رأت لِيليانا في ملامح بايِل، التي اختلط فيها الامتعاض بالحذر، شيئًا أقرب إلى التوجس. ظنّت أن هذا التوجس نابع من إدراكه أن بناء علاقات ودية مع الإمبراطور هيليو يصبّ في صالحه إذا أراد أن يحظى بمكانة الوريث المباشر.
قالت لِيليانا بنبرة مطمئنة وكأنها تزيل عنه هذا التردد:
“إذا تعهّد بايِل بأن يخلق غابرييل جديدًا، مغايرًا لما هو عليه الآن، فأنا واثقة أن جلالة الإمبراطور سيتعاون معه. ولهذا السبب، السبب الحقيقي مهم بالنسبة لي.”
قال بايِل، بعد لحظة من الصمت:
“في هذه الحالة، فإن السبب الحقيقي لا قيمة له. أليس من الأفضل أن أقول إنني لم أستطع الوقوف مكتوف الأيدي تجاه فساد دوق غابرييل؟ هذا يبدو مبررًا أكثر، أليس كذلك؟”
قالت لِيليانا على الفور:
“إذن، فهو ليس السبب الحقيقي.”
“هو واحدٌ من الأسباب، لكنه ليس السبب الجوهري.”
هزّت لِيليانا رأسها، وقد علت ملامحها الجدية:
“إذن، سيكون الأمر صعبًا.”
“لماذا؟”
“لأنني لا أستطيع أن أكذب على جلالته.”
شعر بايِل بغصة في صدره، شيئًا ثقيلًا ارتطم بداخله. لكنه لم يستطع أن يرفع صوته في وجه لِيليانا، فاكتفى بصوتٍ متهدّجٍ كأنما يحبس شيئًا في داخله:
“أليست جلالتك تسعين إلى السلطة من خلال منصب الإمبراطورة؟ إذاً، عليكِ أن تكذبي على جلالته.”
قال ذلك بنبرة تحليلية، كما لو كان يُقدّم مشورة سياسية. لكن لِيليانا ابتسمت برقة، كأن نسمة هواء مرّت على وجهها:
“بايِل. أنا لا أسعى لأن أكون إمبراطورة كي أحصل على السلطة. بل أريد أن أحصل على السلطة كي أُصبح الإمبراطورة.”
“…”
“ثم إني لا أريد أن أراه يتزوج من امرأةٍ أخرى. لهذا، أريد أن أكون الإمبراطورة، وأن أمتلك ما يكفي من السلطة لأحمي مكانتي.”
قالت كلماتها بابتسامة خجولة، وهي تضُم يديها ببعضهما.
ثم تذكرت شيئًا ما، أو لعلها حاولت طرد أفكارها، فمدّت يدها وأمسكت بذراع بايِل لتنهضه من وضع الركوع. ارتفع مستوى نظر بايِل بعد أن ظل طوال الوقت ينظر إليها من الأسفل.
“لهذا السبب، أرجوك أن تخبرني بالحقيقة. أريد أن أُقنع جلالة الإمبراطور، وأُساعدك أنتِ وأغرينـا في تثبيت موطئ قدمكما بأمان.”
كان في وجه لِيليانا البياض الهادئ ونظرة مليئة بالود.
حين التقى بايِل بلِيليانا للمرة الأولى، كانت تنظر إليه بخوف وعداء لا تخطئه العين، وكأنها لا ترى فيه سوى امتدادًا لدوق غابرييل الذي تكرهه. أما الآن، فقد صارت هي من تمد يد العون إليه بنفسها.
إنه تطور كبير، بل غير متوقع.
ومع ذلك، شعر بايِل بأن ما بداخله يشبه بحيرة بدأت تجف شيئًا فشيئًا، إحساس بائس ومؤلم.
أخذ ينظر إلى المنديل التي بين يديه بصمت، ثم فتح فمه أخيرًا. لم يكن قادرًا على تجاهل وُدّ لِيليانا، رغم أنه كان يشعر وكأن مزاجه غاص في مياه آسنة:
“إنه الانتقام.”
مجرد أن نطق بهذه الكلمة، ارتسم الحزن على ملامح لِيليانا. شعر بايِل لأول مرة أن الشفقة قد تكون حلوة الطعم بهذا الشكل، فتابع بهدوء:
“والدي كان الابن الثاني للدوق السابق من عائلة غابرييل. كان يكبره الدوق الحالي بعشر سنوات. وبما أن والدي وُلد لاحقًا، فقد كان يُفترض أن يكون الدوق الحالي هو الوريث الشرعي. لكن كما تعلمين يا صاحبة الجلالة، هو رجلٌ غير كفء، غبي، ومتعجرف. لا يصلح إطلاقًا لقيادة هذا البيت العظيم.”
أومأت لِيليانا برأسها موافقة، إذ لم يكن هناك ما يُمكن إنكاره.
“رأى جدي، الدوق السابق، أن الابن الأكبر لا يملك مؤهلات القيادة، فعيّن والدي وريثًا له. لكن، بمجرد وفاة الجد، تحرّك الابن الأكبر بسرعة وجمع من حوله الحلفاء، واستولى على منصب الدوق. أما والدي، فقد رفض الدخول في صراع دموي مع أخيه من أجل لقب، فانسحب بهدوء إلى الريف.”
توقف بايِل لحظة، ثم ابتسم بمرارة:
“فما كان من الدوق الحالي إلا أن اتهم والدي بالتخاذل، وطرده من النسب المباشر. لم يعترض والدي حتى في تلك اللحظة، بل اكتفى بإنشاء دوقيته في المقاطعة. لكن الناس ظلوا يقارنون بينه وبين شقيقه الغبي، حتى قرر الدوق الحالي إنهاء الأمر… وقتل والدي.”
أغمضت لِيليانا عينيها بقوة. كانت تعلم أن دوق غابرييل شخص قاسٍ، قادر على قتل أخيه إن تطلّب الأمر، لكن أن تسمع القصة على لسان الابن… كان ذلك أشدّ إيلامًا.
أما بايِل، فقد بدت عليه الصلابة والهدوء، كمن أعاد رواية هذه القصة لنفسه مراتٍ عديدة:
“الانتقام الحقيقي يعني أن تأخذ من عدوك أعزّ ما يملك. لهذا، سأقوم بطرده من القصر، حيًّا. سيغدو شحاذًا لا يملك حتى عملةً معدنية واحدة. هذا هو جزاؤه.”
بعد أن أنهى حديثه، نظر بايِل إلى لِيليانا مباشرة:
“هل تعتقدين الآن أنكِ قادرة على إقناع جلالة الإمبراطور؟”
استمعت لِيليانا إلى روايته بعينين تتقلب فيهما مشاعر الأسى والغضب. لكن في اللحظة التي أنهى فيها حديثه، تحولت عيناها الورديتان إلى كتلة من التصميم الصلب.
“بالطبع. بايِل، أرجوك عد سالمًا. فقط عد سالمًا.”
حتى الإمبراطور هيليو كان يتمنى أن يرى دوق غابرييل يُسحق تحت وطأة الذلّ، لذا فقد كانت نواياهما متوافقة.
“إن عدت حيًّا، فسيكون جلالته إلى جانبك بلا شك.”
❈❈❈
بعد مغادرة بايِل، اقتربت مينيلي بحذر. وقبل أن تفتح فمها لتتحدث، كانت لِيليانا قد أومأت برأسها بالفعل.
“لا بأس إن ذهبتِ لرؤية جلالته. بما أن السير بايِل قد مرّ اليوم، فلا بد أن جلالته أيضًا يشعر بالفضول.”
حين منحتها لِيليانا الإذن دون تردد، تنهدت مينيلي تنهدًا صغيرًا وكأن في قلبها شيئًا من الضيق.
“ما بكِ؟ هذا ليس من عادتكِ يا مينيلي.”
“لا شيء، جلالتك.”
“لا ترهقي نفسكِ بالتفكير. أنا أحبكِ يا مينيلي، ولا أريدكِ أن تتعبي نفسيًّا بسببي. من يجرؤ على معارضة أمر إمبراطور الإمبراطورية؟ حتى صاحبة الجلالة الإمبراطورة الأم لا تستطيع أن ترفع صوتها عليه.”
ظلت مينيلي مطأطئة الرأس كأنها مذنبة، وتراجعت ببطء. حينها، كانت أغرينـا تضع الزهور في مزهرية، فهزّت رأسها باستياء.
“لا عجب أن جلالتكِ لم تصطحبي مينيلي إلى نقابة رينيا. بهذه الطريقة، لا يمكن اعتبارها من خاصتكِ حقًا.”
ضحكت لِيليانا، وقد بدا لها تعليق أغرينـا طريفًا، فغطّت فمها بكفها وقالت:
“ولا أنتِ أيضًا، لا أشعر فعلًا بأنكِ من خاصتي.”
“ماذا! أنا مهما قالوا، لا شك أنني من خاصتكِ. هذا مؤلم!”
“فقط بشكل مؤقت، أليس كذلك؟”
“أليس من الأفضل أن نحدد المدة مسبقًا بدلًا من أن أهرب في أية لحظة دون إنذار؟”
“مينيلي أيضًا كذلك. من الأفضل أن أعرف أنها تنقل كل صغيرة وكبيرة إلى جلالته، بدلًا من أن تفعلها خفية.”
رفعت أغرينـا كتفيها كما لو أنها لا تفهم ما تقول. تصرّفاتها المزعجة بدأت تزداد طرافة في نظر لِيليانا، ويبدو أنها بدأت تتعلق بها.
وضعت أغرينـا المزهرية المزيّنة بزهور رينيا على مكتب لِيليانا، التي نظرت إليها بعينين مليئتين بالمحبّة.
حتى وسط انشغالها، كان لرؤية الزهور التي أرسلها هيليو أثرٌ لطيف على مشاعرها.
أسندت لِيليانا ذقنها على يدها قليلًا، لتأخذ قسطًا من الراحة، ثم بدأت الحديث عن أكثر ما يشغل بالها هذه الأيام:
“هل عرفتِ المزيد عن نهر غاتيس؟”
“يا جلالتكِ، فكّرت فيه كثيرًا.”
“لم تجيبي على سؤالي، لماذا الحديث الجانبي؟ إذًا لم تكتشفي شيئًا، أليس كذلك؟”
كأنما أصابت كلمات لِيليانا الهدف تمامًا، فقد عبست أغرينـا بشفتيها ثم قالت:
“نهر غاتيس مثالي. لا توجد فيه أي ثغرة. علينا أن نحفر بئرًا بديلًا بأسرع وقت ممكن. أعلم أن الانتصار في صراع المشروعية سيكون أقل ضررًا من حيث عدد الضحايا، لكننا لا نستطيع دائمًا السعي وراء النصر المثالي فقط.”
“وما الحل إذًا؟”
“كما أقول دائمًا، ذلك أمر عليكِ التفكير فيه بنفسكِ.”
تنهدت لِيليانا وهي تمد ذراعيها وساقيها بانزعاج. رغم أنها تمددت قليلًا، إلا أن ذهنها ظل خاليًا، حتى شعرت بصداع خفيف.
لكن أغرينـا كانت على حق. استعارت لِيليانا كتبًا من المكتبة وراحت تقرأها واحدة تلو الأخرى، مكوّمة إياها بجانب مكتبها بعلوّ قامتها تقريبًا.
كانت واثقة أن هناك طريقة ما للفوز في هذا الصراع المتشعب على المشروعية.
حتى لِيليانا، التي تحب الكتب بشغف، بدأت تشعر بالغثيان من الحروف، لكنها لم تستطع التوقف. كان عليها أن تجد حلًّا.
وهكذا، بعدما بدأت تكدّس الكتب التي قرأتها على الجانب الآخر، مكوّنة برجًا صغيرًا، دخلت صوفيا بخطوات سريعة وقالت بانفعال:
“يا جلالتكِ! جلالة الإمبراطور قد وصل إلى قصر الزمرد!”
“وماذا في ذلك؟”
من عادة هيليو أن يُعلم بوصوله بعد أن يصل، لا قبل ذلك. لم يكن يحب التقيّد بالبروتوكولات. لذلك، لم تندهش لِيليانا على الإطلاق، بل ردّت بهدوء.
“الوقت ليس مناسبًا لهذا الاسترخاء! بدا لي وكأنه غاضب!”
“غاضب؟ من؟ جلالته؟”
عندها فقط رفعت لِيليانا رأسها. ومن فوق كتف صوفيا، بدا رجل أطول من الجميع برأسه، يقترب بخطى سريعة نحو المكتب الإمبراطوري.
“يا إلهي…”
رأت أغرينـا هيليو يندفع كالإعصار، فذُعرت. وسرعان ما التصقت بالحائط، لكنها لاحظت لحسن الحظ، أو ربما لسوء الحظ، أن هيليو لم يكن منتبهًا لها على الإطلاق اليوم.
“يا صاحبة الجلالة.”
وقف هيليو أمام مكتبها، فنهضت لِيليانا من مقعدها، وأشارت بعينيها إلى أغرينـا.
وكانت تلك إشارةً تطلب منها الهرب قبل أن ينفجر الوضع، فتسلّلت أغرينـا بسرعة نحو غرفة النوم، بوجه ممتن للغاية.
“أتيت، ولم تُظهري أي اهتمام بي.”
“جلالتك أخفت الخدم في قصر الزمرد، أليس كذلك؟”
“إذاً، الخدم أهم مني؟”
عندما قال هيليو ذلك بنبرة ساخرة، أمالت لِيليانا رأسها قليلًا وسألته:
“مزاجك سيء؟”
“نعم، سيء للغاية.”
قبل أن تدرك ما يحدث، كان هيليو قد سحبها إليه، ثم رفعها عن الأرض بسهولة. فزعت لِيليانا، فتشبثت به بإحدى يديها، وأمسكت بطرف تنورتها بالأخرى.
“إذا كان مزاجك سيئًا، فلماذا ترفعني؟!”
احتجّت عليه، لكنه لم يُعر كلامها أي اهتمام، ومضى حاملًا إياها بين ذراعيه.
كان الأمر ليبدو مقبولًا لو بقي داخل المكتب، لكنه خرج منها متجهًا إلى غرفة النوم.
“يا إلهي! هذا جناحي! ماذا عن سمعتي؟!”
ضربت ظهره بيديها، لكنه كان صلبًا إلى درجة أن الألم أصاب يديها فقط. فعادت لتدفن وجهها في كتفه وهي على وشك البكاء.
حين وصل إلى غرفة النوم، فتحت أغرينـا الباب وهي منحنية رأسها بأقصى ما يمكن، كأنما لم تكن مختبئة، بل واقفة هناك لتفتح الباب من البداية.
———————————————————————
•فضلاً ضع نجمه واكتب تعليق يشجعني على الإستمرار⭐•
حسابي على الإنستا:@empressamy_1213
حسابي على الواتباد: @Toro1312
ترجمة: ✧𝐀𝐌𝐘✧
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 89"