التجسد في جسد آخر أمر مروّع.
ذلك ما خلصتُ إليه خلال العامين الماضيين.
“ما اسمي؟”
ما إن فتحتُ عيني في السرير المألوف حتى سألتُ الخادمة.
كنتُ أتساءل، أي جواب ستعيده إليّ اليوم؟
‘بيغونيا لارْس؟ أم أوفيليا ميريال؟’
في النهاية، لا بد أن يكون أحد هذين.
“آه يا آنستي، ألا يكفي هذا السؤال كل يوم؟!”
أدرتُ عينَي المتعبتين نحوها، فوجدتها قد وضعت يديها على خاصرتها بنفاد صبر.
يبدو أن سؤال الصباح المعتاد قد صار مملاً بالنسبة لها.
“اسمكِ هو بِيغونيا لارْس. هيا انهضي الآن، عليكِ أن تستعدي للخروج.”
“هاه…”
تسلّل زفير طويل من بين شفتي.
إذن، لم أفلح اليوم أيضاً في الانفكاك من جسد بيغونيا.
قبل عامين، وجدتُ نفسي وقد تجسدت في جسد إحدى شخصيات الرواية التي كتبتها بنفسي.
لو أن الأمر اقتصر على ذلك فحسب، لكان محتملاً.
ربما كان الموت عندها أهون بكثير.
غير أن المعضلة الكبرى هي أنني لم أتجسد في شخص واحد فحسب، بل ظللتُ أتنقّل بين جسدين.
الشريرة الرئيسة في الرواية، بيغونيا لارْس.
وشابة أخرى لا وجود لها أصلاً في الرواية، أوفيليا ميريال.
وبفضل ذلك، لم يعد الموت خياراً متاحاً لي.
فكلما أصبتُ إصابة قاتلة، انتقلتُ إلى الجسد الآخر.
“لماذا تتنهدين يا آنستي؟ ألأنكِ لا تحبين اسمكِ بعد كل هذا؟”
‘نعم، فأنا أكره بيغونيا. أو بالأحرى، أكره حياتها.’
“أنتِ ذاهبة لمقابلة الدوق أليس كذلك؟ يجدر بكِ أن تبتسمي.”
الدوق هو بطل الرواية وخطيب بيغونيا.
أما البطلة الحقيقية للرواية، فهي صديقة بيغونيا.
وبجمع هاتين الحقيقتين…
فالمعنى أن الخطيب خان خطيبته مع صديقة طفولتها.
وفوق هذا، كان الجميع يكرهون بيغونيا كما يليق بالشريرة في الروايات.
في الحفلات كان رَشّ الشاي عليها أمراً معتاداً، وفي الأيام الأكثر نحساً لم تكن تسلم حتى من الصفعات.
احتقار وكراهية لا تخصّني، لكنني مضطرة لتحملها.
لا أملك القدرة ولا الرغبة لاحتمال حياة كهذه.
أقلعتُ عن الفراش المرهق وجلستُ أمام منضدة الزينة، وبينما كنتُ أتأمل وجهي في المرآة، باغتتني تساؤلات بلا طائل.
“لو صرتِ يوماً شخصاً آخر، هل تظنين أنكِ ستشعرين بالسعادة؟”
سألتُ الخادمة وهي تضع لمسة من البودرة الوردية على خدي الشاحب.
“همم… تقصدين أي نوع من الأشخاص؟”
“ثرية… جميلة… ذات مكانة رفيعة…”
تعيسة.
لكنني كتمتُ الكلمة ولم أطلقها.
“أظن أنني سأكون سعيدة يا آنستي. أليس هذا ما يحلم به الجميع؟”
“أهكذا تظنين؟”
جاهدتُ لأرفع زاوية فمي بابتسامة باهتة، ثم التقت عيناي بعيني المرأة الشاحبة في المرآة.
شعر حالك السواد يمتص الضوء، وعينان حمراوان مطفأتان لا بريق فيهما.
مظهر يليق تماماً بلقب الشريرة.
“صحيح… قد يكون كذلك.”
لكنني كنت قد تخلّيت عن السعادة منذ زمن بعيد.
والموت بدوره لم يعد خياراً لي.
كنتُ كمن سُجن في هذا العالم للأبد.
وحين أدركت ذلك، ولِد في داخلي رجاء صغير.
‘إن كنتُ لا أستطيع أن أكون سعيدة ولا أن أموت، فليكن لي على الأقل عيشٌ هادئ.’
ولهذا، صرتُ أنتظر موت هذه الفتاة.
فإذا ماتت بيغونيا، وجدتُ نفسي حرة لأعيش كأوفيليا.
على عكس حياة بيغونيا الملتصقة بلزوجة بهذه الرواية اللعينة، كانت أوفيليا حرة.
‘لا أطلب أن أكون سعيدة، يكفيني ألّا أكون بائسة. لم أطمح لأكثر من ذلك.’
“آنستي، انتهيتُ من تزيينك.”
نزعتُ نظري عن المرآة ونهضت.
لقد حان الوقت لمقابلة خطيبي… بطل هذا العالم، الدوق يوهانس.
* * *
“في صباح الغد لديكِ التعديل النهائي لفستان الحفل الإمبراطوري، وفي المساء…”
داخل العربة المتمايلة، وبينما أخذ الصداع يتسلل إلى رأسي، بدأت الخادمة تثرثر.
“أيُّ حفل؟”
“نعم…؟”
اتسعت عيناها بدهشة وكأنها لا تصدق أني قد نسيت.
“حفل ميلاد جلالة الإمبراطور! سيُقام بعد عشرة أيام!”
وما إن سمعتُ ذلك حتى انفتح فمي بلا إرادة.
‘كيف أنسى؟’
ذلك اليوم بالذات هو اليوم الذي تلقى فيه بيغونيا حتفها.
فبعد فسخ خطوبتها أعمى الحقد عينيها فحاولت أن تسمّم كأس البطلة في الحفل.
لكن بالطبع فشلت المحاولة.
فقد كان الدوق يراقبها عن كثب، وبمجرّد أن غمس الملعقة الفضية في الكأس، انكشف الأمر.
ولأنها تجرأت على تلويث حفل ميلاد الإمبراطور نفسه، فقد كان الحكم بالإعدام فورياً.
يسمونه “جريمة الخيانة الوقحة” أو ما شابه، لكنه بالنسبة إليّ كان خبراً مفرحاً.
‘أخيراً سأتمكن من العيش بسلام.’
بعد مغادرتي هذا المسرح البائس، كنتُ أخطط للهرب فوراً.
‘ألم يقل النص إن جدّي أوفيليا وجدتها يعيشان في المملكة المقدسة؟ ربما أذهب إليهم.’
‘لا يهم إلى أين طالما أنني سأغادر هذه الإمبراطورية.’
ابتسمت في داخلي وأنا أترنّم بألحان صامتة.
“ثم في المساء، من المفترض أن يصل ضيوف من المملكة المقدسة، عائلة سارين الشهيرة…”
تركتُ كلمات الخادمة تتبخر من أذني.
لم يتبقَّ سوى عشرة أيام للتخلص من هذه الحياة.
تلك الفكرة وحدها كفيلة بأن ترسم ابتسامة على وجهي.
“لقد وصلنا إلى قصر الدوق.”
ما إن سمعتُ صوت السائق، حتى فتحت الخادمة الباب.
امتدت يد فارس التوصيل نحو الداخل.
لعلني كنت مشغولة بالخبر الذي استقر في صدري، فلم أشعر أن حركة الفارس بدت مختلفة عن المعتاد.
ابتسمتُ على اتساع وجهي، ثم أمسكتُ بتلك اليد القوية.
“تأخرتِ.”
لكن ما إن سمعت صوته، حتى تجمّدت ابتسامتي مكانها.
“… صباح الخير يا صاحب السمو.”
خصلات ذهبية تتطاير مع نسيم الربيع، وعينان زرقاوان باردتان.
كان هو، الدوق يوهانس.
ألقيتُ عليه تحيةً مبتسمة، لكن كل ما عدتُ به هو صمته الثقيل.
‘هل هذه إحدى طرق تنكيله الجديدة؟’
انتظرتُ طويلاً، فلم يفعل سوى أن يحدّق في ابتسامتي بانقباض.
“يا صاحب السمو.”
انمحت ابتسامتي وتكلمتُ ببرود كمن يذكّره بالجدية.
عندها فقط فتح فمه.
“… لا يسرّني أن أبدأ يومي معك.”
وكالعادة، لم يخيّب ظني بلسانه اللاذع.
اشتد الصداع، لكنني تماسكت ورددت:
“أنت من استدعاني لمناقشة فسخ الخطبة يا صاحب السمو.”
كنتُ أتابع حركة شفتيه المقيتتين حين اخترق الأجواء صوتٌ بهيج:
“بيغونيا!”
“… الآنسة أوفن؟”
إنها ليلي أوفن.
البطلة الحقيقية لهذه الرواية وصديقة طفولة بيغونيا وحبيبة الدوق الواقفة أمامي.
“اشتقتُ إليكِ يا بيغونيا.”
كانت دائماً تستقبلني بحفاوة، لكنني لم أشعر يوماً بالسرور لرؤيتها.
اندفعت ليلي نحوي تفوح منها رائحة الزهور، وأحاطتني بذراعيها، هامسة بأنها اشتاقت إليّ، ثم دفنت رأسها في كتفي.
تملّكني الاشمئزاز، فدفعتُ جسدها الصغير بعيداً.
“ابتعدي. ما الذي جاء بكِ إلى هنا؟”
الغريب أن ليلي بخلاف النص الأصلي كانت تبدي لي دائماً وداً غير مفهوم.
لكن ذلك لا يعنيني بشيء.
صفعتُ يدها الممدودة عني بقسوة.
رنّ الصوت في المكان، واحمرّ جلدها الرقيق.
“آه…”
شدّ الدوق ليلي إلى الخلف بسرعة كأنما يخشى أن أؤذيها أكثر.
“ما زلتِ فظة كما عهدتك.”
“أليست لياقتي أوفى من لياقة من دعا عشيقته إلى مجلس مناقشة فسخ الخطوبة؟”
لم تكد كلماتي تخرج حتى ازداد عبوسه.
“أنصحك ألّا تُطلقي على ليلي لقب عشيقة.”
“فبأي لقب تريد أن أدعوها إذن؟”
تأملت كتفيه المتشنّجتين وكأنهما يزخران بكلمات لم تُقَل.
لكنني ابتلعت تنهيدة ضجر.
‘سئمت.’
مسرحية بلا جدوى.
أنا أهاجم كما في الرواية، وهو يردّ بالمثل، وليلي تائهة في قلقها.
‘أريد العودة إلى البيت.’
خلال عامين، تكررت هذه المهزلة بما يكفي لإرهاقي، لكن اليوم بدا أثقل من أي يوم مضى.
‘آه…’
صداع مباغت جعلني أنحني، فسارعت خادمتي نحوي.
“… لندخل ونتحدث.”
زمّ الدوق شفتيه وأدار وجهه، ثم أشار للخادمة المرتبكة بالانسحاب، وسار بخطوات ثابتة.
‘عشرة أيام فقط.’
وكل هذا سينتهي.
عزّيت نفسي وأنا ألقي نظرة جانبية على ظلّ آخر يترنّح بجانبي.
“هذا مجلس لمناقشة الفسخ، لا يليق بكِ أن تكوني فيه يا آنسة أوفن.”
تغيّر وجه ليلي فوراً وكاد الدمع يطل من عينيها.
لحقتُ بخطوات الدوق التي سبقتني، وإذا بخاطرة غريبة تخطر ببالي، إن منذ ظهورها وحتى الآن، لم تلتفت ليلي ولو مرة واحدة نحو الدوق.
حين تذكرتُ ذلك، شعرت بتعب مضاعف.
قدّمت إحدى خادمات قصر الدوق الشاي، ثم انسحبت بهدوء.
في غرفة الاستقبال ذات الطراز العتيق، كان عبير خشبي ثقيل يتغلغل في الأجواء.
ساد صمت خانق بين خطيبين ينتظران فسخ ارتباطهما.
“ما غايتك من هذا اللقاء؟”
“أفكر في تأجيل فسخ الخطوبة.”
كأن جوابه انقضّ عليّ فوراً.
توقفت يدي المتجهة نحو الفنجان متيبسة في مكانها.
“… ماذا؟”
ظننت أنني ربما سمعت خطأً، فسألت مرة أخرى، لكن الجواب نفسه عاد إليّ بلا تغيير.
‘ما هذا الكلام العبثي؟’
آخر عقبة في الرواية كانت بيغونيا.
بمعنى آخر، في هذه المرحلة على بُعد خطوة واحدة من النهاية كان فسخ خطوبة الدوق مع بيغونيا أهم حدث يجب أن يقع.
‘ولكن الآن يقول إنه يريد تأجيل الفسخ؟ بعد عشرة أيام فقط من موعد الموت؟’
اجتاحني شعور بالقلق.
دفنت يدي المرتجفة بين طيات الفستان.
‘…ربما سيتأجل الإعدام.’
كنت أود أن تنتهي الرواية بسرعة، لذلك التزمت بدقة بدور بيغونيا في النص.
كل أفعال الشر وإثارة الفوضى وحتى اللجوء إلى الضرب… لم أترك تصرفاً سيئاً إلا وجربته.
لأن بيغونيا الأصلية في الرواية كانت تفعل ذلك.
‘لكن لماذا الآن…؟’
تجاهلت الألم الذي يعتصر قلبي وفتحت فمي.
“أفضل أن يتم فسخ الخطوبة كما هو مقرر.”
“ولماذا؟”
بدت على الدوق علامات الدهشة، كأنه لم يكن يتوقع ذلك.
ارتجفت في رأسي آلاف الردود الممكنة، لكن النتيجة كانت واحدة.
‘لأنه يجب أن أموت.’
لم أستطع قول ذلك بصراحة، فعمّ الصمت.
بعد لحظة، فتح الدوق فمه مجدداً.
“لماذا تحاولين الإسراع في الفسخ؟”
لمحت نظراته الزرقاء الباردة تتجه نحوي فجأة.
ماذا كانت بيغونيا لتقول؟ لو كانت شريرة فقدت كل شيء من حب وصداقات ولم يبقَ لها سوى الكراهية…
واصلت أفكاري، فتذكرت المشهد في الرواية، ربما حين كانت تُظهر الشر بسبب فسخ الخطوبة.
استحضرت الحوار الذي كتبته وقلت:
“أليس من المفترض أن الشخص الذي يجب أن يسرّع الفسخ هو صاحب السمو؟”
“ماذا تعنين؟”
“لأنك يا صاحب السمو، يجب أن تتركوني وتتزوج الآنسة أوفن.”
وفجأة، انطفأت تلك العيون الزرقاء المتوهجة، وتحولت إلى سواد قاتم.
ثم خرج صوته كما لو كان ينهش قلبي:
“… هل تقولين إن سبب فسخي لكِ هو ليلي؟”
“……”
حدّقتُ فيه دون أن أجيب.
“حقاً، لقد سئمتُ. تصرفكِ الثابت والمتكرر أصبح مثيراً للقشعريرة الآن.”
كانت هذه من الحوارات المقررة في الرواية.
كررت ما كتبتُه، متظاهرة بأنني مجروحة من كلامه مُحاكية مشهد الخطيبة المهجورة.
“هل كنتَ تحبني يوماً؟”
من المفترض أن يكون المشهد تفاعلياً في الرواية، لكن بالنسبة لبيغونيا، كان أشد اللحظات بؤساً.
أخفضت رأسي، مستعدة لسماع كلمات الإنكار القاسية التي ستتبع.
“……”
‘ماذا؟ ألم يسمع؟’
لكن عندما رفعت رأسي لشيء ما، رأيت ما لم أتوقعه، وهو وجه الدوق محطم ومضطرب.
——
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول. وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات