“متى زُرعَت هذه الشجرة يا تُرى؟”
سألت لِيليانا بنبرة يغلبُ عليها الذهول، إذ لم تكن الشجرة موجودة حين وقفت عند النافذة تلوّح لهيليو الليلة الماضية.
شجرة ظهرت بين ليلة وضحاها كانت عجيبة وأمرًا يصعب تصديقه، غير أنّ ما غمر قلبها أكثر من كل شيء هو شعورها بالسعادة.
ظلت تُحدّق بالشجرة المتفتّحة أمامها، ثم قرّبت غصنها من أنفها وغمرته بأنفاسها. عبقها العذب بدا وكأنّه يُذيب شيئًا من تعبها.
“لم أرَ زهرة كهذه من قبل.”
“يُقال إنها زهرة شجرة رونيا.”
“رونيا…”
ابتسمت لِيليانا ابتسامة مشرقة كزهرة تلك الشجرة البيضاء، بدت فيها سعيدة بحق.
غير أنّ تلك الابتسامة لم تدم طويلًا، وسرعان ما انحدرت من عينيها دموع غزيرة، حتى أنّ بتلات الزهرة الرقيقة لم تحتملها وانحنت برأسها.
“جلالتكِ! ما الذي يبكيكِ فجأة؟”
هزّت لِيليانا رأسها نفيًا، مما جعل مينيلي تعتقد أنّ وجودها يُثقل على سيدتها، فتوارَت سريعًا عن الأنظار.
أما صوفيا، فقد جلست إلى جانب لِيليانا، تربّت على كتفها بلطف، بينما كانت لِيليانا تعضّ شفتها السفلى محاولة كبح دموعها.
“جلالته يفعل كل ما بوسعه من أجلي، ومع ذلك، ما زلت أخدعه…”
نطقت بكلمات مملوءة بالندم، فأشفقت عليها صوفيا. تركت لبرهة علاقتها الرسمية بها، وأمسكت بيدها ونظرت في عينيها بعين الصديقة القديمة.
“جلالتك … من الطبيعي ألا يكون بين الإمبراطور والملكة مصارحة كاملة. لا تلومي نفسكِ. عليكِ أن تضعي نفسكِ في المقام الأول دائمًا. لكن ما يقلقني هو…”
ترددت صوفيا قليلًا، لكنها سألت أخيرًا بحذر:
“لا أفهم لماذا لا تريدين الطفل بهذا الشكل، جلالتك. لا تفكري بأنكِ تحمين الطفل فحسب… بل فكري بأن الطفل قد يحميكِ أيضًا. خاصةً والآن جلالته يُظهر لكِ عطفًا واهتمامًا حقيقيين. أنا أظن أن هذه فرصتكِ.”
نشأت صوفيا مع لِيليانا في ذلك القصر المهجور، لذلك كانت كلماتها واقعية إلى أقصى حد.
“لا أحد يعلم ما قد يحدث إن دخلت إمبراطورة أو محظية أخرى إلى القصر. قد تُصبح واحدة منهن هي المحظية المفضّلة. لذلك… جلالتك…”
دفعت لِيليانا يد صوفيا عنها برفق. لم تكن قادرة على تحمّل فكرة أن يأخذ هيليو امرأةً أخرى، لا كإمبراطورة ولا كرفيقة.
لكن صوتًا آخر في أعماقها كان يوبّخها بعنف، مُذكّرًا إياها بأنّ تلك الفكرة مجرد وهم. عانقت لِيليانا الغصن الذي أهداها إياه هيليو، وتمتمت بصوت خافت:
“لاحقًا… فلنتحدث لاحقًا يا صوفيا. أريد أن أكون وحدي الآن.”
زفرت صوفيا تنهيدة خافتة لا تكاد تُسمع، ثم انحنت باحترام، عائدةً إلى دورها كوصيفة مخلصة.
وحين أُغلِقَ باب الغرفة، جلست لِيليانا على حافة النافذة، ناسيةً كرامتها أو مظهرها.
كان يمكنها الجلوس هناك لساعات تتأمل تلك الشجرة البيضاء. والسبب الحقيقي الوحيد الذي منحها هذا السكون… هو أن تلك الشجرة كانت هديةً من هيليو.
لأنه هو من زرعها لها.
ولأنه أصبح شخصًا بالغ الأهمية في قلبها.
بدأت دموعها تجف، وشيئًا فشيئًا، ازدادت نظراتها صفاءً.
طالما أنّ دوق غابرييل ما يزال حيًّا، فلن تنعم بالراحة، ولن تستطيع التوقف عن خداع هيليو، ولا عن خداع قلبها. سيبقى شبح التهديد بالموت يلاحقها في كل لحظة.
لكن هل ستُصبح سعيدة إن اختفى دوق غابرييل؟ هل سيكون بإمكانها عندها أن تكون صادقة مع هيليو؟.
ظنّت لِيليانا أنّ الجواب لا.
فموتها كان حدثًا مفصليًّا في القصة الأصلية. موتها هو ما جعل الطفلة المنعزلة في القصر تعيش لحظة السعادة وتتحرر من وحدتها.
ولو كان للقدر سلطةٌ بالفعل، فسيُظهر لها عدوًّا آخر مهما اختفى دوق غابرييل.
“إن أصبحتُ إمبراطورة…”
إن استطاعت أن تمتلك سلطة تضاهي سلطة دوق غابرييل، فسيكون الأمر مختلفًا.
لطالما رأت ذلك أمرًا مستحيلًا. حين اقترحت السيدة ريستون أن تُصبح إمبراطورة، فزعت ورفضت رفضًا قاطعًا. لكن، هل هو أمر مستحيل حقًّا؟
الآن، شعرت لِيليانا للمرة الأولى أنّها، حتى إن فشلت، تُريد على الأقل أن تحاول. أن تبقى عاجزة وتبكي فقط… هذا ما لا تريده على الإطلاق.
نهضت عن حافة النافذة، وضعت الغصن هناك بعناية، ثم شدّت جرس الخدم.
دخلت صوفيا مسرعة، وقد بدت عليها علامات القلق.
لكن لِيليانا، وقد اختفى أثر البكاء من صوتها، قالت بنبرة عازمة:
“ساعديني في التزيّن. هناك أمرٌ خطر لي ويجب أن أفعله.”
كان في القصر الإمبراطوري طريقٌ مُقام من حجارةٍ منحوتةٍ بإتقان. وأكثر الأماكن ازدحامًا في القصر كان عند بوابته الرئيسية.
وعلى ذلك الطريق، كانت عربة ضخمة تمضي في هدوء، وكل من دخل أو خرج من القصر لم يكن قادرًا على صرف بصره عنها. ثم ما يلبث أن يهمس لمن بجانبه:
“إنها عربة الإمبراطورة مجددًا.”
“ويحك! ماذا لو سمع رجال دوقية غابرييل ما قلت؟ كيف لك أن تسميها عربة الإمبراطورة؟”
“لكن الختم الإمبراطوري موضوعٌ عليها، أليس من الطبيعي أن تُسمّى كذلك؟ حتى وإن كانت من فيها من أميرات البلاد الأجنبية، ما دامت على متن تلك العربة، فيجب معاملتها بصفتها الإمبراطورة.”
“…أخشى ما أخشاه أن تُقْدِم دوقية غابرييل على فعلٍ شنيع بسبب هذا.”
كانت لِيليانا في قلب دائرة القيل والقال تمامًا. وما قاله هيليو يومًا ما لم يكن خاطئًا؛ فليس كل ما يُقال بين الناس بالضرورة إشارةٌ إلى أمرٍ سيء.
فالناس لم يعودوا قادرين على تجاهل وجود لِيليانا، بل إن بعضهم باتوا يتقربون من قصر الإميرالد عازمين على كسب رضاها.
وقد ازدادت هذه الظاهرة في الآونة الأخيرة بشكل ملحوظ، وكان السبب واضحًا للغاية.
“مهما بلغت المحبة، أيّ ملكة تخرج من القصر وتعود إليه بحرّيتها هكذا؟”
“ويقال إن الملكة هي من طلبت الإذن بنفسها. أخشى أن تخبرنا يومًا ما بأنها ذاهبة إلى مملكة نييتا!”
“…مع الوضع الحالي، لا يبدو ذلك مستحيلًا أيضًا.”
وكانوا صادقين في قولهم. فقد ذهبت لِيليانا إلى هيليو وطلبت منه حق الخروج من القصر الإمبراطوري.
وقد استعدّت بملفاتٍ ووثائقَ كثيرة بمساعدة لوسيا لإقناعه، إلا أن هيليو لم يُلقِ نظرة على أيٍّ منها، واكتفى بسؤالٍ واحدٍ فقط:
“ولِمَ ترغبين بالخروج؟”
وكان جواب لِيليانا، كأنه أمرٌ بديهي:
“بما أن دوقية غابرييل فقدت ثقة النبلاء وقيادتها الاقتصادية، فأريد أن أستحوذ على ذلك بنفسي.”
وما إن أنهت حديثها، حتى ابتسم هيليو ابتسامةً راضية وأمر تيرنز بإعداد تصريح تنقُّل من القصر.
وقد أثار هذا القرار دهشة تيرنز، إذ لم يُمنح مثل هذا التصريح لأي ملكة من قبل، لكن رغم اعتراضه، فقد أعدّه بأمانةٍ وإخلاص.
وعندما وصلت العربة إلى بوابة القصر، لم يطلب الحراس من لِيليانا تصريحًا، وكأن العربة نفسها كانت التصريح.
فقد كانوا بانتظارها والبوابة مفتوحة، وعبرت العربة خارج القصر بكل هدوء.
كانت هذه أول مرة تغادر فيها القصر منذ ذلك اليوم الذي خرجت فيه بحجة العلاج قبل عدة أشهر. حينها، كانت العربة الإمبراطورية التي رافقتها مجرّد مظهرٍ استعراضي، ولم تنل منها شيئًا حقيقيًا.
أما الآن، فقد كانت لِيليانا حقًا على متن عربة الإمبراطورة، بعد أن قررت أن تصبح هي نفسها الإمبراطورة.
شعورها وهو تعتلي تلك العربة بعد اتخاذ قرارها لم يكن بسيطًا.
أراحت كفّها على الكرسي الواسع الناعم داخل العربة. لم يكن هذا الترف أحد الأسباب التي دفعتها لاتخاذ القرار، لكنه أيضًا لم يكن شيئًا يستدعي الرفض.
وقد بدا أن كل تقنيات الإمبراطورية استُخدمت في صنع هذه العربة، إذ كانت مريحة للغاية. ونظرت لِيليانا من النافذة برضا، حتى ظهر لها قصر ماركيزة ريستون الجميل من بعيد.
وعندما وصلت العربة إلى قصر ريستون، كانت الماركيزة بانتظارها لاستقبالها.
“جلالتك، الطقس بارد، تفضلي بالدخول.”
ورغم أن الشمس كانت أكثر دفئًا من المعتاد ذلك اليوم، فقد أسرعت ماركيزة ريستون بأخذ لِيليانا إلى غرفة الضيافة، وبعد قليل، وصلت الخادمة تحمل شايًا دافئًا.
“لا بد أن القصر الإمبراطوري أصبح صاخبًا مؤخرًا، هل يُعامل جلالتك بجفاء؟”
وحين رأت لِيليانا أن ماركيزة ريستون تتحدث عن الإمبراطور بهذه الحرية، شعرت أن هذا هو شعور العودة إلى بيت الأهل. ابتسمت ونفت ذلك برقة.
“بل يعاملني بلُطفٍ أكثر من ذي قبل.”
أهدى لها شجرةً مزهرةً كاملة، بل وأعطاها تصريحًا يتيح لها الخروج من القصر الإمبراطوري.
تغيرت نظرة الماركيزة، وأدركت أن مشاعر هيليو تجاه لِيليانا كانت أعمق بكثير مما تصورت.
كانت ترغب في أن تسألها مجددًا عن نيتها في أن تصبح إمبراطورة، لكنها خشيت أن تضع عليها عبئًا.
وقد شعرت لِيليانا بذلك الحذر، فأمسكت بيد ماركيزة ريستون بلطف.
“عزيزتي، سأفعل كما قلتِ لي.”
اتسعت حدقة الماركيزة، وكل تركيزها انصبّ على لِيليانا، وقد شعرت بحرارة يدها تزداد دفئًا.
ثم رفعت لِيليانا عينيها، ونظرت إلى وجه عرّابتها مجددًا.
“أريد أن أصبح الإمبراطورة. لا، بل سأحاول أن أصبحها.”
“جلالتك…”
“أعلم أن الطريق لن يكون سهلاً، وأشعر أنني لا أعرف حتى من أين أبدأ. لكنني أريد أن أبدأ… خطوةً بخطوة.”
ارتسمت السعادة على وجه ماركيزة ريستون، لكنها لم تكن خاليةً من القلق.
“سأفعل ما تأمرين به، جلالتك. لكن… ما الذي جعلك تغيّرين رأيك فجأة؟”
“ذلك…”
ترددت لِيليانا مرارًا في فتح فمها للحديث. من أين تبدأ؟ وما الذي يمكن قوله؟
السبب في رفضها للعرش في البداية، أنها كانت ترغب بالنجاة، ولو اضطرها الأمر للانحناء أرضًا.
لم تكن تريد فقدان طفلها، أو أن تُحطَّم صحتها بسبب الإجهاض، أو أن تموت وتترك ابنتها التي لن تراها يومًا.
كانت ترى أنها ستنجو إن ظلت في الظل، وامتنعت عن الإنجاب، بينما يتزوج الإمبراطور امرأة أخرى، وينجب منها، ويهبها حبه الكامل.
لكنها لم تكن تحتمل ذلك. لقد أرادت أن تملك ذلك البريق في عينيه حين ضمّها إليه، أرادت أن تملكه لها وحدها.
“أريد أن أقترب من جلالته أكثر… أعلم أن هذا السبب قد يبدو… أحمقًا، أليس كذلك؟”
__________________________________________
• حسابي واتباد: Toro1312 !!⭐•
《لاتدع الرواية تشغلك عن العبادات》
ترجمة: ✧𝐀𝐌𝐘✧
التعليقات لهذا الفصل " 73"
كيوت🥺