اشتدت زخات المطر أكثر. و تحت الشجرة التي أخذت تبتل شيئًا فشيئًا، لم يجرؤ أحد على فتح فمه. لا أنا، ولا هاوارد.
لوقتٍ من الزمن، لم يُسمع سوى صوت المطر وهو يقرع أوراق الشجر.
هاوارد بقي في وضعه حين التقطني بينما كنت أنهار، أي وهو جالسٌ على الأرض كما هو. كان يعانقني بتلك الهيئة وكأن الزمن قد توقف.
يا تُرى كم مضى ونحن على تلك الحال؟
أول من كسر الصمت كان هاوارد.
“كنت أعلم أنكِ ستكونين هنا، ريكا.”
نبرة صوته التي انطلقت كانت أكثر إشراقًا مما توقعت. لم تكن تناسب الأجواء، ولم تكن ما يجب أن يُقال أولًا بعد أن عرف كل الأسرار.
لكنني لم أرد أن أشير إلى ذلك. أو لأكون دقيقة، لم يكن لديّ ما يكفي من القوة لذلك. ففي تلك اللحظة، كان كل ما أستطيعه هو أن أبقى مستيقظةً وعيناي مفتوحتان.
أما هاوارد……لا أعلم. لأني لم أرَ وجهه، فلم أكن أعرف ما نوع التعبير الذي يرتسم عليه.
و كل ما فعلته هو أنني ظللت في حضنه الكبير، أستمع بشرودٍ إلى صوت دقات قلبه.
نبض-
نبض-
نبض-
كانت نبضاته عنيفةً إلى درجة لا تُصدق.
سريعةً للغاية، حتى أن القلق تسلل إليّ خشية أن ينفجر قلبه من شدتها. فأنفاسه التي شعرت بها من فوقي بدت لاهثة، وكأنه على وشك الانهيار.
وسط كل ذلك التوتر، فتح هاوارد فمه وتحدث.
“لقد استخدمتِ قدرتكِ قبل قليل، أليس كذلك؟ الألم اختفى فجأة، فعرفت ذلك على الفور. كنت سأرتاح قليلًا من شدة الألم، لكن عندما استخدمتِ قوتكِ، هدأ النور المقدس بداخلي تمامًا، كما يحدث دائمًا.”
“….…”
“بعد دخولي القصر، أجهدت عقلي بحثًا عن مكانٍ قد تكونين فيه. مكانٍ يمككِ إخفاء جسدكِ فيه، ومع ذلك يمكنكِ رؤيتي. لقد قلتِ ذلك من قبل، أليس كذلك؟ أنك طورتِ قدرتكِ بحيث يمكنكِ استخدام قوتكِ من مسافة بعيدة طالما يمكنكِ رؤية الهدف. وبناءً على تلك الفكرة، توصلت إلى الجواب بسرعة. فبالقرب من قصر الدوق تشيلستون، لا توجد أماكن كثيرة تصلح للاختباء.”
هكذا إذًا. ذلك الجزء لم يخطر ببالي أبدًا.
فكرت بذلك ببرود، بينما لا أزال في حضن هاوارد. و لم أجب، لكن هاوارد لم يعلّق على ذلك بشيء، وكأنه لم يكن يتوقع ردًا مني من الأساس.
و صوته الذي كان يصلني ظل هادئًا كما هو.
“بعد ذلك جئتُ مباشرةً إلى هنا. كنت قلقًا من أنكِ قد تكونين ذهبتِ إلى مكان آخر في تلك الأثناء، لكن من حسن الحظ أننا التقينا هكذا. الجو سيئ، ولو ضللنا الطريق لكنّا في ورطةٍ كبيرة.”
“.……”
“خصوصًا أنتِ، عليكِ أن تكوني أكثر حذرًا. فلم يتبقَ الكثير على منتصف الليل. و الشتاء بات وشيكًا، ولا يمكنكِ التجول بملابس رقيقةٍ كهذه. حتى الآن، ما ترتدينه لا يناسب الطقس أبدًا.”
لم أره يتحدث بهذا القدر من قبل.
منذ أن فتح فمه أول مرة، لم يتوقف عن الكلام ولو للحظة. ليس مجازًا، بل حرفيًّا، لم يسكت إلا عندما يتنفس.
وكأن الصمت الذي سيعم بمجرد أن يتوقف لا يُحتمل بالنسبة له. وكأن شيئًا فظيعًا سيحدث إن لم يواصل الكلام.
“الجو باردٌ أصلًا، فماذا لو بللتكِ الأمطار أيضًا؟ ستمرضين بهذه الطريقة. بالكاد تعافى جرح قدمكِ، وها أنتِ تتجولين حافية القدمين مجددًا وتُصَابين……ألم أقل آن سفوح الجبل وعرةٌ جدًا؟”
“….…”
“الجروح كثيرةٌ أكثر مما ظننت. إن لم يتم تطهيرها ومعالجتها بسرعة فقد تتفاقم. وانظري الآن……جسدكِ بارد كالثلج. يجب أن ندفئكِ فورًا.”
طَقطَق-
سقط شيءٌ بارد على خدي. ولم يكن مرةً واحدة، بل تتابعت باستمرار.
هل كانت قطرات مطر؟
كان المطر يهطل بغزارة، ويبدو أن الماء بدأ يتساقط من بين أوراق الشجر.
الشجرة التي احتمينا تحتها كانت كثيفة الأوراق، لذا بالكاد بللتنا الأمطار حتى الآن. لكن مع صوت المطر الذي ازداد شدة، لم يعد ذلك مستبعدًا.
‘لا يمكننا البقاء هنا طويلًا على أي حال.’
وبينما فكرت بذلك، رفعت رأسي ببطء دون أن أدري.
“لذلك، ريكا……”
وفي اللحظة التي نظرت فيها إلى الأعلى—
“الآن……لنعد إلى المنزل معًا.”
أدركتُ حينها أن ما سقط عليّ لم يكن مطرًا. بل كانت دموعه التي انسابت من عيناه الحمراوان، تملآن كامل مجال رؤيتي، و تضمّاني في انعكاسهما.
تلك العينان الممتلئتان بالدموع، كانت تنظران إليّ فقط.
“حسناً؟”
قال هاوارد ذلك متوسلًا.
كان يبكي. و كانت عيناه محمرتان من شدة البكاء، وصوته يتوسل كمن يتمسك بشيءٍ بكل جوارحه.
كانت هناك قطرة دموعٍ علقت عند ذقنه، ثم سقطت من جديد على جبيني، وعلى خدي، ببطء وهدوء.
إذًا، كنتَ تملك هذا التعبير طوال الوقت. و كنتَ تحاول جاهدًا أن تخفيه، و ألا تُظهر شيئًا.
‘يبدو أنك عرفت كل شيء، في النهاية.’
عرفتَ من أكون……وعرفتَ أننا التقينا من قبل، في زمنٍ مضى.
تنفستُ ببطء.
كنت أرغب بشدة أن أمسح دموعه في تلك اللحظة. و أن أجيبه قائلة: حسنًا، لنعد إلى المنزل معًا.
لكن لم يكن بوسعي ذلك. لأنني كنت أعلم جيدًا لماذا يصر هاوارد على التظاهر بأنه بخير، ولماذا يريد إنكار كل شيء.
وأعلم أيضًا أن من بين ما يريد إنكاره……حقيقة أنني هرطقية.
“هاوارد.”
عندما ناديته، ارتجف جسده فجأة. فشعرتُ بتوتره الشديد، كأن مريضًا ينتظر حكم الطبيب الأخير.
كان منظره يدمي القلب، لكن……آسفة يا هاوارد، لم أكن أنوي تأجيل النهاية التي كُتب لها أن تأتي.
هاوارد تشيلستون هو قائد فرسان الهيكل، ويكنّ كراهيةً شديدة للمهرطقين ولملك الشياطين الذي قتل عائلته.
أما أنا، فلست مجرد هرطقة عادية، بل أنا من تحمل وشم الفراشة السوداء فوق قلبها مباشرة……النسخة الثانية من ملك الشياطين نفسه.
من البداية، لم يكن هناك أي سبيلٍ لأن يكون بيني وبين هاوارد شيء. فأنا وهو……كنا من عالمين لا يلتقيان.
و على أي حال، هاوارد لن يرضى بحبيبةٍ هرطقية.
الآن فقط، هو لا يصدق كل ما يحدث، وربما لأنه شخصٌ لطيف بطبعه، يتصرف بهذا الشكل. و لهذا السبب، كان من الصواب أن أقطع هذه العلاقة قبل أن تنبت مشاعر الكراهية بيننا بأي شكل من الأشكال.
“أنت قائد فرسان الهيكل، هاوارد. البطل الذي يطارد الوحوش التي تهدد الإمبراطورية ويجتهد لكشف هوية ملك الشياطين.”
“ريكا……”
ناداني هاوارد بصوتٍ أشبه بالرجاء. فقد كان يعرف تمامًا ما الذي سأقوله.
ومع ذلك، لم أتوقف.
“وليس ذلك فقط، بل تستجوب كل من يُشتبه في كونه مهرطقًا، وتُنفذ الأحكام بحق من يثبت أنه كذلك. أنا أيضًا خضعت للتحقيق لهذا السبب منذ البداية. كنت إلى جانبكَ طوال ذلك الوقت وأخضعتني للتحقيق بكل جدية. و قد مر وقت كافٍ……ألم يحن الوقت لتُصدر حكمكَ؟”
“ريكا، أرجوكِ……”
توقفي.
كأنني سمعت تلك الكلمة، حتى لو لم تُنطق. لا، لم تكن مجرد وهم، فقد كان هاوارد يتوسل بها بعينيه، بجسده، و بكل ملامحه.
تساءلت، لو أنني سكت الآن، لو تظاهرت بالجهل مثله، فهل سيصبح كل شيءٍ كأن لم يكن؟
لكنني عرفت الجواب مسبقًا. عرفت أن ذلك مستحيل، فلم يكن لذلك أي معنى.
سألت بينما كبحتُ الألم الذي مزق قلبي.
“سيدي القائد……ما نتيجة التحقيق الذي أجريته عني؟”
طَقطَق-
بعد ذلك، توقفت كل الأصوات، باستثناء صوت المطر.
حتى أنفاسه التي كانت تزداد اضطرابًا، ودقات قلبه التي بدت وكأنها ستنفجر، وتنهيداته المتقطعة……كلها توقفت.
لو لم يكن المطر يهطل، لظننت أن الزمن قد توقف. فلهذا الحد، بدا كل شيءٍ غير واقعي.
هاوارد الذي كان ينظر إليّ من الأعلى بدا كدمية. دميةٍ جميلة بلا تعابير.
لم يكن يبكي الآن. و لم يتبقَ سوى آثار الدموع التي بللت وجهه، ورموشه المشبعة بالماء.
ومع ذلك، لا أدري لماذا……شعرت وكأنه يبكي أكثر من ذي قبل.
صوت المطر الذي ازداد شدةً بدا وكأنه صوت بكائه المكبوت، المنبعث من أعماقه.
يداه، اللتان كانت تطوقانني، أخذتا ترتجفان. وكأن أي لمسةٍ صغيرة قد تجعله ينهار.
و وسط هذا السكون الخانق، تحدث هاوارد بصوتٍ مبحوح،
“أنا……”
_____________________
انها تمطر يا جورج
تخيلوا يقول انا احبس مايهمني
ودي يقولها😔
المهم الوضع كتمه الله يكتم بروتور
هاوارد مايدري يلقاها من صدمته يوم درا ان ريكا نوكس ولا صدمة ذكرياتهم 💔
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 118"