واجه الاثنان بعضهما من مسافة قصيرة. وضع هيليو كفّه على وجنة لِيليانا وانحنى نحوها. أما هي، فكانت تنظر إلى شفتيه تقتربان منها ثم أغمضت عينيها بانقياد.
لم تكن شفتاه دافئتين كما ظنّت، بل شعرت بهما باردتين بعض الشيء. لكن لِيليانا وجدت في ذلك شعورًا غريبًا أحبّته.
أن يكون رجل مثل هيليو، لا يخاف من شيء في هذا العالم، متوترًا حين يقبّلها… كان ذلك أمرًا جميلاً في نظرها.
أزاح هيليو خصلات شعرها إلى ما وراء كتفها، وراح يمرر يده على عنقها. وفي كل مرة، كانت لِيليانا تخرج أنفاسها، فيلتقطها هو وكأنها تخصّه.
وهي تستلقي على الأغطية الناعمة بيده، فكّرت:
‘ أريد أن أقبّل راحة يده الخشنة… أريد أن أحتضن ظهره الصلب… أشعر بسعادة حين تلمس يداه جسدي… ‘
وقبل كل شيء، كانت عيناه اللتان أرعبتاها في الماضي تبدوان الآن ثمينتين، أكثر من أي جوهرة في العالم.
لم تحبّ لِيليانا أحدًا من قبل، لكنها بدأت تدرك أنّ مشاعرها تجاه هيليو لم تعد مجرّد تعلّق أو إعجاب.
لكن إن كانت هذه المشاعر هي الحبّ فعلًا، فلن تنال سوى التعاسة. فلم تُكتب السعادة يومًا لملكة أحبّت الإمبراطور بصدقٍ، لا لاستغلاله.
على عكس لِيليانا في القصة الأصلية التي خاطرت بحياتها لتنجب طفلًا من أجل البقاء، قد تفعل هي ذلك بدافع الحب فقط.
راحت الأفكار تتشابك دون نهاية، لكنّها توقّفت حين قبّل هيليو جفنها بلطف.
“انظري إليّ.”
همس بها هيليو من مسافة قريبة لدرجة أنها شعرت بأنفاسه.
“حتى أعرف إن كنتِ خائفة أم لا.”
يبدو أنه ما زال قلقًا بشأن خوفها منه. ولِيليانا، وكأنها تقول له إنها ليست خائفة، عانقته بشدة.
وفجأة، حين التفتت، وقعت عيناها على كوب شاي صغير موضوع على الطاولة الجانبية. كان نفس الكوب الذي وضعت فيه صوفيا حبوب منع الحمل قبل مجيء هيليو.
كان فارغًا الآن، لكن لِيليانا شعرت وكأن الكوب يوجّه لها اللوم.
كان يُقال إن هيليو أكثر الناس ازدواجيةً في هذا العالم، لكن لِيليانا لم تستطع إلا أن تسخر من نفسها.
فأكثر من كان يخفي حقيقته… لم يكن سوى هي نفسها.
❈❈❈
في الحلم، كان هيليو في عربة تسير به إلى مكانٍ ما. حين نظر من النافذة، رأى مشاهد مألوفة تمرّ سريعًا إلى الخلف. على الأغلب، كان متجهاً نحو قصر الزمردة.
كانت الشمس قد شارفت على الغروب، فتلونت السماء بألوان المغيب. وأثناء شروده في المنظر، قال تيرنز بصوت مليء بالقلق:
“جلالتك، منذ أن وصلت سموّ الملكة إلى الإمبراطورية، لم تنطق بكلمةٍ واحدة. لقد مرّ على ذلك نصف شهرٍ بالفعل.”
أراد هيليو أن يسأله ما الذي يعنيه، لكنه لم يستطع تحريك جسده. وبعد لحظة، خرج من فمه كلام غريب:
“ما الذي تريد قوله؟”
“كنت أتمنى فقط أن تعاملها بلطف. إنها سيدة مسكينة. حتى والدها، ملك نييتا، لم يكن يعرف عمرها حين أرسلها كرهينة ، بل لم يكن يعرف اسمها أصلًا. لذا، أرجو منك أن تكون طيبًا معها.”
“وهل سيجعلها ذلك سعيدة؟”
خرجت هذه الكلمات الباردة من فمه رغم أنه لم يقصدها. كان هذا جسده، لكنه لا يتحكّم فيه. رأى تيرنز يتجمد من وقعها.
“ربما لن تجعلها سعيدة، لكن…”
“لا أريد التظاهر. جلبتُ تلك المرأة من أجل مصالح الإمبراطورية، وسأستخدمها حتى النهاية. لا داعي لأن أزيف مشاعري معها.”
“ومن قال إن الطيبة تزييف؟… كم أنت قاسٍ…”
شعر هيليو بالريبة. ما الذي يجري هنا؟ تيرنز يتحدث وكأن لِيليانا وصلت للتو إلى إمبراطورية كارلو.
وكانت طريقة تعامله معها قاسية لأبعد حد.
“إن احتاجت شيئًا، فأرسلوه لها على الفور. واختاروا وصيفاتها وخادماتها من الأكفاء.”
“لكنك إن أخبرتها بذلك بنفسك، فربما تتمكن من الاتكال عليك.”
“لا حاجة لذلك. لا شيء أكثر عديمة الجدوى من الأمل الكاذب.”
ذكرته كلماته بأمه، الإمبراطورة الأم. فقد تحمّلت كل أنواع العذاب على أمل أن تعود إلى موطنها، لكنها حين فقدت الأمل… وقعت في يأسٍ أعظم.
توقّفت العربة ونزل منها هيليو في باحة قصر الزمردة.
لكن لم تكن هناك امرأة محبوبة تجري نحوه حالما تسمع بقدومه، لتوبخه لأنها انتظر كثيرًا، أو تشتكي بأن تعلّمها للإتيكيت ذهب هباءً.
في أعمق غرفة في القصر، كانت هناك لِيليانا بوجه مألوف، لكنها لم ترفع عينيها لملاقاته، وظلّت تمسك يديها بتوتر شديد، ترتجف كتفاها بلا توقف.
ويبدو أنها، رغم الخوف، لم تكن تفكر بالموت إطلاقًا، فقد وقفت على قدميها المرتعشتين وقدّمت له التحية.
لم يكن أحد قد علّمها بروتوكولات إمبراطورية كارلو، فكانت كل حركاتها مستوحاة من آداب مملكة نييتا.
“ات–، اتشرف برؤية جلالة الإمبراطور. إنه لشرف لي أن أُكرَّم بخدمة شمس إمبراطورية كارلو.”
لم يكن في ملامح لِيليانا أثرٌ للصدق. كانت تخشى قدومه إلى هذا المكان بشدّة،
لكن في الوقت ذاته، بدا أنها تبذل قصارى جهدها لتتخطّى الأمر.
أراد هيليو أن يهدّئ من روعها. كان يرغب في أن يتصرف ببساطة، وكأنه أتى ليتبادل معها بعض الدعابات.
غير أن هيليو في الحلم لم يفعل شيئًا من هذا.
“…سآتي في المرّة القادمة.”
كان هيليو يدرك جيدًا أنّ هيليو الذي في الحلم، إنما أراد فقط أن يترك ذلك المكان في أسرع وقت.
فقد ظنّ أن رحيله هو الرحمة الوحيدة التي يمكن أن يمنحها لتلك المرأة المسكينة.
“أترفق بي، يا جلالة الإمبراطور؟”
رنّ صوت لِيليانا المرتجف في أرجاء الغرفة، وعمّ الصمت.
“إن كنتَ حقًّا تترفق بي، فلا يجوز لك أن تغادر بهذه الطريقة. أنت تعلم ذلك جيدًا، أليس كذلك؟”
رغم أنها كانت أميرة منبوذة، إلا أنها بدت على درايةٍ بأحوال الدنيا أكثر من غيرها.
إنتهى لقائهم، وفقًا لما تقتضيه الأعراف، شكليًّا وواجبًا لا غير.
ولمّا نهضت لِيليانا لتقول شيئًا، كان هيليو قد ارتدى ثيابه وخرج من الغرفة.
شعر بكل خليةٍ في جسده كم أنّ لِيليانا ترتبك من وجوده،
وكان يشعر، في كل لحظة يمضيها إلى جوارها، أنه لا يختلف كثيرًا عن الوحش الذي كان عليه الإمبراطور السابق.
“قولوا لها إنه لا حاجة لها إلى إلقاء التحية عليّ في الصباح.
ولا على الإمبراطورة الأم كذلك.”
اهتزّت يدا وصيفة لِيليانا وهما مضمومتان بخشوع عند سماع كلامه.
كان يظن أن كُلّ فردٍ في العائلة الإمبراطورية يرعبها، فلا تطيق رؤيتهم،
لهذا قال ما قاله.
لكنّه، بذلك، قطع عليها كافّة الأعذار التي كانت ستسمح لها بالخروج من قصر الزمرد.
❈❈❈
أي حلمٍ مرعبٍ ومقزز هذا؟!.
فتح هيليو عينيه فورًا وجعل كفه على جبينه،
فشعر بقطرات العرق الباردة تبلّل راحة يده.
أراد أن ينهض ويمدّ يده إلى حبل الجرس،
لكنّه شعر بثقلٍ على كتفه، فاستدار.
كان شعر لِيليانا الوردي يغطي وجنتيها بالكامل حتى لم يكن ليرى وجهها.
ومع ذلك، كانت تمسك بذراعه وتضع جبينها على كتفه وهي نائمة.
بدا عليها الهدوء والسكينة،
حتى أنّه شعر أنها شخصٌ آخر تمامًا عن تلك التي رآها في الحلم.
أو لعل الشبه بينهما يكمن في أنها، حتى عندما خافت، لم تتراجع.
يالَه من حلمٍ غريب.
لم يكن يومًا يظنّ نفسه حالمًا، لكنه بدأ يعيد التفكير في ذلك الآن.
مدّ هيليو يده يُزيح خصلات شعرها،
وتأمل وجهها.
كانت وجنتاها ساخنتين محمرّتين من النوم العميق.
رغب في البقاء يتأمّلها، لكن صباح الإمبراطور لا يعرف الراحة.
أخرج ذراعه بحذر كي لا يوقظها، وارتدى ثيابه،
ثم غطّى كتفها العاري جيدًا.
وخلال كل ذلك، لم تستيقظ لِيليانا قط،
بل كانت تخرج أنفاسًا خفيفة كالأطفال.
ضحك هيليو بخفوت وهو يهمس:
“الجبان هنا هو أنا، لا غير.”
❈❈❈
استيقظت لِيليانا حين كانت الشمس قد بلغت كبد السماء.
وقد منهكة منذ البارحة لدرجة أنها دفنت وجهها في الوسادة رافضة الحراك.
“يجب أن تتناولي الغداء.”
قالت صوفيا بلهجة المتذمّرة،
فرفعت لِيليانا الغطاء حتى غطّت به رأسها.
لم تطق صوفيا هذا المشهد، فتقدّمت من الفراش ورفعت عنها الغطاء.
فتنهّدت لِيليانا وهي تغطي عينيها من الضوء قائلةً:
“أين جلالته؟”
“بالطبع، رحل.”
“وهل هذا طبيعي؟”
نهضت لِيليانا وأعانتها صوفيا على ارتداء ثيابها.
وما إن ارتشفت بعض الشاي الفاتر حتى بدأت تستعيد وعيها.
لم يكن غياب هيليو عن السرير مزعجًا جدًّا،
فهي تدرك جيدًا مدى انشغاله.
لكن لا يمكنها إنكار فراغٍ صغيرٍ كان يعتري قلبها.
مدّت يدها تتحسس الموضع الخالي إلى جوارها،
وفي تلك اللحظة، سُمع طرقٌ على الباب.
دخلت مينيلي وهي تحمل صينية فضية بين يديها،
وكانت تبتسم ببشاشة نادرة.
“جلالتكِ، انظري ما الذي أرسله جلالته.”
“من جلالته؟”
مدّت لِيليانا يدها نحو مينيلي،
فأسرعت الأخيرة إليها وقدّمت الصينية.
رأت عليها غصنًا صغيرًا تُزهر فيه زهرة بيضاء،
وظرفًا بحجم كف اليد.
لامست بأطراف أصابعها تلك الزهرة التي لا تكاد تُرى،
ثم فتحت الظرف.
「حين تفتحين عينيك، انظري من النافذة.」
أمسكت لِيليانا بالغصن وتقدّمت إلى النافذة،
فإذا بشجرة مزهرة تزهو بزهورها البيضاء أمام بوابة قصر الزمرد.
رغم برد الطقس، فقد أزهرت كأنما الربيع قد حلّ،
فبدت من بعيد كأنها باقة أزهار مترفة.
__________________________________________
• حسابي واتباد: Toro1312 !!⭐•
《لاتدع الرواية تشغلك عن العبادات》
ترجمة: ✧𝐀𝐌𝐘✧
التعليقات لهذا الفصل " 72"