؟ هل أُرسلت إليك يا سيدي القائد؟”
“ظاهريًا نعم، لكن في الحقيقة لا. هناك شرطٌ مصاحب لكل منها بوجوب اصطحاب شريك.”
قال هاوارد ذلك وهو يلوح بواحدة من الدعوات بين أصابعه، ولم أجد صعوبةً في فهم مغزى كلامه.
“بمعنى آخر، الدعوات موجهة لي.”
لو كانت الشائعة عن ارتباط هاوارد بحبيبة صحيحة، فمن الطبيعي أن يصطحب شريكته إلى الحفل.
جلست على الأريكة المقابلة لهاوارد وأنا أشعر ببعض التوتر، فهز رأسه بخفة.
“لقد أثمر تعبنا خلال الشهر الماضي.”
“لم أتخيل أن تأتي كل هذه الدعوات. هل يمكنني إلقاء نظرةٍ عليها؟”
“بكل تأكيد.”
بدأت أتفقد الدعوات الواحدة تلو الأخرى. و رغم اختلاف أماكن الحفلات ومنظميها، إلا أن بينها قاسمًا مشتركًا.
كما قال هاوارد، كان اصطحاب شريك إلزاميًا، والحفلات تبدأ ليلًا بخلاف الحفلات المعتادة. وكان واضحًا جدًا من الذي تستهدفه هذه الدعوات.
في الأصل، هاوارد لم يكن يحضر الحفلات كثيرًا لذا نادرًا ما تصله الدعوات، فبدا واضحًا أن هذا التدفق المفاجئ يثير الشكوك.
‘الأمر مخيفٌ قليلًا.’
أن أشارك بهوية مزيفة في حفلات أناس يراقبونني عن كثب، وأتصرف وكأنني الحبيبة الحقيقية لهاوارد.
عندما أنزلت الدعوة من يدي، تكلم هاوارد.
“إن لم يكن لديكِ مكانٌ معين تودين الذهاب إليه، فدعينا نجعل أول مشاركة لنا في حفلة عائلة الكونت آفلز التي ستقام بعد أسبوع. إنها أكبر حفلة بين هذه الدعوات.”
“…..أول مشاركة؟”
هل علي حضور مثل هذه الحفلات عدة مرات؟ أنا بالكاد أستطيع الرقص بشكل صحيح! ماذا لو تفوهت بشيء خاطئ هناك؟
بدأت أسوأ السيناريوهات تتخيل في رأسي.
وبينما كنت أشحب رويدًا رويدًا، خاطبني هاوارد بنبرة لطيفة.
“استمعي لي، ريكا. نبلاء إمبراطورية فيدوس ليسوا من النوع الذي يصدق شيئًا من مجرد مشاهدته مرةً واحدة. علينا حضور ما لا يقل عن عشر حفلات من هذه الدعوات لإثبات صحة الشائعة.”
“عـ-عشر مرات..…”
“…لا، لنجعلها خمس مرات.”
رأى هاوارد حالتي شبه المغشي عليها، فعدل العدد. و عندما انخفض العدد إلى النصف، عاد إليّ شيء من الهدوء.
نعم، عشر مرات كان أمرًا مبالغًا فيه. و ربما إذا اعتدت على هذا النمط لاحقًا، سيكون ممكنًا، لكن الآن لا. فأنا لم أقترب حتى من قاعات الحفلات طيلة حياتي.
يبدو أن هاوارد رأى أنني بدأت أهدأ قليلًا، فتنهد بصوت خافت وأكمل حديثه.
“رغم أنني قللت عدد الحفلات مراعاةً لحالتكِ، إلا أن هذا في الحقيقة كان خيارًا لصالحكِ.”
“خياراً لصالحي؟”
أومأ هاوارد برأسه قليلًا وسألني.
“ريكا، منذ أن بدأت الإقامة في قصر الدوق وحتى الآن، ما الذي حدث للأشياء التي سرقها منكِ شخصيتكِ الأصلية؟”
صمتُّ بسبب السؤال غير المتوقع. لماذا يسأل عن هذا فجأة؟
كان قد قال لي سابقًا ألا أقلق بشأن الأشياء التي تختفي عند منتصف الليل…..هل أدرك الآن أن الخسائر المالية كبيرة؟
تحدثت بوجهٍ جاد.
“لا يزال، ليس لدي مال كافٍ لتعويضه.”
“…..كانت أشياء باهظة مثل الفساتين والحُلي، صحيح؟”
هاوارد، وكأنه اعتاد على الأمر، أكمل كلامي بدلاً مني دون إبداء رد فعل خاص.
بالطبع، تنهد بخفة لكنه لم يقل شيئًا آخر. ر يبدو أنه لم يفتح الموضوع ليطالبني بالمال.
أشعر ببعض الإحراج الآن.
“أعلم أنكِ بذلت جهدًا كبيرًا في البحث عن شخصيتكِ الأصلية هنا وهناك، لكن هل سمعتِ عن شخص أصبح ثريًا فجأة في أوفلين؟”
“لا. لم أسمع بشيء من هذا القبيل.”
“إذًا، هناك جوابٌ واحد فقط. جسدكِ الأصلي ثري لدرجة أن الفساتين والحُلي التي سُرقت منكِ خلال شهر لم تؤثر على ثروته إطلاقًا.”
“….…”
“ولشخص بهذه الدرجة من الثراء.”
توقف هاوارد لحظة ثم أشار بعينيه إلى كومة الدعوات على الطاولة.
“من المحتمل جدًا أن يكون من النبلاء الذين يستمتعون بحضور الحفلات.”
“واو……”
“تشعرين برغبةٍ في لكم شخصيتكِ الأصلية، أليس كذلك؟”
“نعم.”
“لكن مع ذلك، لا للأوساخ.”
لم أجب. و تظاهرت بالانشغال بتقليب الدعوات بلا هدف، فما كان من هاوارد إلا أن استدعى الخادم الذي كان ينتظر بالقرب، وأمره بمنعي من دخول الإسطبل. فأومأ الخادم واختفى بهدوء.
تشه. لهذا السبب لا أحب الأشخاص الذين يلتقطون الإشارات بسرعة.
“على كل حال، فلنحضر خمس حفلات مبدئيًا، وبعد العودة من حفلة الكونت آفلز نقرر إن كنا سنواصل أم لا. قد نجد خيطًا يدلنا على الجسد الأصلي.”
“موافقة.”
أومأت برأسي على مضض.
أن أحضر الحفلة بعد أسبوع يعني أنني مضطرةٌ لأن أصبح خلال هذا الوقت القصير آنسةً نبيلة مثالية، وكان ذلك جدولًا كارثيًا ينتظرني.
تبا.
***
بعد أسبوع.
حل يوم المعركة الحاسم.
منذ الصباح، أحاطت بي الخادمات من كل جانب وخضعت لكل أنواع العناية الممكنة.
لم أفهم لماذا علي أن أتعذب بهذا الشكل منذ الصباح بينما الحفلة تُقام ليلًا.
‘هل يعيش جميع النبلاء بهذه الطريقة؟’
هل يفعلون هذا كلما أقيمت حفلة؟ مجرد التفكير بذلك كان مرهقًا للغاية.
خاصةً أنني حتى قبل النوم ليلة أمس كنت أراجع بشكل مكثف قواعد الإتيكيت الواجب اتباعها في الحفلات، وأسماء ووجوه النبلاء الذين من الأفضل أن أحفظهم، حتى شعرت وكأن رأسي سينفجر. وفوق كل ذلك، كانت التدريبات على الرقص قد جعلت جسدي يؤلمني بالكامل.
تأرجحت كأنني ورقة في مهب الريح بين أيدي الخادمات، ولم أتحرر من قبضتهن إلا مع حلول المساء.
لكن، النتيجة كانت مرضية.
عندما نظرت إلى نفسي في المرآة، بدوت وكأنني بالفعل آنسةٌ نبيلة جميلة وفاخرة، حتى أنني شككت أن هذه أنا فعلًا.
لكن مع اقترابنا من قصر الكونت آفلز، مكان الحفلة، تلاشى ذلك الرضا بسرعة تحت وطأة التوتر المتصاعد.
‘…..أشعر وكأنني سأفقد وعيي.’
وقفت أمام قاعة الحفل، أضم يدي المرتجفتين معًا وأتنفس بعمق وببطء.
بمجرد أن أدخل من هنا ستتجه كل الأنظار إليّ، فهل سأستطيع الضحك والمزاح كما ينبغي؟
أخشى أن أفقد وعيي قبل ذلك.
“هل أنتِ بخير؟”
سألني هاوارد، الذي كان يقف بجانبي ليكون مرافقي، وهو ينحني قليلًا ليكون بمستوى نظري.
هممت أن أومئ برأسي مجاملةً له، لكنني غيرت رأيي وبدأت أهز رأسي بعنف حتى صدرت عنه أصوات اهتزاز.
لا أستطيع الدخول الآن مهما حصل!
“سأ-سأدخل بعد خمس دقائق فقط.”
وبينما كنت أتنفس بعمق، أمسك هاوارد كتفي برفق وقادني خلف عمود سميك قريب. و بطريقة طبيعية، خرجنا من مجال رؤية الحراس الذين كانوا يقفون عند باب القاعة.
بمجرد اختفاء العيون المراقبة، شعرت وكأنني أستطيع التنفس أخيرًا.
“آسفة…..أعتقد أنني متوترةٌ جدًا بسبب خوفي من ارتكاب خطأ..…”
تنفست مجددًا بعمق. وبينما كنت أهدئ نفسي، تحدث هاوارد بهدوء وهو يراقبني.
“يبدو أنكِ فهمت الأمر بشكلٍ خاطئ. أنا لا أطلب منك أن تكوني نبيلةً مثالية.”
“إذًا ماذا تطلب مني؟”
“أن تكوني الحبيبة التي يحبها هاوارد تشيلستون.”
توقفت الكلمات في حلقي عند سماع إجابته.
صحيح أن هذا هو الأساس، لكنني أمضيت وقتًا طويلًا أتعلم التصرف كنبيلة وحولت هويتي إلى نبيلةٍ مزيفة فقط لأحضر هذه الحفلات.
ويبدو أن هاوارد قرأ أفكاري، فأضاف،
“كل هذا كان احتياطًا فقط حتى لا تتعرضي لمواقف صعبة. كل ما تدربتِ عليه حتى الآن سيكفي لتجنب نصف المشاكل التي قد تواجهكِ. فقط تصرفي على طبيعتكِ. بالنسبة لي، لا بأس بذلك.”
“لكن، أليس من السيئ أن تتسبب الحبيبة في فضيحة خلال حفلة كبيرة كهذه؟ ألن يسبب لكَ الإحراج؟”
بمجرد أن أنهيت كلامي، انفجر هاوارد بالضحك.
“وماذا في ذلك؟”
قال ذلك وهو يبتسم برقة أكثر من أي وقت مضى.
“سأتقمص دور رجلٍ مغرم بها لدرجة أنني أجد كل شيء فيها ساحرًا، حتى أخطاؤها.”
رمشت ببطء دون أن أنطق بكلمة. و لسبب ما، لم أستطع أن أقول شيئًا.
“آه، صحيح. هناك شيء واحد لم نتدرب عليه ويجب ألا تخطئي فيه أبدًا.”
“ماذا؟! كيف تخبرني الآن فقط، سيدي-”
“هاوارد.”
قاطعني هاوارد وهو يصحح طريقة مناداتي له. كما لو كان يصحح نطقًا خاطئًا.
“بين الحبيبين يجب أن يُنادى كل شخصٍ باسمه. إذا ناديتني سيدي، سيبدو الأمر غريبًا. جربي أن تناديني باسمي.”
“ها، هاوارد؟”
“حسنًا.”
ضحك هاوارد وهو راضٍ عن نطق اسمي بتلك الطريقة المرتبكة. ثم مد يده الكبيرة نحوي.
“إذاً، هل نذهب الآن، ريكا؟”
وضعت يدي بحذر على يده.
هل هو مجرد شعور؟ لم أكن أعتقد أبدًا أن اسمي قد يكون جميلًا، لكنني شعرت الآن وكأنه يبدو أفضل قليلاً.
_________________
يجنوووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووون
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 12"