“آنا! لقد جلبت لكِ ما طلبتِه!”
لم تكن جملةً مميزة على الإطلاق. فقد سمع مثلها مراتٍ كثيرة في طريقه إلى هنا.
لكن لسببٍ ما، هذه الجملة بالذات تسللت إلى أذن هاوارد بقوة غريبة، كأن أحدًا ما يهمس له من جانبه: “لا تتجاهلها.”
ربما كان السبب هو اسم “آنا” تحديدًا. فقد سمع من قبل أن صاحبة النزل الذي كانت ريكا تعمل فيه سابقًا كانت تُدعى آنا.
صحيحٌ أن اسم “آنا” منتشر في أنحاء إمبراطورية فيدوس، لكنه لم يستطع منع نفسه من التفكير…..للحظة فقط.
‘هل يُعقل أن يكون هذا هو نفس النزل؟’
حين تذكّر الأمر، بدا أن هذه القرية هي نفسها. فاستدار هاوارد بسرعة وقلق.
رأى الفتاة التي مرت للتوّ، وهي تسلّم كيسًا ورقيًّا لامرأةٍ تقف أمام نزل. فنظر هاوارد إلى النزل بعناية، وزفر زفرة خافتة.
كان هو. النزل الذي كانت تعمل فيه ريكا. تمامًا كما وصفه ليون في تقريره.
هاوارد ظل يحدّق في النزل بشرود، مستسلمًا لشعور لا يستطيع وصفه بدقة، وفي تلك اللحظة، عاد فيليب الذي كان قد اختفى للحظة، واقترب منه مجددًا.
“سيدي القائد، ما رأيكَ بذلك النزل هناك؟ النزل المحاط بجدار أزرق. لقد سألت بعض سكان المنطقة قبل قليل، ويبدو أنه الأكبر في هذه الأنحاء.”
“…….“
“يقال أنه بُني مؤخرًا، لذا فإن مرافقه حديثة ونظيفة جدًا. وليس ذلك فقط، بل إن صاحبة النزل طاهيةٌ ماهرة أيضًا. الجميع قالوا الشيء نفسه، لذا لا أظن أن هناك حاجة لنفكر في مكانٍ آخر-”
“دعنا نذهب إلى النزل هناك في الأمام.”
“كنت أعلم أنكَ ستقول…..ماذا؟! لكنكَ قبل قليل قلت لي أن أختار أي مكان، فلماذا فجأة..…؟”
قال فيليب ذلك وقد ارتسمت على وجهه علامات الحيرة، وهو ينظر حوله متعجبًا. لكن هاوارد تجاهله تمامًا، وسار مباشرةً نحو النزل بعينيه المثبتتين عليه.
رأت آنا، صاحبة النزل، فتاةً تلوّح لها مودعة، وحين اقترب منها رجل طويل القامة بخطوات سريعة، انتفضت قليلًا من المفاجأة.
“أه…..أهلاً وسهلاً بك، سيدي! هل جئت لتناول الطعام؟”
“…….“
“أم أنك تنوي الإقامة لليلة؟…..”
“أنوي الإقامة لليلة.”
أجاب هاوارد بعد لحظة صمت.
ورغم أنها شعرت ببعض التوتر من ظهور رجلين ضخمين ليس من المعتاد رؤيتهما في هذه المنطقة، عادت آنا سريعًا إلى ابتسامتها المهنية المعتادة.
“لدينا غرفتان متبقيتان تمامًا! سأقودكما إلى الداخل. هل ترغبان في تناول العشاء؟”
“أحضري الطعام لهذا الرجل فقط. أما أنا، فأرغب في الحديث معكِ.”
“الحديث معي؟ عن ماذا بالتحديد..…؟”
أمالت آنا رأسها باستغراب. وكذلك فعل فيليب الواقف خلف هاوارد.
لكن هاوارد تجاهل ردات فعلهما وأكمل حديثه،
“عن ريكا، أريد الحديث عن ريكا.”
***
“تفضل، هذا ماءٌ دافئ. بما أنكَ لا ترغب بتناول الطعام، فعلى الأقل اشرب هذا. الجو باردٌ اليوم.”
قدّمت آنا كوب الماء لهاوارد وجلست على الجهة المقابلة من الطاولة.
كان الاثنان قد دخلا إلى الغرفة التي خُصصت لهاوارد بعد أن قررا الحديث، ولأن النزل لم يكن يحتوي على مكان آخر مناسب لمحادثة هادئة بعيدًا عن الضيوف، لم يكن أمامهما خيارٌ آخر.
وبطلبٍ غير مباشر من هاوارد، اضطر فيليب لتناول طعامه في غرفته الخاصة.
تذكّرت آنا وجهه المتحيّر وهو يغادر، ثم أعادت تركيزها على الرجل الجالس أمامها.
رغم ملابسه الداكنة العادية التي لا تحمل أي تميّز، إلا أن مظهره كان يفيض بالهيبة والرُقيّ، وكان من الواضح لأي عابر طريق أنه رجلٌ من طبقةٍ عليا.
‘لكن لماذا يبحث رجلٌ بهذه المكانة عن ريكا؟’
بلعت آنا ريقها من التوتر.
بصراحة، حين قدّم نفسه باسم “هاوارد” وذكر اسم “ريكا”، فكرت لوهلة أن تتظاهر بأنها لا تعرف شيئًا.
فمثل هذا الرجل، تمامًا كالرجل الآخر الذي جاء بعد مغادرة ريكا بفترة قصيرة، بدا وكأنه جاء يبحث عنها لغاية ما أو للتحقيق بشأنها.
وآنا لم تكن تريد أن تفعل أي شيء قد يؤذي ريكا، مهما كان. لأنها كانت الطفلة التي أبقتها بجانبها لسنواتٍ كابنة، و كان الأمر طبيعيًا.
ومع ذلك، السبب الذي جعلها تقرر في النهاية ألا تتجاهله وتتحدث معه، كان نظرات هاوارد.
عندما رأته ينطق اسم “ريكا” وكأنها جوهرةٌ نادرة وثمينة، لم تستطع ببساطة أن تتجاوز الأمر.
رأت آنا هاوارد وهو يرتشف رشفةً من الماء الذي قدمته له. ثم، وبعد لحظة من التردد، سألته.
“……أود أن أطرح سؤالًا قبل أن نبدأ الحديث. هل يمكن أن تجيبني؟”
“ما هو؟”
“ما طبيعة علاقتكَ بريكا؟”
كانت تشعر بغريزتها أن هاوارد ليس شخصًا قد يؤذي ريكا، لكنها أرادت أن تتأكد بنفسها.
لم يجب هاوارد على سؤال آنا. بل بدا وكأنه لا يستطيع الإجابة.
تحركت شفتاه مرارًا دون أن يخرج صوت، وعانقت أصابعه الطويلة الكوب الدافئ ثم أفلتته مرات عديدة.
وبعد مرور بعض الوقت، بدأ هاوارد يتحدث ببطء.
“ريكا إنها…….”
آنا، التي كانت تنتظر بصبر، أدركت سريعًا سبب عجزه عن الإجابة. لأن عينيه كانتا تلمعان باحمرار.
“إنها الفتاة التي أحبها.”
“آه…….”
هذه المرة، لم تستطع آنا أن ترد.
رغم أنها كانت تتوقع الإجابة، إلا أن سماعها فعليًا أثار في نفسها مشاعراً غريبة. كأنها تقابل خطيب ابنتها.
وراء تلك العاطفة الغامضة التي لم تعرف سببها، اجتاحها شعورٌ غريب بالألفة.
‘انتظري لحظة، ريكا و وهاوارد؟ هذا المزيج من الأسماء مألوفٌ بطريقةٍ ما. أين سمعت هذا من قبل……’
“ريكا……هاوارد……”
رددت آنا الاسمين عدة مرات، ثم اتسعت عيناها فجأة.
“ريكا إيفريت وهاوارد تشيلستون!”
أليسا من أشهر الأسماء حاليًا في إمبراطورية فيدوس.
“لا يمكن……هل يمكن أن تكون ريكا تلك هي……”
“ما تفكرين فيه صحيح.”
أومأ هاوارد برأسه بخفة. و عند تلك الإجابة، نسيت آنا أن تحافظ على هدوء تعابير وجهها، وتنهدت بارتباك واضح.
لقد صُدمت لأن ريكا، التي كانت تعمل في نُزلها، أصبحت فجأةً نبيلة، لكن ما صدَمها أكثر هو أن الضحية في “قضية اختطاف الهراطقة” الشهيرة التي سُمعت مرارًا وتكرارًا، هي “ريكا” بالذات.
“هل، هل ريكا بخير؟ أين هي الآن؟”
خرج صوت آنا مرتجفًا بشكل واضح. وكأنها تستعجل الإجابة من الطرف الآخر.
رغم أن ذلك قد يُعد وقاحةً في نظر البعض، إلا أن هاوارد لم يشعر بذلك. و لقد كان يتفهم تمامًا شعورها الملحّ. بل إنه كان يتألم أكثر منها، لا أقل.
“ما زلتُ أبحث عنها. ولهذا أردت أن أتحدث معكِ.”
ارتشف هاوارد رشفةً أخرى من الماء. و يبدو أن التوتر جفف حلقه.
“إذا كنتِ تعرفين أي شيءٍ عن ريكا، أرجو أن تخبريني بكل شيء. حتى وإن بدا تافهًا. قد يساعدنا في العثور عليها.”
كان يبدو أن العداوة بين بروتور و ريكا تعود إلى زمن بعيد. و ربما لو تتبع ماضي ريكا، قد يعثر على خيط ما.
رغم أنه لم يأتِ إلى هذا المكان بنيةٍ محددة، فقد قرر أن يجمع أي معلومة مهما كانت بسيطة. فبالنسبة لهاوارد الآن، حتى القليل له قيمةٌ عظيمة.
‘ليتني فقط سألتها دون تردد.’
هذا ما ظل يفكر فيه مئات المرات طوال الأسبوع الماضي.
عند التفكير بالأمر، هاوارد تشيلستون لم يكن يعرف شيئًا تقريبًا عن ماضي ريكا. حتى أنه لم يعلم بعلاقتها بأوديا إلا مؤخرًا.
كان قد طلب من ليون التحقيق سابقًا، لكن لم يتعد الأمر ذلك. ومع أن التحقيق استمر طويلًا، فإنه لم يُفضِ إلى شيء يُذكر، فتذرّع بـ”لا مفر” واختبأ خلف تلك الحجة، دون أن يبذل جهدًا حقيقيًا.
وها هي نتائج ذلك الغرور تتجلى الآن.
لم يكن يريد أن يكرر نفس الخطأ مجددًا. لا، في الحقيقة، لم يكن ذلك الخطأ الوحيد. لقد استهان ببروتور إيتينتيا كثيرًا.
مهما كان الخصم من كبار الهراطقة، فإن القول بأن فرسان الدوقية العظيمة هُزموا بهذه السهولة دون مقاومة يُعد مجرد عذر جبان.
كان عليه أن يتخذ احتياطاتٍ مختلفة حين أدرك أن خصمه ليس عاديًا.
لقد كان خطأه، بوضوح. ما كان يجب أن يترك ريكا تذهب وحدها في ذلك اليوم. كان يجب أن يذهب معها مهما كلّف الأمر، ويبقى إلى جانبها.
و سواءً أكان لديه إذنٌ من الإمبراطور أم لا، كان عليه أن يستدعي الفرسان المقدّسين أيضًا.
ما دامت حياته قُدِّرت لحماية ريكا، فإن الإجراءات الرسمية لا تساوي شيئًا.
لقد قال لها ألا تقلق، رغم أن ملامحها كانت تنطق بالقلق.
“وأنا أيضًا. أنتَ الأهم بالنسبة لي، هاوارد.”
مرّ في ذهنه وجهها المشرق وهي تبتسم ببراءة. فزفر هاوارد نفسًا مرتجفًا وطويلاً.
وبينما شعرت آنا بمدى اليأس الذي يعتريه، بدأت تروي له كل ما تعرفه عن ريكا.
كم كان عمرها حين جاءت إلى النزل، ما الطعام الذي كانت تحبه أكثر من غيره، ماذا كانت تفعل في وقت فراغها، ومن كان أقرب أصدقائها أثناء عملها في النزل…..
وبما أن الحديث يدور عن ريكا، فكل شيءٍ كان ذا قيمة بالنسبة لهاوارد، حتى لو لم يكن جوهريًا.
في الحقيقة، لم تكن تلك المعلومات مهمة. أو على الأقل، هذا ما كان يظنه.
حتى صفقت آنا بيديها بخفة كأن شيئًا تذكّرته لتوها.
“آه! صحيح! تذكرت شيئًا غريباً!”
“شيئًا غريبًا؟”
“نعم. حدث أمرٌ غريب بعد مجيء ريكا إلى هنا بفترة قصيرة..…”
ثم تابعت حديثها ببطء، وكأنها تسترجع تفاصيل الماضي.
“لون شعر ريكا تغيّر وقتها، وأصبح كما هو الآن. أنا متأكدةٌ أن شعرها كان أسود من قبل.”
___________________
تراااا تراااااااا
كنت متوقعه وواضحه بس حلوه يوم درى هاوارد😭
بس آنا مابيها تعامه ام ريكا نوكس ابي ريكا تعلمه بنفسها توجع اكثر
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 103"