سارت لِيليانا ولوسيا جنبًا إلى جنب في الممر الطويل، حتى وقفتا أمام باب مكتب الإمبراطور. عندها تقدّمت لوسيا خطوة للأمام، كما لو كانت تعتزم الدخول أولًا.
كانت تعلم أن العاصفة ستبدأ فور أن تفتح الباب، فلا رغبة لها في أن تتخذ من هذه الشابة الصغيرة، التي تشبه الأرنب، درعًا تتقدّم به إلى الغضب الإمبراطوري.
لكن لِيليانا ابتسمت بسكينة، ثم أمسكت يد لوسيا بلطف قبل أن تفلتها وقالت:
“سموّ الأميرة، سأدخل أولًا.”
لم تمهل لوسيا وقتًا للاعتراض، بل تقدّمت مباشرة إلى داخل المكتب، بينما كانت لوسيا تقف خلفها مباشرة، مما أتاح لها رؤية ملامح هيليو بوضوح.
كان هيليو يرمق الباب بنظرة باردة كأنها ريح جليدية تهبّ على المكان، لكنه تنهد بمجرد أن رأى أن الداخل لم تكن لوسيا، بل لِيليانا. ومع أن الفرق بين ما قبل الزفير وما بعده كان ضئيلًا، إلا أنه كان واضحًا.
صحيح أنه لم يكن مبتسمًا، لكن ملامحه لم تكن قاسية كتلك التي يحملها الطغاة، بل أقرب إلى وجه أبٍ يوبّخ طفله.
قال بنبرة صارمة:
“يا ملكة، إن كان لديكِ ما ترغبين بقوله لي، فانتظري في الخارج.”
وما إن سمعته لِيليانا، حتى سارت بخطًى هادئة إلى زاوية الغرفة، كأنما ترى أن ذلك كافٍ ليتجاوز اعتراضه، وابتسمت ابتسامة محرجة.
أغمض هيليو عينيه ووضع يده على جبينه بإرهاق، لكنه لم يطلب منها المغادرة.
بعد أن انتهى هذا التبادل الصامت بين الإمبراطور والملكة، تقدّمت لوسيا خطوة وانحنت بأدب:
“أرفع التحية لجلاله الإمبراطور.”
كانت نظرات هيليو لها باردة كالثلج، خاوية من كل شعور، كما لو كانت تصدر من كهف جليدي مظلم.
قال بصوت منخفض لكنه حاد:
“عجبًا، من غير عادتكِ أن تكوني بهذه اللباقة، أم ترين في كلماتي هزلًا؟”
عادةً ما كانا يتحدثان كأخ وأخت من عامة الناس، بأسمائهما مباشرة وبصوت مرتفع. أما الآن، فقد بديا كحاكمين لا تشوبهما شائبة.
قالت لوسيا بثبات:
“كيف أجرؤ على السخرية؟ أعلم تمامًا كم لحديثك من وزن، ولهذا تحديدًا أقف أمامك اليوم، رغم أنني لا أوافقك الرأي.”
ردّ عليها ببرود:
“وقفتِ خمس ساعات، ومع ذلك، لم يتغيّر رأيكِ.”
“من أجل سلامة الشعب، لا أمانع أن أبقى هناك حتى أتحوّل إلى حجر. يا جلالة الإمبراطور، سأذهب إلى مملكة ساجريدو. سأكون ملكتهم كما يشاؤون.”
نهض هيليو من مكانه ببطء وتوجّه نحو النافذة، وقد بدا عليه اضطراب شديد. شعرت لِيليانا برغبة في أن تلمس كتفه، لتواسيه، لكن الموقف كان مهيبًا.
قال بعد لحظة صمت:
“إن أرسلتكِ، سأُنقذ بضعة مئات أو آلاف من الجنود… بصرف النظر عمّا سيؤول إليه مصيركِ.”
أجابت لوسيا بثقة:
“أنا من العائلة المالكة العظيمة للإمبراطورية الكارلية. عشت في ظل شرفها طوال حياتي، ومستعدة لدفع الثمن في أي وقت.”
تابعت لِيليانا الحوار المتأزم بينهما وهي تقبض يديها . كانت تأمل ألّا يشتدّ التوتر، لكنها أيضًا لم تجد لنفسها موضعًا للتدخّل.
قال هيليو وقد انعكس ضوء النافذة على وجهه المشدود:
“كيف لا ترين المستقبل، وأنتِ أكثرنا حكمة؟ مملكة ساجريدو ستفهم أن كارلو لا تريد الحرب، وستتعامل معكِ كرهينة. زواجكِ بصفتكِ أميرة إمبراطورية فقد هيبته، وسينظر إليكِ الجميع كنقطة ضعف في قلب الإمبراطورية. ستصبحين مركز كل صراع مستقبلي. ومع ذلك، تودّين الذهاب؟ ستضحين بملايين من أجل آلاف؟!”
ارتفع صوته بغضب، فجمد الهواء في المكتب. حتى لِيليانا، بل حتى الخدم الواقفِين، حبسوا أنفاسهم.
لم يكن من طباع هيليو أن يصرخ أو يُظهر انفعاله. كان ساخرًا أحيانًا، حادًا غالبًا، لكن لا يرفع صوته بهذه الطريقة أبدًا.
ارتجفت شفتا لوسيا، ثم التفتت بسرعة وخرجت دون أن تنحني أو تودّع. كانت حركة فظّة، لكنها لم تُواجه بأي اعتراض. تبعتها الوصيفات مسرعات.
بقي هيليو واقفًا أمام النافذة، يضرب لسانه بسقف فمه وهو يتأمّل الخارج. كان عقله ضاجًّا بالصخب، ولم يرغب برؤية أحد. شعر بالارتياح لرحيلهم جميعًا.
إلا أنّ يدًا صغيرة امتدّت إليه، وأمسكت بيده.
عندما استدار، وجد لِيليانا أمامه، بعينين تكاد تدمعان. رفعت رأسها لتنظر إليه، وهمست بشفتيها المرتجفتين:
“لمَا لم تلحقي بها؟”
سألها هيليو، رغم أنّ قلبه كان يأمل عكس ما قال.
فتحت عينيها على اتساعهما، وهزّت رأسها ببطء وقد بدت كطفلة تحاول شرح أمر بسيط:
“ولِمَا أتبع سموّ الأميرة؟”
“ألستِ من قلقتِ لأجلها وجئتِ إلى هنا؟”
“صحيح، ذهبت إلى قصر الغزال الفضي وانتظرتها طويلًا… قلقت عليها.”
“إذن…”
قاطعته وهي تضغط على يده أكثر:
“قلقتُ لأنني ظننت أنك ستُعاملها بقسوة، وأنّ هذا سيؤلمك أكثر من أي شيء. لذلك… أردتُ أن أفهم السبب.”
لمّا لم يُبعد يدها، جمعت يديه بين كفيها الصغيرتين.
رغم فرق الحجم بين يديهما، إلا أنّ دفء لمستهما بدا وكأنه غمره بالكامل. ولم يعرف بماذا يردّ، لقد تلاشى صوته.
همست:
“يا جلالة الإمبراطور… أنا أيضًا أكره الحرب.”
لو أن شخصًا آخر قال هذا الكلام فجأة، لكان هيليو قد سخر منه. فهل يُمكن حقًّا إيقاف الحرب لمجرد أننا نكرهها؟ ومع ذلك، لم يسخر، بل أنصت لحديث لِيليانا بانتباه.
“لا أريد لجلالتك أن تخرج إلى ساحة المعركة! لكنني أيضًا لا أريد لسموّ الأميرة أن تذهب إلى مملكة ساجريدو! ومع ذلك… فالحروب، حين يحين وقتها، لا يمكن تفاديها. ولهذا، سأبحث عن طريقة تنهي الحرب بأسرع وقت ممكن.”
كانت عينا لِيليانا المتلألئتان تنبضان بالعزم.
“جلالتك مُلزم بالاستعداد لكل شيء، لذا فاستعدوا للحرب. أما أنا… فسأستعد لتقليصها! حتى لا يكون هناك داعٍ لخروج جلالتك أصلًا!”
كيف يُمكن الاعتراض على ثقة كهذه؟ خطر في بال هيليو أفكار كثيرة، لكنه لم يجد ما يردّ به. كل ما فعله أنه ابتسم ابتسامة خافتة، وهزّ رأسه.
“حسناً.”
حتى لو فشلت، لا بأس. سيخرج كما فعل دائمًا، يحقق النصر، ثم يعود.
لكن لِيليانا، وكأنها تعرف ما يفكر به، احتضنته فجأة بقوة.
“لن أسمح لك بالخروج إلى الحرب!”
قالتها بعزيمة لا تتزعزع، ثم تراجعت عنه ثلاث خطوات، وابتسمت بثقة كأنها تطلب منه أن يثق بها، وغادرت المكتب بخطًى واثقة.
إيقاف الحرب لم يكن أمرًا يسيرًا، ومن هذه اللحظة فصاعدًا، ستجري كما لو أن أجنحة نبتت في قدميها. بل حتى لو فعلت المستحيل، ففرص إيقاف الحرب كانت ضئيلة.
ومع ذلك، شعر هيليو بشيء غريب: ربما… ربما تنجح.
وبينما كان يستعد للجلوس مجددًا إلى مكتبه، أطلت لِيليانا برأسها من خلال الباب بابتسامة ماكرة وقالت:
“سموّ الأميرة تعرف ما في قلب جلالتك أكثر مما تظن!”
قالتها واختفت على الفور.
تنهّد هيليو وضحك بضعف وهو لا يزال ممسكًا بكرسيه.
❈❈❈
ما إن خرجت لِيليانا من القصر الإمبراطوري، حتى نظرت حولها، لتتقدم إليها كبير خادمات قصر الغزال الفضي وتنحني لها احترامًا.
“سموّ الأميرة بانتظاركِ.”
ومن خلف كتفها، رأت لِيليانا عربة لوسيا واقفة غير بعيد. كان بإمكان لوسيا مغادرة القصر منذ زمن، لكنها، على ما يبدو، توقعت أن تأتي لِيليانا إليها.
تقدّمت لِيليانا نحو باب العربة المفتوح بابتسامة ممتنّة.
“سموّ الأميرة!”
استقبلتها لوسيا بابتسامة حزينة، وقالت:
“شكرًا لكِ… حقًا، على كل شيء اليوم.”
“لا داعي للشكر. سموّكِ… لم تكوني مستاءة من جلالته، أليس كذلك؟”
“كلامه كان صائبًا. وفور سماعي له، أدركت مدى تهوّري. شعرت بالخجل من نفسي.”
تنهدت لوسيا، فأمسكت لِيليانا يدها بلطف.
“سموكِ… هل ترغبين بإنهاء الحرب سريعًا؟”
“نعم!”
“لأنكِ قلقة على جلالته؟”
أطبقت لِيليانا شفتيها ولم تردّ فورًا. فهي الآن إحدى أفراد العائلة المالكة، فهل يليق بها أن تسعى لإيقاف الحرب فقط لأجل رجل؟ بدا لها هذا أشبه بتصرّف طفلة.
لكن ما فائدة الإنكار؟ أخفضت رأسها وهزّته إيجابًا.
“أقلق على جلالته… وأقلق عليكِ أيضًا. والحرب نفسها… لا أعرف عنها الكثير، لكنني لا أريد لها أن تحدث أصلًا.”
“أنتِ تبحثين عن طريقة، لكن لا تعرفين من أين تبدأين… ولهذا جئتِ إليّ، أليس كذلك؟”
“نعم!”
أسندت لوسيا ذقنها إلى يدها، وراحت تفكّر بعمق قبل أن تنطق فجأة:
“لو استطعنا حلّ مشكلة نهر غاتيس…”
“نهر غاتيس؟”
“نعم. أعتقد أن السبيل لإنهاء الحرب دون خسائر جسيمة يكمن في نهر غاتيس. هو منطقة تحمل وعودًا بفوائد هائلة… لكن الوصول إلى تلك الفوائد يتطلب استثمارات ضخمة، من المال والوقت. إنه نهر ثمين، لكن مقارنة بأرواح الشعب، لا يبدو بتلك القيمة. وأظن أن جلالته يفكّر بالمثل…”
كانت مطالبة مملكة ساجريدو باستعادة نهر غاتيس مجرد ذريعة، لكن نزع تلك الذريعة بذكاء قد يكون ضربة حاسمة في إيقاف الحرب.
وإن تنازلت الإمبراطورية عن النهر دون شروط أو تعويضات، فقد يمكن تجنّب الحرب.
لكن لِيليانا، وقد بدت أكثر جدية، ردّت:
“لكن ذلك ممكن فقط إن لم تكن الإمبراطورية الكارلية دولة قوية.”
أومأت لوسيا برأسها ببطء.
“صحيح. قد يراها البعض مجرد مسألة هيبة، لكنها، كما قال جلالته… إن اهتزّت هيبة الإمبراطور، فالدولة كلها قد تنهار.”
“إذًا، يجب تسليم نهر غاتيس، ولكن… لا يمكن أن يتم ذلك مجانًا.”
“صحيح. لكن المشكلة أنّني… لا أعرف كيف.”
يبدو أنّها فكّرت بهذا الحل طويلًا، حتى أنّ لِيليانا شعرت أن كل تنهيدة تُخرجها لوسيا تجعلها تبدو وكأنها تكبر عامًا كاملًا.
فكّرت لِيليانا:
“ماذا أفعل؟! أنا أيضًا لا أعرف!”
وكانت ملامحها توحي بأن رأسها على وشك الانفجار، فابتسمت لوسيا وربتت على يدها.
البقاء مكانهما لن يُنتج حلًا سحريًا، ولهذا، ودّعتا بعضهما، على أمل اللقاء من جديد في وقت قريب، حين تكون لدى إحداهما فكرة جديدة… أو أمل جديد.
———————————————————————
•فضلاً ضع نجمه واكتب تعليق يشجعني على الإستمرار⭐•
حسابي على الإنستا:@empressamy_1213
حسابي على الواتباد: @Toro1312
ترجمة: ✧𝐀𝐌𝐘✧
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 84"