في البداية، ظنت أن الأمر مجرد حلم.
وهذا طبيعي، فالأمر غير معقول أصلًا. فالشخص الذي نشأ معها منذ الولادة وكان بمثابة عائلتها……بروتور، الذي لم يكن أحدًا غريبًا وكان دائمًا يبتسم……تراه يطعن أحدهم بسيفه الآن؟
والأدهى من ذلك، أن تراه يبتسم وكأنه مستمتع، بينما يتلوى الرجل من الألم وسيف مغروسٌ في صدره؟
“لا……يمكن……أن يكون هذا حقيقي……”
تراجعت ريكا خطوةً إلى الخلف دون أن تشعر. وفي تلك اللحظة، سحب بروتور السيف من جسد الرجل والتفت ناحيتها.
و توقف بينما سقط الرجل على الأرض.
لم تكن ريكا بحاجةٍ إلى التأكد. فذلك الرجل……قد مات.
كان يشبه هاوارد إلى حد كبير، وكان من الواضح تمامًا أنه قائد فرقة فرسان الهيكل.
“ريكا؟”
اهتزت العينان الخضراوان اللتان كانت تنضحان بنية القتل. واختفت الابتسامة من وجه بروتور، ليحل محلها تعبيرٌ مرتبك.
تحركت شفتاه دون أن يخرج صوت، وكأنه عاجز عن الكلام.
وأخيرًا، وبعد لحظات، خرج منه صوتٌ أشبه بالتنهيدة،
“لماذا أنتِ هنا……ألم أقل لكِ أن تنتظريني في النزل حتى أعود؟”
اختفى تمامًا ذلك التعبير الهادئ الذي اعتادت رؤيته. و أدركت ريكا أن الوجه الذي تراه الآن، هو وجه بروتور الحقيقي، وأن القناع الذي ارتداه لزمن طويل قد سقط أخيرًا.
عندما حوّلت نظرها قليلًا، رأت خلف بروتور مشهدًا صادمًا—لم يكن القتيل قائد فرسان الهيكل وحده، بل كان هناك عددٌ كبير من الجثث ملقاةً على الأرض.
“……آه.”
غطت ريكا فمها بكلتا يديها على عجل. و كادت أن تتقيأ.
ثم تحولت أفكارها إلى فراغٍ ناصع البياض. و لم تعد حتى تعرف ما هو التعبير المرتسم على وجهها الآن.
لكن، عندما رأى ملامح اليأس ترتسم على وجه بروتور وهو ينظر إليها، خمّن أن تعبيرها بالتأكيد لم يكن جيدًا.
تراجعت خطوةً أخرى إلى الخلف، وفي تلك اللحظة، سمعت صوتًا مألوفًا في أذنها.
“هاه؟ ريكا؟”
اتجه نظرها بسرعةٍ نحو مصدر الصوت، فوجدت هاوارد يركض نحوه من جهة اليسار.
“ألم تعودي إلى المنزل؟ لماذا أنتِ هنا؟”
“.……”
“على أية حال، ليس هذا المهم الآن. هناك شيءٌ غريب يجري. لا أثر لأبي أو أمي، ولا حتى للخدم. كان من المفترض أن أكون قد التقيت بأحدهم بحلول الآن.”
كان هاوارد يقترب شيئًا فشيئًا. لكن ريكا لم تستطع أن تنطق بكلمة.
فأمام ناظريها، كان والد هاوارد قد أصبح جثةً باردة هامدة. وإن اقترب هاوارد أكثر، فسيكتشف الحقيقة.
هل يمكنها السماح له برؤية هذا المشهد؟ و كيف يمكنها شرح ما حدث؟
‘الشخص الذي كان قريبًا مني……هو من قتل عائلتكَ؟’
لم تستطع ريكا إخراج أي صوت. فهذه هو أول مرةٍ في حياتها ترى فيها مشهد قتلٍ حقيقي، بل هذه المذبحة المروّعة الآن أمامها.
كيف لها أن تشرح الأمر بهدوءٍ لشخص آخر؟
كل ما استطاعت فعله هو الارتجاف في مكانها. وخلال ذلك، استمر هاوارد في الاقتراب.
“ريكا، هل حقًا حصل شيءٌ ما في القصر كما قلتِ؟……”
وأخيرًا، وقف هاوارد أمام قاعة الحفلات.
كانت عيناه تتجهان نحو الفتحة بين البابين. واتسعت عيناه وهو يرى المشهد الذي لم يكن يجب أن يراه أبدًا.
“……أبي؟”
ولأول مرة، رأت ريكا ذلك التعبير على وجه هاوارد.
لم يكن في عيني هاوارد الحمراوين أي تركيز. و ارتجف جسده كما لو كان شجرة حورٍ ترتعد في مهب الريح. و بدا وكأنه قشرةٌ فارغة خاليةً من أي روح.
بينما شحبت بشرته حتى صارت بيضاء كأنها ورقةٌ رقيقة. تشوه وجهه بشكل قاسٍ، وكأنه على وشك الانفجار بالبكاء.
ثم تحركت قدماه كأنه يريد أن يندفع إلى داخل قاعة الحفلات في الحال. لكن ريكا أمسكت بمعصمه على عجل. لأن بروتور، الذي كان يراقب الشخص الذي ظهر فجأة، بدأ ينهض مترنحًا من وضعه شبه الجالس.
و لو أن ريكا لم تفهم تمامًا ما الذي يحدث الآن، وما الذي يجري من حولها، إلا أن هناك حقيقةً واحدة أدركتها بغريزتها.
……هاوارد في خطر.
“هاوارد، اهرب!”
أمسكت ريكا بيد هاوارد وركضا به بعيدًا. في الاتجاه الذي جاء منه هاوارد.
في الظروف العادية، لكان بروتور قد لحق بهما بسرعة، لكنه بدا مرهقًا جدًا. فحتى الوقوف كان صعبًا عليه، وكان يستخدم سيفه كعصا يتكئ عليها.
ربما لو ركضا بسرعة، ستكون هناك فرصةٌ للنجاة.
“ريكا، انتظر لحظة. أبي……أبي ما زال هناك……وأعتقد أن أمي أيضًا خلفه. يجب أن أعود……”
هاوارد، الذي كان يركض دون وعي خلف ريكا، توقف فجأةً في مكانه. وتوقفت ريكا تلقائيًا معه أيضًا.
استدار هاوارد نحو قاعة الحفل والدموع تملأ عينيه.
وفي تلك اللحظة تمامًا.
“طاردوه! تخلصوا من ذلك الفتى!”
ارتفع صراخٌ من داخل قاعة الحفل. وفي اللحظة نفسها اهتزت الأرض. ثم تحطّم باب القاعة بصوت مدوٍّ واندفعت منه وحوشٌ شتّى.
أعينها اللامعة مسحت المكان حتى ثبتت على هاوارد. و جميعها راحت تعوي نحوه بصوتٍ واحد.
“هاوارد! عليكَ الهرب!”
سحبت ريكا هاوارد مجددًا. وهذه المرة لم يبقَ هاوارد ساكنًا.
نظر مرةً أخيرة نحو القاعة ثم أومأ برأسه وبدأ يتحرك.
ركضوا بأقصى ما لديهم هربًا من الوحوش.
بسرعة.
أسرع.
“هاه……هاه……”
لا أحد يعلم كم ركضوا. لكن أنفاسهم باتت خشنةً لا تُحتمل.
لم تكن لياقة الأطفال كافيةً ليهربا بسهولة من كل تلك الوحوش.
شعرت ريكا بأن حركتها بدأت تتباطأ تدريجيًا. و لا بد أن هاوارد متعبٌ أيضًا.
‘ماذا أفعل؟ لا يمكننا الاستمرار بالهرب هكذا.’
سينتهي بنا الأمر إلى أن نُمسك.
كانت خطى الوحوش التي تُسمَع من الخلف، والمسافة التي بدت وكأنها تقترب شيئًا فشيئًا، زادت من شعور الرعب.
رغم أن نقطة الانطلاق كانت مختلفة، وما زال هناك مسافةٌ تفصلهم، إلا أنه بعد قليل قد تتغير الأمور.
فكرت ريكا للحظة ثم انعطفت عند الزاوية التي ظهرت أمامها. وبدلًا من الركض في الممر الطويل، فتحت الباب القريب ودخلت إلى الغرفة.
ثم أغلقت الباب بالمفتاح، و أخذت بيد هاوارد وتوجها إلى خزانة الملابس الكبيرة.
أغلقت باب الخزانة بإحكام، ثم ركّزت سمعها على الأصوات في الخارج. ولحسن الحظ، يبدو أن الوحوش لم تتوقع دخولهما المفاجئ إلى الغرفة، إذ سُمعت حركتها تمر دون توقف.
‘……نجونا.’
تنفست ريكا الصعداء ثم التفت الى هاوارد الذي كان يتنفس بصعوبة.
ويبدو أنه شعر ببعض الارتياح بعدم رؤيته للوحوش، فانفلت منه بكاءٌ لم يستطع كتمه.
“هُهق……أبي، أمي……”
وانهمرت الدموع من عينيه الحمراوين.
لم تكن ريكا تعلم كيف يواسيه. فبمجرد أن وصلا إلى مكان هادئ، بدأت الأمور تتضح شيئًا فشيئًا.
لم يكن الأمر مجرد أن بروتور قتل والدي هاوارد، بل كانت هناك تعقيداتٌ أكبر من ذلك.
“اليوم هناك شيءٌ يتطلب مني استخدام الكثير من القوة. ولهذا كنت بحاجةٍ إليكِ. لكن المكان الذي سأستخدم فيه قوتي بعيدٌ جدًا عن المنزل. كنت أنوي أن أتركك في المنزل، لكن الظروف لم تسمح بذلك.”
“وما هذا الشيء المهم الذي يجب أن تفعله اليوم؟”
“تسألينني إلى أين أنا ذاهب؟ لا شيء مهم. أترين ذلك القصر الكبير هناك؟ قصر الدوق تشيلستون. هناك شخصٌ خطير جدًا علينا في ذلك القصر، أنا ذاهبٌ للإمساك به.”
“قصر الدوق تشيلستون؟ أليس هذا مكان إقامة قائد فرسان الهيكل؟ هل هناك هرطقيٌ يحاول قتله؟”
“……شيءٌ من هذا القبيل.”
تداعت إلى ذهنها أفكارٌ كثيرة.
بروتور الذي لم يخبرها يومًا ما نوع شخصيته غير القابلة للعب الذي أصبح عليه. بروتور الذي منعها دائمًا من الخروج بحجة أن الخارج مليءٌ بالخطر.
بروتور الذي قال لها أنهم سيتمكنون من النزول إلى القرية غدًا.
“……آه.”
حينها، ضربها الإدراك كالصاعقة.
بروتور لم يكن سوى ملك الشياطين.
و هي، دون غيرها، قد ساعدت بروتور في قتل أفراد أسرة الدوق.
___________________
يوجع
الفصل يوووجع
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 113"