“سيدي القائد! بدأنا نرى النهاية!”
صرخ أحد الفرسان المقدّسين بصوت عالٍ. فأومأ هاوارد برأسه بخفة، ثم لوّح بسيفه بسرعة. و الجسد الضخم الذي كان يعيق طريقه سقط أرضًا محدثًا صوت ارتطام ثقيل.
و كما قال الفارس، بدا أن الوحوش التي كانت تهاجمهم دون توقف منذ ساعات بدأت أخيرًا تقل.
“هاه……”
زفر هاوَارد تنهيدةً طويلة.
كل هذا حدث فجأة، وكأن الزمن انقلب في لحظة.
قبل عدّة ساعات فقط، أي بعد وقت العشاء بقليل، كان هاوارد يخرج من مكتبه. في وقت أبكر من المعتاد. و كان قد أخبر ريكا أنه سيعود عند الساعة الثامنة، وقت انتهاء دوامه، لكنه ببساطة لم يستطع الانتظار.
“في الحقيقة……الأمر هو……”
عندما سألها إن كان هناك ما يقلقها، بدأت ريكا تبوح بما في داخلها.
وعندها علم أن ذلك اللعين بروتور إيتينتيا يخطط هذه المرة لاستهداف ريكا عن عمد.
و منذ تلك اللحظة، سيطر على تفكيره أمرٌ واحد فقط، يجب أن يحمي ريكا مهما حصل.
لذا، أسرع في إنهاء أعماله قدر المستطاع. واستأذن من فيليب، وترك له مهمة قيادة الفرسان، إذ كان ينوي البقاء في قصر الدوق لبعض الوقت.
كان واثقًا أن ريكا ستغضب وتبدأ بالصراخ بسبب ما سمّته “العقوبة”، لكن إن كان ذلك سيضمن سلامتها، فلم يكن الأمر يهم هاوارد على الإطلاق.
غيابٌ واحد لن يتسبب بانهيار فرسان النخبة على أي حال.
و بهذا الشعور المرتاح قليلًا، حاول الخروج مسرعًا من المعبد، لكن فجأة اجتاحته هالةٌ مزعجة والتفت حول جسده بالكامل.
كانت تلك نفس القوة التي يشعر بها دائمًا عند مواجهة الوحوش. فاستل هاوارد سيفه فورًا، وكما توقع تمامًا.
“سيدي القائد! إنه هجوم!”
صرخ فرسان الهيكل الذين كانوا يدخلون المعبد بلهفة. و لم يمض وقت طويل حتى تحول محيط المعبد إلى فوضى عارمة.
الحديقة عند المدخل سُحقت تمامًا تحت أقدام الوحوش، والزهور والأعشاب تهشمت. حتى الباب الرئيسي المزخرف بدقة تحطم بشكلٍ مروع. و كانت الصرخات تتعالى من كل مكان.
كان مشهدًا مروعًا لا يوجد فيه شيءٌ سليم، لكن الأمر الأغرب كان شيئًا آخر.
الوحوش كانت تندفع فقط باتجاه المعبد. و رغم وجود مبانٍ أخرى مدمرة في الجوار، لم تكن الوحوش تهاجمها عمدًا.
حتى بنظرة سريعة، كان يمكن إدراك ذلك. فالدمار المحيط لم يكن إلا نتيجة لحركة الوحوش الضخمة واصطدامها بما حولها.
تصرفت الوحوش وكأنها لا ترى شيئًا سوى المعبد. أو بالأحرى، وكأنها تحاول منع شخص ما داخل المعبد من الخروج.
وهاوارد كان يعلم، أكثر من أي أحد، أن ذلك “الشخص” هو نفسه السبب. وكان يعرف أيضًا من الذي دبّر هذا الأمر.
“بروتور إيتينتيا……”
تمتم هاوارد باسم ذاك الشخص، وهو يعض شفتيه. واشتدت قبضته على مقبض السيف حتى برزت العروق على ظهر يده.
ما إن سمع بما حدث مع ريكا اليوم، حتى وقعت هذه الأحداث وكأنها كانت بانتظاره. و من الواضح أنها من تدبير بروتور.
‘الأمر واضحٌ إلى هذا الحد، و سيكون من الغريب ألا يعرف بذلك أحد.’
شق هاوارد الوحش الذي هاجمه. ثم الوحش الذي يليه، ثم الذي بعده.
وبينما كان يواصل ذلك العمل مرارًا، محاولًا كبح قلقه، شعر بشيءٍ من التكرار.
لقد مرّ بموقفٍ مشابه من قبل. عندما حضر حفلةً في منزل الكونت إيتينتيا، ثم اضطر للخروج في منتصفها للتعامل مع الوحوش.
في ذلك الوقت، كان هاوارد قد ترك ريكا المريضة خلفه. و مجرد التفكير في أنه ترك شخصًا مريضًا وحده في مكان لا يعرف فيه أحدًا كان يزعجه.
عليه أن يعود بسرعة. هكذا قرر في ذلك الحين، تمامًا كما يفعل الآن. لكن، بالطبع، الوضع الآن مختلفٌ كثيرًا عن ذلك الوقت.
فريكا كانت بصحةٍ جيدة إلى درجة أنها ابتسمت له قبل بضع ساعاتٍ فقط، ولم تكن وحدها. بل هناك عدد لا يُحصى من فرسان الدوق كانوا بجانبها، يحرسونها وحدها فقط.
ولو حصل شيء، فقد زُوّد الفرسان بجهاز إشارات يعمل بالقوة المقدسة لإرسال إشارات استغاثة. وهو جهازٌ يمكن لأي شخص يستخدم القوة المقدسة، حتى وإن لم يكن فارسًا مقدسًا، أن يشغله.
لذلك، لا بد أن كل شيء سيكون على ما يرام. لا بد أن الأمور ستكون بخير.
‘……لكن، لماذا أشعر بهذا القلق؟’
شعر وكأن ثقبًا كبيرًا قد انفتح في صدره. فراغٌ لا يمكن سده مهما حاول جاهداً، يتسع بلا توقف وبشكل لا يمكن السيطرة عليه.
هل السبب هو تحذير بروتور المسبق؟
‘ريكا.’
ريكا.
ريكا.
ظل هاوارد يناديها في قلبه بلا انقطاع، يشتاق إليها.
ومن شدة قلقه، بدأ العرق البارد يتسلل على ظهره. و جفّ فمه تمامًا، وبصره كان يومض بالبياض ويعود مرارًا.
هاوارد، وهو يتحمّل كل ذلك، شطر وحشًا آخر إلى نصفين، ولا يدري كم مرة فعل ذلك. وبعد وقت قصير، اختفى كل وحش بالقرب من المعبد.
جلس الفرسان المقدسون على الأرض منهكين تمامًا.
“أخـ……أخيرًا انتهى الأمر……”
وتعالت الهتافات من كل مكان.
وبعد لحظات من الانتظار والتأكد من عدم وجود أي حركة في الجوار، بدأ الفرسان، وكأنهم لم يكونوا يحتفلون قبل لحظة، في إنجاز المهام الموكلة إليهم كما تليق بتدريبهم الصارم.
“هل هناك مصابون في الجوار؟”
“تحققنا من الأمر خلال المعركة، ومعظم الإصابات طفيفة. سيتم نقل الجميع إلى مركز العلاج.”
“الجدار الخارجي قد انهار بالكامل. يجب إعادة بنائه أولًا. وكذلك البوابة الرئيسية.”
“يجب أيضًا تحديد الطريق الذي جاءت منه الوحوش. فعلى الأرجح، تسللت من الجبل خلف المعبد.”
أمام المعبد الذي أصبح أنقاضًا، دارت نقاشاتٌ متعددة. وفي وسط كل ذلك، كان هاوارد واقفًا بصمت. و ما إن رآه فيليب، حتى اقترب منه وسأله،
“هل سمعت كل ما أبلغناكَ به يا سيدي؟ ما رأيك بكيفية التصرف؟ برأيي، من الأفضل أن نمنع دخول الغرباء أولاً.”
“….…”
“سيدي القائد؟”
عندما لم يرد هاوارد، ناداه فيليب مرة أخرى. لكن هاوارد ظل صامتًا.
شعر فيليب بشيءٍ غريب، فاقترب منه أكثر ليتفحصه، ثم تجمد في مكانه.
كانت تلك أول مرة يرى فيها تعبيرًا كهذا على وجه هاوارد تشيلستون. فعيناه الحمراوان كانت تهتزان بلا تركيز، تتنقلان يمينًا ويسارًا بلا هدف.
“……لا يوجد.”
تمتم هاوارد بوجه شاحبٍ كالورق. وكأن روحه قد انسحبت من جسده.
“لا يوجد أي استجابة.”
حين تبع فيليب نظرة هاوارد، فهم أخيرًا ما الذي يعنيه.
كان هارارد يمسك بيده جهاز الإشارة. الجهاز الذي وزعه اليوم على فرسان دوقية تشيلستون، وكان يحمل نسخةً مطابقة له.
عدم استجابة جهاز الإشارة، لم يكن مجرد أمر عابر. و كان هناك احتمالان فقط.
إما أن الجهاز قد تعطل ولم يعد يعمل، أو أنه لم يعد هناك أي شخصٍ يملك قوةً مقدسة بالقرب منه. وفي كلتا الحالتين، كانت الأمور غير منطقية.
خصوصًا أن جهاز الإشارة محميٌ بالقوة المقدسة، ومن المستحيل أن يتلف بسهولة.
رغم أن هاوارد لم يشرح حتى الآن لماذا كان فرسان دوقية تشيلستون يحرصون بشدة على حماية ريكا إيفيرِت، ولماذا تم تسليمهم جهاز الإشارة……إلا أن هناك أمرًا واحدًا واضحًا تمامًا.
لقد ظهر شخصٌ في قصر دوقية تشيلستون يملك قوةً معاكسة للقوة المقدسة. وبعبارة أخرى، هرطقي. وهذا وحده كان كافيًا كي يتحرك فيليب فورًا.
“……فيليب، أغلق كل مداخل ومخارج المعبد فورًا، وابدأوا بتمشيط المعبد بالكامل. قد يكون الهرطقي قد دخل إلى هنا أيضًا……جميع من زار المعبد اليوم، احتجزوهم. بل، قد يكون متنكرًا في هيئة كاهن أو فارس مقدس، لذا تأكدوا من هوية كل فرد، وأي شخص غير معروف أو لا يملك إثباتًا واضحًا…….”
هاوارد، رغم أنه كان في حالة شبه غيابٍ عن الوعي، بدأ يصدر الأوامر بلهجة مستعجلة. و حتى في هذا الوضع، كان يتحمّل مسؤولية كونه قائد الفرسان المقدسين.
هل كان يدرك كيف يبدو وجهه الآن؟
نظر فيليب إلى قائده، الذي كان يبدو في قمة الحزن والهيبة في آن، ثم ناداه بهدوء،
“سيدي القائد.”
فاتجهت نظرات هاوارد المضطربة القلقة نحو فيليب.
وعندها، نظر إليه فيليب في عينيه، تحدث بصوتٍ منخفض.
“سيدي القائد، لقد فوضتني منذ اليوم بتولي مهام القائد مؤقتًا. وبناءً على ذلك، سأهتم بالأمور هنا من هذه اللحظة. لذا، عليكَ الإسراع إلى قصر الدوق فورًا.”
“فيليب……”
“هيا. الفرقة المقدسة ليست بهذا الضعف. سأعطي التعليمات اللازمة للفرسان ثم نلحق بكَ مباشرة. علينا الإمساك بذلك الهرطقي الذي تجرأ واقتحم مقر قائد الفرقة المقدسة.”
تردد هاوارد للحظة، ثم أومأ برأسه ببطء. و أمر أحد الفرسان المقدسين القريبين منه أن يُحضِر له حصانًا، وما إن جاء، امتطاه على الفور.
وقبل أن ينطلق، أصدر أمرًا أخيرًا لفيليب،
“تأكد من أن لا أحد يخرج من المعبد. لا تسمح لأي شخصٍ بالهرب.”
‘إنه دقيقٌ للغاية، كما هو متوقع.’
أومأ فيليب برأسه، وراقب هاوارد وهو يبتعد بسرعة. ثم بدأ على الفور بترتيب الأمور، وقاد الفرسان باتجاه قصر الدوق.
كان يشعر بإحساسٍ سيئ. كأن الهجوم الذي حصل اليوم على المعبد، لم يكن سوى تمهيدٍ لما سيأتي لاحقًا.
‘أرجو ألا يحصل شيء.’
وإن حصل، فليكن أمرًا بسيطًا.
رغم أنه يعرف أن الاحتمال ضعيف، إلا أن فيليب تمنى من قلبه. لأنه شعر أن ذلك وحده قد يكون كافيًا لينجو هاوارد، الذي بدا وكأنه على وشك الانهيار.
لكن، ألم يقولوا أن الأمنية التي يُرجى تحقيقها بشدة، غالبًا لا تتحقق؟
وصل فيليب إلى قصر دوقية تشيلستون متأخرًا بخطوةً خلف الفرسان المقدسين، ليشهد منظرًا مروّعًا.
من عند البوابة الرئيسية، كان الفرسان والخدم ممددين أرضًا، ينزفون دماءهم. فأمر فيليب الفرسان باستدعاء الأطباء، ثم بدأ يتحرك بسرعة بحثًا عن قائده.
وفي بهو الطابق الأول، رآه. هاوارد كان يقف هناك، و عيناه تتلألآن بغضبٍ صامت، يشعّ منه سكونٌ مريع.
وكان في يده خصلة شعرٍ بيضاء، من الواضح لمن تعود.
____________________
بروتور خذاها صدق الحمار ماينتظر شوي حتى احسب هاوارد بيلحق عليه💀
هاوارد وهو يأكد اكثر من مره مايخلون احد يطلع عساه يلقى الامبراطور متنكر لأنه كان يساعده وينقفط المجنون
المهم لاتفرقون ريكا وهاورد وقت طويل 😔
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 100"