جاءت أَغْرينا إلى القصر بعد مضيّ نصف شهر من اليوم الذي تم الاتفاق فيه.
كانت، على الأرجح، تودّ أن تحزم أمتعتها وتنتقل فورًا، غير أن شؤون البلاط الإمبراطوري لم تكن بهذه البساطة. ولولا تدخُّل تيرنز في منتصف الطريق لمساعدتها، لكان الأمر استغرق أكثر من شهر كامل، إلا أنه اختُصر إلى أسبوعين فقط.
فرغت أَغْرينا من تفريغ أمتعتها، ثم بدأت تتعلّم أصول الخدمة على يد صوفيا، وقد أبدت انضباطًا يفوق التوقّعات. وحين سألتها لِيليانا عن الأمر، أجابت بنبرة واثقة وكأن ذلك من البديهيات:
“الوصيفة المهملة لا تجلب سوى العار. وإن حدث ذلك، فسيضرّ بي وبكِ يا صاحبة السموّ على حدٍّ سواء.”
لم تُخفِ لِيليانا إعجابها وقالت:
“أَغْرينا، إنكِ مدهشة فعلًا.”
وبما أنّها أصبحت الآن إحدى وصيفاتها، فقد شرعت في الحديث معها بنبرة غير رسمية، رغم أنها ما تزال تجد في ذلك شيئًا من الغرابة. ولولا أن أَغْرينا شدّدت عليها مرارًا أن تتصرف بطبيعية، لما تأقلمت بهذه السرعة.
قالت لِيليانا وقد بدا عليها التأمل:
“أعتقد أنّ حبّ المرء لأسرته وافتخاره بها أمر جميل حقًّا.”
أجابت أَغْرينا بفخر وهي تنتفخ صدرها:
“بالتأكيد. على الأقل، نحن أشرف من دوق غابرييل الذي يبيع المقاعد النيابية مقابل المال.”
تلألأت عينا لِيليانا ببريقٍ لامع، واقتربت من أَغْرينا وهي تسألها بشغف:
“ما الذي تعنينه بذلك؟ أخبريني بكل التفاصيل.”
ضحكت أَغْرينا بمكر كطفلة مشاكسة، ثم أخذت تدور معصمها وكأنها تشتكي التعب. ويبدو أنها كانت تتمنى قليلًا من الراحة، رغم اجتهادها.
وبالفعل، فقد لاحظت لِيليانا أن صوفيا تبذل جهدًا كبيرًا في تدريب أَغْرينا، ما جعل الموقف يبدو مسليًا بعض الشيء.
قالت:
“لنأخذ استراحة صغيرة، ولنأكل شيئًا من الحلوى.”
ابتسمت أَغْرينا وأومأت برأسها، ثم خرجت مع صوفيا لتحضير الشاي والحلوى. لم يكن ذلك ليأخذ وقتًا طويلًا، فوصيفات القصر عادةً ما يجهزن كل شيء مسبقًا، وكانت صوفيا قد أعدّت الشاي بنفسها.
وبرغم قصر المدة، فإن قلب لِيليانا كان يخفق بشدّة.
بيع المقاعد النيابية من قِبل دوق غابرييل؟! يا له من أمر جلل وخطير!
دخلت صوفيا أولًا إلى المكتب، ثم تبعتها أَغْرينا وهي تدفع الصينية.
قالت مبتهجة:
“يا صاحبة السموّ، عبير هذه الحلوى لا يُقاوَم!”
فأجابت لِيليانا:
“والمذاق ألذّ. هيا اجلسي بسرعة.”
اعترضت أَغْرينا قائلة:
“كيف لي أن أجلس أمامك؟ أنا مجرد وصيفة!”
لكن لِيليانا هزّت رأسها وجذبتها من ذراعها برفق. تبادلت أَغْرينا نظرة مع صوفيا، ثم جلست أخيرًا أمام لِيليانا.
قالت لِيليانا وهي تبتسم:
“تفضّلي، خذي قضمة أولًا.”
تظاهرت أَغْرينا بالامتناع، ثم لم تلبث أن أمسكت بالشوكة.
كانت لِيليانا تعلم جيدًا أن هذه الكعكة الصغيرة بالبسيطة الشكل، كانت تحمل تأثيرًا بالغًا.
وكما توقّعت، ما إن تذوّقت أَغْرينا قطعة منها حتى بدت على وجهها علامات النشوة.
كان الطاهي الذي أرسله هيليو لا يصنع شيئًا تقليديًّا؛ طعامه لا يُضاهى.
قالت أَغْرينا:
“يا للعجب!”
“لذيذة، أليس كذلك؟”
قالت أَغْرينا وهي تتنهد:
“لطالما افتخرت بذوقي في الكعك، لكن هذه الكعكة تتفوق على كل ما تذوّقت سابقًا.”
ابتسمت لِيليانا وقالت:
“إن أعطيتني مزيدًا من التفاصيل، فسأطلب منه أن يُعدّ لنا كعكة إيرل غراي.”
أجابت أَغْرينا بمزاح:
“إنه أشدّ فعالية من التعذيب!”
رغم مبالغتها، بدت سعيدة، فهي كانت تنوي إخبارها بالحقيقة في كل الأحوال، لكن أن تُكافأ فوق ذلك؟ فلا شك أنه أمر مفرح.
قالت:
“لقد فقد دوق غابرييل ثقة سائر النبلاء. لقد رأيتِ ما حدث مؤخرًا، أليس كذلك؟ حين سقطت عائلة كيرد، لم يمدّ لهم يد العون، بل دفعهم من حافة الهاوية.”
علّقت لِيليانا بمرارة:
“ما أفظع هذا التصرف.”
لقد بدا لها حينها أن دوق غابرييل ليس فقط أنانيًّا، بل خالٍ من الرحمة أيضًا. مهما سعى إلى مصالحه، فإنّ عائلة كيرد خدمت الدوق طويلاً. وإن كان يملك ذرة ضمير، لكان أبقى على شرف العائلة، حتى لو انهاروا إلى مستوى بارون بسيط. كان ينبغي له أن يسمح لهم بخاتمة كريمة بصفتهم نبلاء، ليبقى في نظر الآخرين قائدًا جديرًا بالولاء.
لكن رغم كل شيء، لم يزل الناس متمسكين بخيط الأمل المتبقي مع دوق غابرييل. فالمُلك لا يُمنح بالمشاعر، بل بالمصالح. وما دام الجميع يظنّ أنه سيُصبح جد وليّ العهد، فسيظلون إلى جانبه. زد على ذلك أنه يملك تأثيرًا هائلًا في مجلس النبلاء، ويدرّ أموالًا طائلة من بيع المقاعد النيابية.
رأت لِيليانا أن دوق غابرييل رجل أحمق وقاسٍ حقًّا. فحتى لو كان قد فعل ما فعل بدافع مصالحه الخاصة، فإنّ الكونت كيرد كان قد قدّم الكثير لصالح عائلة غابرييل.
ولو أنّ في الدوق ذرة من ضمير، لكان حريًّا به — حتى إن كان قد استنزف الكونت وابنه حتى نخاع عظامهما — أن يحمي على الأقل أفراد عائلتهما.
فحتى لو انحدروا إلى رتبة بارون متواضع، فقد كان من الواجب أن يُترك لهم شرف أن يختموا حياتهم بصفتهم نبلاء. وبهذه الطريقة فقط كان بالإمكان أن يستمر النبلاء الآخرون في الثقة بالدوق واتباعه.
ومع ذلك، لا يزال الكثيرون عاجزين عن التخلّي عن دوق غابرييل. فحتى لو تجاهله جلالة الإمبراطور علنًا، فموضع الإمبراطورة لا يُمنح بدافع الحب، بل بناءً على اعتبارات أخرى.
لا يزال الناس يظنون أن دوق غابرييل سيكون جدّ وليّ العهد من جهة الأم.
فضلًا عن ذلك، فإن الدوق يمتلك نفوذًا واسعًا داخل مجلس النبلاء، إذ يُقال إنه يجني ثروات طائلة من خلال بيع المقاعد النيابية.
كانت لِيليانا تقضم شفتها السفلى، وقد انغمست في أفكارها.
“ألا توجد طريقة لانتزاع نفوذ دوق غابرييل؟”
عقدت أَغْرينا حاجبيها وهزّت رأسها نفيًا.
“ليس في الوقت الراهن. لقد سمعت أن جلالة الإمبراطور منحه سلطة التأثير على المقاعد النيابية بنفسه عند تولّيه العرش. لو أنّ ذلك كان منحة من الإمبراطور السابق، لكان من الأسهل استردادها… لكن الأمر ليس كذلك.”
من وجهة نظر لِيليانا، بدا هيليو وكأنه يكره دوق غابرييل كُرهًا شديدًا. كان ينفر حتى من وجوده في مكانٍ واحد معه، كما لو أنه يفكّر باستمرار في أشدّ العقوبات قسوة يمكن أن ينزلها به.
‘ لو فكّرت في الرواية الأصلية، فهو لم يقتله دفعة واحدة أيضًا…’
ونظرًا لأن الرواية كانت مصنّفة لتناسب جميع الفئات، فلم تُفصّل الأحداث بدقة. لكن ما كُتب هو أن الدوق، وقد أصبح في هيئةٍ رثة ومظهرٍ بائس، جاب أنحاء الإمبراطورية.
ذاك الرجل الذي لم يجعل أحدًا يعلو فوقه سوى الإمبراطور نفسه، لم يتحمّل نظرات الناس أكثر من الأغلال التي قيّد بها. ومع الوقت، فقدَ عقله شيئًا فشيئًا، وقيل إنه بدأ يعاني من الهلوسات السمعية والبصرية.
بالنسبة لرجلٍ عاش متوشّحًا بالغرور والتعالي، لم يكن هناك عقاب أفظع من ذلك.
وكانت نهايته في العاصمة، حيث توقّفت الرواية عند تلك النقطة، ولم يُروَ ما حدث له بعد ذلك.
ربما لم يمت ميتةً هادئة.
لماذا منح هيليو، بيديه هو، تلك القوة العظيمة إلى الدوق غابرييل، ذلك الذي يمقته بشدّة ويشمئز منه؟
سألت ليليانا، وقد علا صوت الاستغراب في حديثها:
“لمَ منح جلالته تلك القوة للدوق غابرييل من الأساس؟”
“لأنه تلقّى دعم عائلة دوق غابرييل عندما اعتلى العرش.”
“جلالته؟”
في ذهن ليليانا، كان هيليو كوحش بريّ، وُلد في العزلة ويُقاتل وحده، ثم يموت وحده.
لقد تخيلته يصعد العرش بمفرده، يُسقط من يجلس عليه، ويضع التاج بنفسه فوق رأسه.
لكن لو فكرنا بمنطقية، لوجدنا أن الأمر لم يكن كذلك. فالإمبراطور لا يُمكن أن يتوج نفسه دون دعم سياسي. كان يحتاج إلى تأييد من عدة عائلات نبيلة، وإلى جيش كبير يسانده.
هيليو لم يكن وليًا للعهد أصلاً، وكان يتنقّل بين جبهات الحرب، مما يعني أنه كان في موقع يصعب فيه بناء قوته السياسية الخاصة.
وإذا كان الدوق غابرييل هو من مدّ له يده حينها… فلماذا إذن يكرهه هيليو بذلك القدر؟
في الواقع، لو أن هيليو تحالف مع الدوق غابرييل الآن، ربما لاستطاع أن يعزز سلطته أكثر. لكنه كان ليجد تلك الفكرة مقززة.
دخلت ليليانا في دوامة من الحيرة، لكنها هزّت رأسها بعنف، فهذا ليس بالأمر المهم في اللحظة الراهنة.
‘إن لم يكن بوسعه أن يسحب سلطته من الدوق بنفسه… فماذا عليّ أن أفعل؟.’
حين طلبت ليليانا المشورة، رمشت أغيرينا بعينيها الواسعتين الجميلتين، ثم غرست شوكةً في حبّة فراولة ووضعتها في فمها.
ظنت ليليانا أنها ستجيب بعد أن تنهي مضغها، لكن أغيرينا ظلّت تمضغ لفترة طويلة، ثم أجابت بصفاقة:
“هذا أمر يجب أن تتولّيه جلالتك من الآن فصاعدًا.”
“… آه.”
لقد تغيّرت هذه المرأة كثيرًا، وكأنها شخص آخر تمامًا. كل تلك الأناقة واللطف لم تكن سوى قناع. شعرت ليليانا بالخذلان، وضربت جبينها بكفها.
فهي اعتادت على من يُظهر عداءه أو شفقته لها علنًا، لكنها لم تتعلّم بعد كيف تميّز من يخفي نواياه خلف قناع من الودّ الزائف.
أكلت أغيرينا قطعة الكعك كلها، ثم نظرت إلى ليليانا بعينين متلهفتين وكأنها تنتظر قطعة “إيرل غراي” التي وُعدت بها. ولمّا كان الوعد وعدًا، أمرت ليليانا صوفيا أن تذهب إلى كبير الطهاة لتُحضرها.
لكن صوفيا عادت أسرع مما توقعت، وخلفها حامل ملابس مغطى بقطعة قماش سوداء. وفي البداية لم تدرك ليليانا ماهيته، لكنها ما لبثت أن اتسعت عيناها وبدت عليها مظاهر التوتر.
رفعت أغيرينا القماش بحذر، أما ليليانا فلم تستطع أن تُبعد عينيها عن الفستان.
قالت أغيرينا، وهي تغطي فمها بدهشة:
“يا إلهي…”
كان الفستان المعلّق مطابقًا تمامًا لما وصفته ليليانا للسيدة ريستون.
الكتفان منتفخان حسب موضة العصر، والجزء السفلي ضيق يكشف بوضوح عن انحناءات الساق.
أما فتحة العنق فكانت عميقة حتى أن نصف الصدر مكشوف، تمامًا كما كان الفستان قبل أن تعدّله السيدة ريستون.
كان هناك قماش من الدانتيل الأسود يمتد من الصدر إلى العنق، وربما كان هذا هو التعديل الوحيد، لكنه بدا — في نظر ليليانا — أكثر إثارة.
علّقت أغيرينا بمرح:
“يا للعجب، إنه فستان جريء للغاية.”
لم تجد ليليانا ما ترد به. كان فستانًا لا يمكن إنكار جرأته.
قالت أغيرينا بابتسامة عريضة:
“لم أرَ فستانًا بهذا القدر من الإغراء من قبل.”
“أعرف… توقفي عن الكلام، أغيرينا.”
قالت أغيرينا، وكأنها لا تستطيع الحديث دون استخدام كلمة “جريء”:
“رغم أنه جريء، لكنه يجمع كل عناصر الموضة الحديثة. إنه أنيق جدًا. لكن جلالتك تملكين شعرًا يشبه أزهار الربيع، لذا أعتقد أن الألوان الفاتحة تليق بك أكثر من هذا الفستان الأسود الجريء…”
قالت ليليانا وهي تدفن وجهها في كفّيها:
“كفى، أعيديه لمكانه.”
اقتربت صوفيا وسألت بقلق:
“ألا تريدين تجربته؟”
“الكونتيسة صنعتَه لي، فلا بد أنه يناسب مقاسي.”
قالت أغيرينا، بدهشة متصاعدة:
“السيدة ريستون أرسلته بنفسها؟”
تقدمت لتتفحص الفستان مرة أخرى، ثم صفقت وكأنها أدركت شيئًا.
وبفرحٍ بريء تمامًا، قالت:
“لا يوجد سبب يجعل الأم تُهدي ابنتها فستانًا جريئًا كهذا… إلا إن كان من أجل أن تُريه لجلالته!”
صرخت ليليانا، وقد احمرّ وجهها كحبّة طماطم:
“هذا ليس صحيحًا!”
ثم التفتت لصوفيا وأضافت:
“أخفي ذلك الفستان جيدًا! لا تدعي جلالته يراه أبدًا!”
كانت الفكرة وحدها تُشعرها بالدوار. ولامت نفسها على لحظة ضعفٍ استسلمت فيها لسحر ذلك الفستان الآسر.
غطّت صوفيا الفستان مجددًا، وحملته إلى غرفة الملابس، بينما علّقت أغيرينا قائلة بأسى:
“يا للأسف… كان جلالته سيُسرّ برؤيته.”
حينها بدأت ليليانا تتساءل في أعماقها:
هل كان قرارها بتعيين أغيرينا كوصيفة خطوة موفقة فعلًا؟.
———————————————————————
•فضلاً ضع نجمه واكتب تعليق يشجعني على الإستمرار⭐•
حسابي على الإنستا:@empressamy_1213
حسابي على الواتباد: @Toro1312
ترجمة: ✧𝐀𝐌𝐘✧
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 79"