كان من الطبيعي أن ينظر هيليو إلى فنجان الشاي طالما الحديث يدور حوله، غير أن ضمير لِيليانا أخذ يؤنبها، وكأنها تخفي شيئًا، ما جعلها تشعر بوخز في قلبها.
احتست رشفة صغيرة من الشاي الدافئ، علّها تهدّئ من اضطرابها، ثم التفتت نحو هيليو.
“جلالتك، تفضل لا بد أنك لم تجد وقتًا لشرب الشاي اليوم.”
“حسنًا.”
جلس هيليو أمام الطاولة كعادته، وكأن شيئًا لم يحدث، مما جعل قلق لِيليانا يبدو بلا داعٍ.
لكنها، رغم ذلك، لم تطمئن كليًّا، فبادرت بتغيير الموضوع قبل أن يسألها عن الشاي.
“كنت أبحث مؤخرًا في أمر نهر غاتيس، لكن الأمر ليس سهلًا كما توقعت.”
“إن كان صعبًا، فلا بأس بتركه. الحرب ليست أمرًا جديدًا على هذه البلاد، ولن نخسر أمام مملكة ساجريدو، مهما حدث.”
قالها هيليو وكأن الأمر لا يستحق القلق.
ولم يكن دافع لِيليانا في التحرك بهذه السرعة هو خوفها من خسارة الإمبراطورية، بل لأنها كانت تريد إنهاء هذه الحرب قبل أن تخرج الأمور عن السيطرة.
ربما تُصبح مملكة ساجريدو دولة تابعة، أو تُمحى تمامًا بسبب هذه الحرب.
في الأصل، كانت مملكة ساجريدو كجراء صغيرة لا تعرف أن تخاف من الأسد حين بدأت التحرش بالإمبراطورية.
“لكن جلالتك ستقودون الحملة بنفسك، أليس كذلك؟”
“لطالما كنت أفعل.”
“حتى وإن كان الأمر كذلك… لا يعجبني. أريد أن أجد وسيلة لإنهاء الحرب قبل أن تضطر للخروج.”
كانت لهجتها حاسمة لا تقبل النقاش.
نظر إليها هيليو بدهشة، وكأنها أمر غريب عليه. فمنذ أن كان أميرًا، وهو يتنقّل من ساحة إلى أخرى، ولم يسبق أن وقف أحد في وجه خروجه للحرب.
لا الإمبراطورة الوالدة، ولا حتى الفرسان الذين أقسموا له بالولاء.
بل على العكس، كان الفرسان يعتمدون عليه كثيرًا، ومجرد ظهوره في ساحة المعركة يرفع معنوياتهم.
لكن بعد أن أصبح إمبراطورًا، بدأ بعضهم في الاعتراض على خروجه، ليس قلقًا عليه، بل لأسباب أخرى.
خاصة دوق غابرييل، الذي تظاهر بالقلق عليه وهو في الحقيقة كان يسعى لتسريع زواجه من “ڤيستي”.
لكن… كان هناك شخص واحد فقط.
شخصٌ استيقظت صورته فجأة في ذهن هيليو، وتداخلت مع صورة لِيليانا.
لم يكن هنالك أي شبه في الشكل، لكن الضوء النقي في عينيها ذكّره بتلك العيون الأخرى التي أُطفئت ذات ليلة، كالشمس الغاربة.
بينما كانت لِيليانا أمامه تنظر إليه… لا تزال حيّة، مشعّة.
لم يشأ أن يُطفئ أملها. فشرب من الشاي بهدوء، ثم قال:
“لو استطعنا إيقاف الحرب بأقل الخسائر، فلن يكون هناك أفضل من ذلك.”
عندها أشرقت ابتسامة واسعة على وجه لِيليانا، وأمسكت بيده بحماس.
“أليس كذلك؟”
نظر هيليو إلى حمرة وجنتيها، وراوده شعور قوي برغبة في حملها من جديد إلى السرير.
أراد أن يرى وجهها يتقلّب بين الضحك والبكاء، بين الخجل والذهول، بين الدهشة والتنفس المتسارع.
لكن…
“لقد أصبحت نحيلة جدًا.”
حدّق إلى يدها وهي تمسك بيده، ثم إلى ظهر كفها.
هي بطبعها نحيفة، لكنه شعر مؤخرًا أنها فقدت وزنًا أكبر بسبب الحرب وما ترتب عليها من انشغال.
حين حملها في وقت سابق، شعر كم كانت خفيفة… لدرجة أقلقته رغم أنه لم يُظهر ذلك.
لم يشأ أن يراها تتألم أكثر. فكتم تلك الرغبة الحمراء المشتعلة داخله، وتركها تستمتع بهدوء بلحظتها.
❈❈❈
وصل دوق غابرييل إلى المصبّ الأدنى لنهر غاتيس متأخرًا كثيرًا عن الموعد المقرر.
رغم أن قوات الإمبراطورية المتمركزة هناك كانت قد أرسلت له عدة طلبات عاجلة بسبب تفاقم النزاع عند الحدود، إلا أنه تجاهلها جميعًا.
وحين وصل إليه تحذير مباشر من هيليو نفسه، لم يتمكن من التغاضي عنه، فاضطر للانطلاق على عجل.
“تبا! أنا دوق في الإمبراطورية، لماذا يجب عليّ الخروج للحرب؟!”
رغم أن خروج النبلاء في حروب الإمبراطورية ليس أمرًا نادرًا، إلا أن الأمر كان مختلفًا بالنسبة لدوق من طبقة النبلاء العليا.
لكن هيليو، كلما اشتدت الحرب، كان يخرج بنفسه إلى ساحة القتال، وقد صنع بذلك سابقة، فلم يعد بإمكان دوق غابرييل التهرب من الخروج.
خلال الرحلة، ظل يشكو ويتذمر حتى وصل حدود المنطقة المتنازع عليها قبيل الغروب.
وكان الفرسان قد أعدّوا له استقبالًا فخمًا، لكنه تجاهله تمامًا وذهب لينام.
استفاق دوق غابرييل في اليوم التالي حين كانت الشمس قد بلغت كبد السماء، وعيناه لا تحملان سوى البرود القاطع. راح يقرقع بلسانه ساخرًا من هذا الوضع الذي لم يكن ليصدقه.
“يا للسخرية… أن تدخل هذه الإمبراطورية العظيمة في حرب مع مملكة واهنة مثل تلك! والأسوأ أن أضطر أنا، دوق غابرييل، للنزول إلى هذا الركن القذر من البلاد! ألم يكن من الأفضل أن أُزوّج ابنتي للإمبراطور، لينجبا ولي العهد، فأورّثه العرش وينتهي الأمر؟”
لم يجرؤ أحد من المحيطين به على الرد، غير أن في أعماقهم، لم يكونوا سوى ساخطين عليه، مستنكرين غطرسته وتفاهته.
فالمناوشات في مناطق الحدود أمر طبيعي، وكلّما كبرت الدولة، اتّسعت حدودها، وزادت نقاط الاحتكاك. لكن إمبراطورية كارلو لم تتذوّق طَعم الهزيمة قط، وتلك كانت أعظم شهادة على كفاءة هيليو.
غير أن السبب الأكبر لتكرار الاعتداءات على الإمبراطورية لم يكن ضعفها، بل كان وجود هذا العمود الفاسد المسمّى بدوق غابرييل.
الفرسان المحيطون به كانوا يدركون تمامًا غبائه، لكن سلطته المتوارثة من الدوق السابق كانت طاغية، ولا يُمكن لأيّ فرقة فرسان أن ترفَع رأسها أمامه سوى فرقة الفرسان الإمبراطورية.
لكن تلك الفرقة تعتمد على الكفاءة المطلقة، أما أولئك الذين نالوا مناصبهم بالنسب لا بالكفاءة، فقد اجتمعوا تحت لواء دوق غابرييل.
أما قائد فرسانه، فقد حاول أن يهدّئه ضاحكًا:
“إنها معركة تافهة، يمكننا إنهاؤها سريعًا والعودة إلى العاصمة في أقرب وقت.”
“تُف! هل حقًا اضطررتُ إلى جلب نصف الفرقة؟ كان بإمكاني سحقهم بعشرة فقط من فرساني! أوغاد لا يُجيدون حتى ترتيب صفوفهم.”
لكنّه، رغم غطرسته، لم يجرؤ على القدوم بعدد أقل، فلو فعل، ما كان هيليو ليتركه بسلام.
شعر دوق غابرييل أن كرامته مُداسَة، ومع ذلك، قال قائد الفرسان:
“لتعتبر الأمر إجازة في منتجعٍ ما يا سيدي، ارتح قليلًا، وستجد أن وقت العودة قد حان بسرعة.”
“هاه! قولٌ بديهي! دَعْ الأمر لك.”
ثم دخل مقر إقامته الفاخر، الذي لا يشبه على الإطلاق أي خيمة حرب، ولم يخرج منه بعدها.
لا شك أنه يقضي وقته هناك في الشرب الفاحش والانغماس في أفعالٍ ما كان ليجرؤ على إتيانها في العاصمة.
بالنسبة لقائد الفرسان، كان هذا الوضع مريحًا. ورغم أنّ دوق غابرييل غبيّ، إلا أنه اتفق معه تمامًا في أنّ جيش مملكة ساجريدو ما هو إلا شتات من المرتزقة وضعاف القتال.
إذا انتصروا في هذه المعركة السخيفة، سيزعم الدوق أنّه حقق نصرًا عظيمًا، وبذلك سيرتفع شأن القائد أيضًا.
حين تخيّل ذلك، لم يعُد وجوده في هذا المكان النائي مزعجًا كما كان.
ضحك القائد في سرّه، ثم فجأة بدّل ملامحه إلى الجدية، وصرخ بصوت جهوري:
“ماذا تنتظرون؟ إلى التمرين فورًا! وأنت هناك! اجمع المرتزقة وتلك الشرذمة من مستحضري الأرواح! فورًا!”
تفرّق الفرسان المحيطون به بسرعة، وهم يُخفون امتعاضهم، فقد خشوا أن يُصابوا في مقتل لمجرد بقائهم بقرب ذلك المتغطرس.
ذهب القائد إلى الساحة المفتوحة، واقفًا باعتداد، بينما كان الفرسان الواقفون أمامه يبدون بلا حماسة.
وقبل أن ينطق بكلمة، هرع إليه أحد الفرسان المكلّفين بجلب مستحضري الأرواح، وهمس له بقلق:
“سيدي، مستحضرو الأرواح… غير موجودين.”
“ماذا؟!”
سأله بصوت حاد، ليأتي فارس آخر من جهة المرتزقة، وجهه شاحب، واقترب هامسًا:
“لقد أخذ المرتزقة مستحضري الأرواح، وتسللوا عبر الجبل. يبدو أنهم متجهون إلى العاصمة.”
“ما هذا الهراء! أمسكوا بهم جميعًا! لا تُحدثوا ضجةً تؤثر على المعنويات!”
“ن- نعم، سيدي!”
وبينما كان بعض الفرسان يتهيّأون للذهاب في إثر الفارين، رأى أحدهم دخانًا خفيفًا يتصاعد من خيمة الإمدادات الغذائية.
صاح وهو يشير إليها، فالتفت الجميع، وبدأ القلق ينتشر كالنار في الهشيم.
“حريق… هناك حريق!”
نسي الجميع أمر المرتزقة ومستحضري الأرواح، فالمهم الآن هو إخماد النار. فمهما كان العدو ضعيفًا، من دون طعام، لن يصمدوا طويلًا.
أسرع الجميع إلى مكان الحريق، لكن في تلك اللحظة، انهمر عليهم وابلٌ كثيف من السهام.
رغم ارتدائهم الدروع، لم يكن بإمكانهم صد هذا الكم من السهام المتساقطة من السماء.
“إنها سهام جيش مملكة ساجريدو!”
صرخ أحدهم وهو ملقى أرضًا. كانت سهامًا قوية، لا تُصنع إلا في مملكة سارغو المعروفة بتفوّقها في صناعة العتاد.
“متى عبروا النهر؟!”
“لا بدّ أنّهم فعلوا ذلك البارحة… وقت استقبال الدوق!”
“من كان الحارس آنذاك؟!”
بدأ الذعر ينتشر. غير أنّ العجب الأكبر كان أنّ سيل السهام بدأ يخفت.
رفع بعض الفرسان رؤوسهم، ليروا جيش مملكة ساجريدو يدير لهم ظهره وكأنه لا يُبالي.
لكن الأغرب أنّ صفوف جيش المملكة بدأت تتفكك بسرعة كبيرة.
نهض فرسان الإمبراطورية، قاتلوا بكل ما أوتوا من قوة، وسرعان ما وجدوا أنفسهم أمام جنود إمبراطوريين آخرين.
“أمسكوا بكل الأحياء! لا تدعوا أي جريح دون إسعاف، ولا أي قتيل دون إحصاء!”
قالها القائد الذي كان يقف في المقدّمة.
تمتم أحد الفرسان، وقد علاه الغبار، ناظرًا إلى من يقود الهجوم:
“دوق غابرييل؟”
لكن الدوق الذي رآه لم يكن دوق غابرييل الحالي، بل كان يُشبه الدوق السابق الذي رآه قبل عقود.
مسح الغبار عن عينيه، وتبيّن وجه الرجل جيدًا.
كان “بايِل غابرييل”، أحد أحفاد الدوق السابق.
وبسرعة مذهلة، أحكم بايِل السيطرة على أرض المعركة، ينظر حوله بعينيه الحادتين، وكأنه يبحث عن شخصٍ بعينه.
اقترب منه فارس مهندم، ورفع يده بتحية عسكرية:
“سيدي بايِل! دوق غابرييل… قد فرّ هاربًا.”
ردّ بايِل بصوت بارد، تغلّفه سخرية مريرة:
“إذا، فهو بخير.”
ثم تمتم ببطء، كمن يُلقي حُكمًا:
“كنت أخشى أن يكون قد مات بسهولة… لكن يبدو أنّه كان أضعف من أن ينال حتى ذلك المصير.”
———————————————————————
•فضلاً ضع نجمه واكتب تعليق يشجعني على الإستمرار⭐•
حسابي على الإنستا:@empressamy_1213
حسابي على الواتباد: @Toro1312
ترجمة: ✧𝐀𝐌𝐘✧
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 91"