“……أتذكر؟”
هل كان يقصد أن يسأل إن كنتُ أعلم بحقيقته كهرطقي؟
سألته بحذرٍ دون أن أخفف من توتري، فأطلق بروتور تنهيدةً خفيفة، وبدت على وجهه ملامحٌ يصعب فهمها.
“حسنًا، لا بأس. لنتناول الطعام أولًا.”
مد بروتور يده وقطع قطعةً صغيرة من الخبز، ثم غمسها في الحساء ووضعها في فمه مباشرة.
بلع-
و لم تمضِ لحظات حتى ابتلع الطعام.
“الآن يمكنكِ أن تأكلي، أليس كذلك؟”
كان وكأنه يريد أن يثبت لي أن الطعام ليس فيه ما يُريب. وبصراحة، حتى لو فعل ذلك، لم أكن أرغب في الأكل، وهذا لم يكن بسبب الطعام نفسه، بل بسبب حالتي النفسية.
أما جسدي فكان له رأيٌ مختلف. فقد مضى وقتٌ طويل منذ أن تناولت شيئًا، وجسدي كان يصرخ مطالبًا بالطعام.
شعرت بأن رأسي بدأ يؤلمني بشكلٍ مستمر منذ قليل بسبب الإرهاق. كان يجب أن آكل أولًا. فقد شعرت أنني لن أستطيع التفكير بوضوح إن لم أفعل.
وبعدها، يجب أن أجد وسيلةً للهروب من هنا، بأي ثمن.
أخيرًا، سحبت الصينية نحوي، ورفعت الملعقة وبدأت أتناول الحساء ببطء.
عندها ارتسمت على وجه بروتور ابتسامةٌ راضية.
“هذا مايجب أن تفعليه.”
هاه……ألا يمكنكَ فقط أن تختفي من أمامي؟
معدتي كانت مضطربةً بالفعل، ورؤية وجهه كانت تزيد شعوري بالغثيان.
مزّقتُ قطعة خبزٍ وكأنها بروتور نفسه، و وضعتها في فمي وبدأت أمضغها بجدية وبكل ما أوتيت من قوة.
وبينما كنت أتناول الطعام ببطء، بادرني بروتور بالكلام مجددًا.
“ريكا، ألا يثير فضولكِ لماذا اقتحمتُ قصر الدوق وحدي؟”
توقّفت يدي التي كانت ترفع الملعقة.
أن أقول أنني لم أكن فضولية إطلاقًا سيكون كذبًا. لأنه و بلا شك أنه كان يملك خياراتٍ أفضل من ذلك.
ربما لاحظ ما دار في بالي، إذ ابتسم ابتسامةً أعمق من ذي قبل.
“كل ما يتعلق بكِ قررت أن أفعله بنفسي، بالكامل. طالما أستطيع مراقبتكِ بنفسي، فلا بأس. لكن إن لم أكن قادرًا على ذلك، فلن أستعين بأي كائنٍ آخر.”
ثم أضاف كلامًا مبهمًا،
“في السابق، عندما فعلت ذلك، انتهى بكِ الأمر مصابةً بشدة.”
“أنا؟ متى؟”
هل يقصد ما حصل في أنِيما؟ حين اصطدم رأسي بعربةٍ وفقدت وعيي؟
صحيحٌ أنني ارتطمت بقوة، لكن هل يصف أحدٌ إصابةً كهذه بذلك الأسلوب؟
بالنظر إلى تصرفات بروتور وكلامه الآن، يبدو وكأنني كنت على وشك الموت فعلًا.
‘……ثم ما باله ينظر إليّ بذلك الوجه منذ قليل؟’
كأنه يشعر بالذنب حقًا.
وما إن بدأت أفكر بذلك، حتى غيّر بروتور ملامح وجهه بسرعة. وعندما عدت إلى وعيي، كان يبتسم مجددًا، وكأن شيئًا لم يحدث.
“منذ زمنٍ بعيد، في أوفيلين.”
“أوفلين؟”
“نعم. قلتُ لكِ هذا كله ولا تزالين لا تتذكرين؟”
سأل بروتور بذلك الوجه الذي بدا عليه بعض القلق.
“حقًا؟”
لكنني لم أستطع قول أي شيء. لأنني لا أعرف على الإطلاق عما يتحدث هو.
“آه.”
بل وبدأ رأسي يؤلمني أكثر من ذي قبل، ربما لأني أجهدت نفسي بالتفكير.
وضعت يدي على رأسي وأطلقت أنينًا خافتًا. عندها تراجع بروتور الذي كان يلح علي.
“يبدو أنكِ لا تزال بحاجةٍ إلى بعض الوقت. أفهم أنكِ لا تتذكرين. فأنا من جعلكِ هكذا، وليس غيري، ومن الطبيعي أن يحتاج الأمر وقتًا لتعود.”
“ماذا؟”
“لكن لا بأس، سأبقى قريبًا منكِ لفترةٍ طويلة من الآن فصاعدًا. وحينها ستفهمين ما أقول. كان علي أن أفعل هذا منذ زمن، لكنني تهاونتُ كثيرًا.”
“ما الذي تقوله بالضبط؟”
“لا تتعجلي. ستعرفين قريبًا.”
نهض بروتور من مكانه. و بدا وكأنه لا يريد الاستمرار في الحديث عن هذا الموضوع الآن.
“كلي بهدوء. سأقوم بتحضير كل شيءٍ لتتمكنِ من الاستحمام فور انتهائكِ من الأكل. ويجب أن تبدّلي ملابسكِ بسرعة أيضًا. فلا يمكنكِ البقاء بهذا المظهر طوال الوقت.”
حين خفضت رأسي دون قصد، رأيت ملابس المألوفة.
تيشيرت أبيض بأكمامٍ قصيرة وسروال قصير.
“إن احتجتِ شيئًا، اسحبِ هذا. و سأحضر فورًا.”
قال بروتور ذلك بهدوء وهو يشير إلى حبل الجرس، ثم استدار. ومشى مباشرةً نحو الباب.
وفي اللحظة التي كنت أفكر فيها بإيجاد وسيلةٍ ما للهروب أثناء مراقبة ظهره،
“آه، ريكا. فقط لأكون واضحًا.”
استدار بروتور بجسده فجأة. وتناثرت خصلات شعره الأحمر مع حركته.
“كما تعلمين، أنا هزطقي. ومن النوع الماهر جدًا أيضًا.”
اتسعت عيناي من الاعتراف غير المتوقع. فلم أظن أبدًا أن بروتور سيقول ذلك بهذا الوضوح.
“أنتَ…..”
نظر إليّ بصمت، مقاطعًا عجز كلماتي، وحدّق في عينيّ مباشرة. و بدتا عيناه الخضراوان كأن شراراتٍ تشتعل فيهما.
“لهذا، من الأفضل ألا تفكري بمحاولة الهرب عبثًا. اتضح هذا لكِ، أليس كذلك، ريكا؟”
قال تحذيره الأخير وهو يميل برأسه قليلًا، ثم غادر الغرفة. ومع صوت إغلاق الباب، تسلل إلى أذني صوتٌ مزعج بدأ يثير ضيقي.
تشيليك-
كان صوت مفتاحٍ يدور في القفل.
بعد أن اختفى بروتور، نظرت أخيرًا حول الغرفة التي كنت فيها، وعندها فقط أدركت الحقيقة.
لم تكن في هذه الغرفة أي نافذة. و لا في أي مكانٍ في الجدران الأربعة المصمتة.
***
تم اختطاف ريكا إيفيريت. وقد تسبب هذا الحدث في ضجةٍ كبيرة ليس فقط في أوفيلين، بل في إمبراطورية فيدوس بأكملها.
سواءً من كان يعرف وجه ريكا أم لا، فإن الجميع كانوا مشغولين بالحديث عن هذا الأمر أينما التقوا.
فقد كانت ريكا إيفيريت حبيبة قائد فرسان الهيكل الشهير، هاوارد تشيلستون، وهذا وحده سبب كافٍ للضجة.
لكن كان هناك سببٌ أكبر جعل الحادثة تنتشر بهذا الشكل الواسع.
رغم أن أي تفاصيل لم تُعلن رسميًا بعد عن الحادثة، بدأ يتناقل الناس سرًا أن الخاطف هو هرطقي.
في البداية، رفض كثيرون الفكرة وسخروا منها، لكن سرعان ما بدأوا يعتقدون أنها قد تكون حقيقية. فلكي يتمكن من هزيمة كل أولئك الفرسان في قصر الدوق تشيلستون، لا بد أن يكون شخصًا ذا قوة هائلة.
هرطقي يخطف حبيبة قائد فرسان الهيكل؟ كان ذلك محتوى صادمٍ جعل الشائعات تنتشر كالنار في الهشيم.
ومع كل شخص جديد تُنقل إليه، كانت الشائعة تزداد تفاصيل جديدة. حتى وصلت الأمور لدرجة أن بعضهم بدأ يقول أن هوية الهرطقي قد تسرّبت، وأنه “بروتور إيتينتيا”.
“يا إلهي، أليس الكونت إيتينتيا من أبرز أتباع الإمبراطور؟”
“حقًّا، هذا ما يثير الاستغراب. كيف يمكن لأحد من المقربين من جلالة الإمبراطور، الذي يضم المعبد تحت سلطته، أن يفعل شيئًا كهذا؟ لا بد أن جلالته يشعر بصدمةٍ لا توصف. من المؤكد أنه لا يستطيع النوم من شدة الخيانة.”
“لكن أليس الأمر الأخطر أن الكونت إيتينتيا اختطف الآنسة إيفيريت تحديدًا؟ أليس كل من حضر حفلة الكونت إيتينتيا قد شاهد الأمر بأم عينه؟ في ذلك اليوم، كان الكونت إيتينتيا والدوق تشيلستون يتجادلان بشأن الآنسة إيفيريت. و الأجواء لم تكن طبيعية أبدًا.”
هكذا أخذ الناس يتهامسون جميعًا. وخلال أيامٍ قليلة، انهالت على المعبد استفساراتٌ لا حصر لها حول صحة الشائعات.
وكانت فرقة فرسان الهيكل تعيش جحيمًا حقيقيًا. فهم لم يستطيعوا بعد حتى فك أول خيط من لغز ملك الشياطين، وها هو هرطقيٌ يظهر فجأة ويقلب قصر الدوق تشيلستون رأسًا على عقب.
وفوق كل هذا، اختُطفت ريكا إيفيريت، ووفقًا لشهادات الفرسان الذين نجوا من الحادثة، فالهرطقي ليس سوى الكونت الصاعد مؤخرًا، بروتور إيتينتيا.
كان لا بد من معرفة ما إذا كان سبب اختطاف بروتور لريكـا إيفيريت هو حقًّا كونها حبيبة قائد فرسان الهيكل كما تزعم الشائعات، أم أن هناك سببًا آخر خفيًّا.
كما كان يجب التحقيق فيما إن كان بين حلفاء بروتور من أتباع الإمبراطور هراطقة آخرون متخفّون أم لا.
سلسلة الأحداث كانت جميعها صعبة الحل، مما جعل الفرسان بالكاد يستطيعون رفع رؤوسهم من شدة التعب، لكن لم يتفوه أحدٌ منهم بكلمة شكوى واحدة. والسبب لم يكن سوى قائدهم.
“سيدي القائد.”
نادى فيليب على هاوارد بحذر. فالتفت هاوارد ببطء وهو الذي كان يتحدث مع بعض المارّة على الطريق.
كانت عيناه محمرتين بشدة، ووجهه شاحبًا كما لو أنه لم يرَ ضوء الشمس منذ زمنٍ طويل. وكان ذلك نتيجة المسيرات القاسية التي خاضها خلال الأيام الماضية.
منذ أن علم باختفاء ريكا، تحرّك هاوارد بسرعةٍ وكأن الحزن لم يجد إليه سبيلًا. و أول ما فعله هو إغلاق بوابات أوفيلين، وبدأ بتفتيش كل من يعبرها، تمامًا كما فعلوا أول مرة ظهر فيها الأمر المتعلق بـ النوكس.
وفي الوقت نفسه، شكّل فريق تحقيقٍ مكوّنًا من فرسان الهيكل الموثوقين، وبدأوا سرًا بتفتيش قصر الكونت إيتينتيا الخالي من صاحبه، واستجوبوا جميع الخدم الذين لم يفهموا ما الذي يجري.
ثم بدأوا بتفتيش كل الأماكن المعروفة التي كان بروتور إيتينتيا يرتادها، من المسارح إلى ميادين الفروسية، وصالات الألعاب، والمطاعم—لم يتركوا مكانًا إلا وفتّشوه.
وكل ما ذُكر حدث خلال خمسة أيامٍ فقط. و لم يرتح أبدًا طوال تلك الفترة.
وكان معنى “لم يرتح” يشمل حتى أنه لم ينم.
من الواضح أنه كان بإمكانه إبطاء وتيرة التحقيق قليلًا بالنظر إلى الجهد الهائل المبذول خلال أيام قليلة، لكنه لم يفعل.
ومع أنهم قلبوا أوفيلين رأسًا على عقب، لم يتمكّنوا من العثور لا على ريكا، ولا على بروتور، كما أن تفتيش قصر إيتينتيا واستجواب خدمه لم يُثمر عن أي شيء مهم، لذا بدأ هاوارد بتوسيع نطاق التحقيق إلى ما وراء حدود أوفيلين.
وبما أن فرسان الهيكل قد تم إرسالهم في مهامٍ مختلفة ضمن التحقيقات المتعددة، قرر هاوارد أن يذهب بنفسه و بمفرده، لكن فيليب لم يستطع السماح له بذلك، وبعد إلحاح شديد منه، وافق هاوارد على أن يرافقه، وهكذا وصلا إلى هذا المكان.
كانا شارعٌ مزدحم بالفنادق، حيث واصلوا التحقيق خلال يومين بحثًا عن أي أثرٍ لبروتور إيتينتيا.
“دعنا نبحث الآن عن مكان نقيم فيه الليلة. لقد تأخر الوقت كثيرًا.”
قال فيليب ذلك بوجه متعب. فكلما فعل هذا، كان هاوارد يتظاهر بـ”الراحة” على الأقل، حتى يطمئن فيليب ويتمكن من أخذ قسط من الراحة هو الآخر.
“…..حسنًا.”
قال هاوارد ذلك بعد أن شكر الشخص الذي أجابه أثناء إجراءه للتحقيق، ثم اقترب من فيليب.
وبالنظر إلى وجهه، بدا واضحًا أنه لم يحقق أي نتيجة.
“إلى أي نزل نذهب؟”
“أي مكان سيكون جيدًا، اختر ما تريد…..”
وفي اللحظة التي كان هاوارد يجيب فيها، قاطعته فتاة بصوت مرتفعٍ وهي تمرّ مسرعة بجانبه.
“آنا! لقد جلبت لكِ ما طلبتِه!”
_________________
آنااااا خوية ريكاااا
وضع هاوارد يحزن وريكا خوفها يحزن وبروتور بكل برود جالس يتبوسم ومستانس ان ريكا معه المجنون
وطلع هو الي لاعب بذكريات ريكا💀
يعني ريكا اذا طولت معه يمكن تتذكر انها ام شعر اسود؟
ويوم قال وصيت احد غيري قصده الوحوش؟ ياذا المجنون مهووس فيها من يومها صغيره بس ليييه؟!
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 102"