“في الماضي، حدث أمرٌ غريبٌ جدًا. كان ذلك بعد وقتٍ قصير من قدوم ريكا إلى هنا……في ذلك الوقت، تغير لون شعر ريكا ليصبح كما هو الآن. أتذكر ذلك جيدًا، كان شعرها أسود من قبل.”
كانت كلمات آنا تطنّ في أذني هاوارد. وكأنها تتردد كصدى داخل رأسه.
لم يكن بوسعه تجاهلها. لأن الكلمات التي خرجت الآن من فم آنا، كانت تحمل تركيبةً لا يمكن لهاوارد أن يتغاضى عنها.
ريكا.
شعرٌ أسود.
ريكا.
شعرٌ أسود.
“……ماذا قلتِ الآن؟”
“نعم؟ آه، كنت أقول أن ريكا كانت تملك شعرًا أسود في الماضي……”
“هل يمكنكِ أن تخبريني بتفاصيل أكثر؟”
بدأ قلبه ينبض بعنف. كأنما سينفجر أو يندفع خارجًا من صدره في أية لحظة.
الفتاة التي لم تكن موجودةً في ذاكرته إلا كشعلةٍ باهتة مرتبطةٌ بـ”الشعر الأسود”، و الطفلة التي كان يظن أنها ماتت، ربما لا تزال على قيد الحياة.
وربما……تكون هي الشخص الذي يحبه.
هذا الاحتمال، وسط كل الفوضى التي يعيشها، كاد أن يدفع هاوارد إلى الجنون.
حتى قبل ذلك، كان هاوارد يشعر بالحيرة من الصورة التي يراها باستمرارٍ للفتاة في ريكا، ومن حقيقة أن أوديا، التي أخبرته عن موت الفتاة، كانت قد غادرت قصر الدوق وظلت تتنقل مع ريكا بعد ذلك.
وها هو الآن يحصل على مثل هذا الدليل وسط تلك الشكوك.
“أرجوكِ.”
قال هاوارد ذلك وهو يحاول تهدئة قلبه الذي كان ينبض بعنف.
فرمشت آنا بعينيها دون أن تفهم لماذا كان هاوارد منفعلاً إلى هذا الحد. فهي لم تفكر كثيراً عندما ذكرت تلك المعلومة، و فقط خطر في بالها أنها قد تكون خيطاً يدل على شيءٍ ما.
“أمم، أعتقد أنه يجب أن أبدأ من أول مرة قابلت فيها ريكا. جاء ريكا إلى هذا النزل قبل حوالي عشر سنوات. مع أوديا……آه، أعني كانت مرتزقةً هي من جلبتها إلى هنا.”
ارتجف هاوارد لا إرادياً عندما سمع الاسم المألوف الذي قُطع فجأة. لكن آنا لم تلاحظ ذلك وأكملت حديثها.
“يبدو أنهما كانا يتنقلان من مكانٍ إلى آخر. ربما بسبب عملها كمرتزقة، هذا ما ظننته……لكن هذا ليس مهماً، على أي حال قالت أنهما سيقيمان هنا لفترةٍ طويلة. و في ذلك الوقت، كانت ريكا مريضة.”
“مريضة؟”
“نعم، كانت تعاني من مرضٍ خطير جداً. و حتى عندما كنت أمسح جسدها بمنشفة باردة، لم تكن الحمى تنخفض أبداً.”
أغلقت آنا عينيها للحظة ثم فتحتهما وكأنها تتذكر ذلك الوقت.
“كانت الطفلة تبدو وكأنها ستموت في أية لحظة، فقلقت عليها كثيراً. لذلك حاولت أن أساعدها بجمع الأعشاب الطبية وإعطائها لها. رغم أن الأمر لم يكن يجدي نفعاً على ما يبدو.”
“….…”
“لاحقاً، أوديا…+آه، عذراً. اسم تلك المرتزقة هو أوديا. ولأننا كنا نتعامل معاً كثيراً خلال فترة إقامتهم هنا، أصبحت أناديها بهذا الاسم من دون أن أشعر.”
“يمكنكِ التحدث براحتكِ.”
“شكراً لك. على كل حال……أوديا قالت لاحقاً أنه لم يعد هناك حاجةٌ لمساعدتها. بدا وكأنها تعرف شيئاً عن حالتها الصحية، لكنني لم أجرؤ على سؤالها مباشرةً خشية أن أكون وقحة. وبعد حوالي أسبوع، أعتقد، فجأةً أصبحت ريكا وكأنها لم تكن مريضةً أبداً، تركض وتلعب بنشاط. وفي تلك الفترة، شعرها-”
“أصبح كما هو الآن، أليس كذلك؟”
أومأت آنا برأسها بخفة.
“استغربت أنه رغم مرضها الشديد كانت قد صبغت شعرها، فسألت أوديا عن ذلك، لكنها لم ترد على سؤالي، بل فقط طلبت مني ألا أقول شيئاً لريكا. ولأني وعدتها، لم أسأل ريكا عن الأمر، لكن بدا وكأن ريكا لا تتذكر أنها كانت تملك شعراً أسود.”
بالطبع. فهاوارد نفسه سألها من قبل إن كانت قد امتلكت شعراً أسود في وقتٍ ما.
وكانت ريكا تضحك كل مرة وتقول: ما هذا الكلام غير المعقول؟ وكأن الأمر لم يحدث قط.
“كانت تتذكر كل شيءٍ إلا تغير لون شعرها، فوجدت الأمر غريباً. لكنني لم أكن أستطيع فعل شيء حيال ذلك، فظننت أنها مجرد آثارٍ جانبية من مرضها الشديد، وتجاوزت الأمر. و بعد ذلك، بقيتا أوديا وريكا في نزلنا طوال الوقت.”
“لكن لماذا بقيت تلك المرتزقة في النزل حتى بعد أن تعافت ريكا؟ من الواضح أنها لم تكن تنوي البقاء طويلاً هنا لو لم تكن ريكا مريضة. فقد قلتِ أنهما كانا يتنقلان سابقاً.”
“آه، هناك سببٌ لذلك.”
صفقت آنا بيديها بخفة.
“في ذلك الوقت، بدأت أوديا تتجول قائلةً أنها ستصطاد ملك الشياطين. و كانت في كثير من الأحيان لا تعود حتى وقت متأخرٍ من الليل.”
“فجأةً هكذا؟”
“نعم. الجميع في القرية استغربوا وسألوها أي ملك شياطين هذا الذي تتحدث عنه، لكنها لم تهتم بكلامهم. و كانت تبدو واثقةً جداً. و تتنقل بحماسةٍ كبيرة. ونتيجةً لذلك، بدأتُ أعتني بريكا جزئياً. و عشنا على هذا الحال لعدة سنوات بشكلٍ جيد، إلى أن عادت أوديا في أحد الأيام مصابةً إصابة بالغة. و لم نعرف أين أو ماذا حدث لها، لكن مجرد نجاتها كان أشبه بالمعجزة.”
رغم أن آنا لم تكن تعرف السبب حتى الآن، إلا أن هاوارد، الذي يعرف القصة الرئيسية لعالم <عالم الفانتازيا>، كان يعلم ما حدث.
في ذلك اليوم، أوديا التقت بملك الشياطين. و ادعاؤها بأن ملك الشياطين كان في هذه القرية، لم يكن كذباً.
“ريكا بذلت جهداً كبيراً من أجل علاج أوديا. و كانت تعمل في النزل لكسب المال، وفي الليل تذهب للعمل في نزلٍ آخر قريب، ثم-”
“……يكفي إلى هنا.”
كان هاوارد يعرف بقية القصة. كان يعلم النهاية المحددة مسبقاً، وكيف أن ريكا، رغم معرفته بذلك، عملت ليلاً ونهاراً محاولةً إنقاذ أوديا.
ثم، عند منتصف الليل، كان يُسلب منها كل ما تملكه من قبل بروتور إيتينتيا، وتتوسل إليه أن يعيده……
رغم كل ما فعله، عاد الحزن ليملأ قلبه حين تذكّر أوديا، التي ماتت في النهاية. و كان يشعر بصدق كم عانت ريكا.
‘……ريكا.’
أين أنتِ بحق؟
خلف الشوق الذي كان يملأ قلبه، بدأت مشاعر الغضب تتصاعد.
راوده العشرات من المرات في اليوم شعورٌ عارم برغبةٍ في قتل بروتور إيتينتيا، الذي اختطف ريكا، بضربة سيفٍ واحدة. و حتى أثناء حديثه مع الآخرين، لم يكن قادراً على إخفاء تعابير وجهه.
والشخص الوحيد الذي كان يهدّئ من حالته هذه……كانت ريكا.
لأنه يفتقدها بشدة.
حتى حين تكون أمامه، لا يملّ من النظر إلى وجهها، فكيف الآن، وقد اختفت من أمامه تماماً؟
ظل يتذكر صوتها حين تناديه، وعينيها الزرقاوين اللتين تنحنيان بلطفٍ عندما تبتسم، ودفء يدها حين تلمسه.
كان قلقاً……فربما ريكا يبكي الآن.
صحيحٌ أن بروتور إيتينتيا لم يكن يبدو وكأنه سيؤذي ريكا جسدياً، بناءً على تصرفاته السابقة، لكن التفكير في الأمر كان يدفعه إلى الجنون. وكان ما عرفه اليوم يزيد من شعوره ذاك.
‘اتضح أن تلك الطفلة كانت هي فعلاً.’
كتم هاوارد تنهيدةً كانت على وشك الخروج.
الفتاة في ذلك اليوم……كانت ريكا بالفعل. و لم يكن من الممكن ألا يفهم، إلا لو كان أحمقًا.
لا يعلم لماذا كذبت أوديا عليه وقالت أن ريكا ماتت، ثم اختفت إلى مكانٍ لا يعرفه أحد، لكن لو كانت تعرف أن بروتور، الشخصية الحقيقية لريكا، هو هرطقي يتبع ملك الشياطين، فربما يمكن فهم سبب فعلها لذلك.
فأوديا، التي كانت تعتبر والده، الدوق تشيلستون السابق، منقذ حياتها وكانت تكن له الولاء، لم تكن لتسمح ببساطةٍ لشخص يبدو أن له صلةٌ بهرطقي يتبع ملك الشياطين، أن يرحل دون فعل شيء.
“……شكرًا لكِ على إخباري.”
نهض هاوارد ببطء من مقعده.
لقد سمع ما يكفي عن ماضي ريكا. فقد حصل على معلوماتٍ لم يتوقعها.
ومهما يكن، فالحاضر أهم من الماضي. حان وقت التركيز من جديد على العثور على ريكا. وكان عليه أيضًا أن يعرف لماذا تغير موقف بروتور فجأة.
‘من قبل، كان يبدو وكأنه يحاول إقناع ريكا فحسب.’
في ذلك الوقت، بدا بروتور إيتينتيا واثقًا للغاية. كما لو كان بإمكانه كسب قلب ريكا في أي لحظة.
لكن تصرفاته الأخيرة كانت بعيدةً كل البعد عن ذلك. تصرف بتهورٍ وخطط بلا أي حساب، لا يليق بمن كان يخفي هويته كهرطقي رفيع المستوى ويبني قاعدته بهدوءٍ لسنوات.
باستثناء اختطافه لريكا، كل ما فعله من وجهة نظره كان خسارةً صافية.
فقد انكشفت حقيقته كهرطقيٍ رفيع، وتحطم الشرف الذي بناه بعناية، وسقط في الحضيض.
وبسبب ما فعله بروتور إيتينتيا، أصبحت الفئة المؤيدة للإمبراطور، التي كانت على علاقة وثيقة به، في مأزق شديد.
بل إن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد. ففي ظل هذا الوضع غير المسبوق، بدأت تُطرح مزاعم يصعب تصديقها داخل فرسان الهيكل.
فبعضهم بات يتساءل: هل بروتور إيتينتيا هو نفسه ملك الشياطين؟
___________________
وناسه من ذا الاذكياء 😂
المهم اشوا آنا ماعلمت هاوارد ان ريكا نوكس
بس باقي عاد هاوارد يلقى ريكا ويضمها قدام بروتور 😔
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 104"