لم تكن لِيليانا غافلةً. لا بد أنها قد سمعت بما دار في الاجتماع الكبير من أحاديث، ولا يُعقل أنها تجهل مغزى زيارته لها الليلة.
كان من المفترض أن ينجب الإمبراطور وريثه ، إلا أن هِيليو ما زال يتذكّر بوضوح وجه لِيليانا وهي تقفز من النافذة محاولةً الهرب كي لا تبيت معه.
لم يكد الحذر الذي كانت تبديه تجاهه يبدأ بالتلاشي، حتى وجد نفسه يخشى أن يعود مجددًا إلى كونه كائنًا يُثير الرهبة في نفسها.
‘كنت أُفضّل أن يأتي الوقت الذي ترغب فيه الملكة بذلك بنفسها’
أغمض هِيليو عينيه محاولًا تهدئة أفكاره المضطربة، لكن ما إن فعل حتى سُمع صوت طرقٍ خافت على الباب، ثم فُتح ودخل تيرنز، وما لبث أن خرج بهدوء ثم عاد.
–”جلالتك…”
ضغط هِيليو على صدغيه وهو يعبس بانزعاج، مُتيقنًا أن تيرنز على وشك أن يُلقي عليه محاضرة جديدة حول ضرورة زيارته لقصر الزمرّد.
“يكفي. لا تُبلغهَا بشيء. لن أذهب إلى قصر الزمرّد.”
اتخذ هِيليو قراره بعدم الذهاب. فقد وعد نفسه منذ شهرين فقط بألّا يُحمّل لِيليانا ما يُوجِب عليه الاعتذار لاحقًا.
وبمُجرد أن تبادر إلى ذهنه صورة وجهها وهي تبتسم له ببراءة وتُخرج خنصرها لتُقسم بذلك الوعد، لم يتردد لحظة في اختياره.
رؤية الابتسامة الحقيرة على وجه الدوق غابرييل أهون عليه من أن يرى نظرات الخوف في عيني لِيليانا مجددًا.
ورغم صرامة هِيليو في كلماته، لم ينطق تيرنز بأي جواب. أثار ذلك فضول هِيليو، ففتح عينيه ليجد مساعده يبتسم ابتسامةً حرجة.
“الأمر ليس كذلك، جلالتك… جلالة الملكة لِيليانا قد طلبت المثول لديك.”
لا بُد أن لِيليانا قد توقّعت كل شيء. ضاق ما بين حاجبي هِيليو. تُرى ما الذي تنوي قوله؟ هل أتت لتتوسّل إليه؟ من الممكن.
فلِيليانا امرأة واقعية، وتملك رغبةً عميقة في الحياة، لذا إن تطلّب الأمر أن تركع عند قدميه وتتوسّل، فلن تتردد.
لا شك أنها ستقول إنها لا ترغب بالحمل، ولا تريد أن تكون محطّ أنظار الدوق غابرييل ومصدر قلقه.
ربما كان هذا تطورًا عمّا مضى. ففي السابق، لم تكن تُفكّر حتى في التوسل له، بل كانت تختار القفز من النافذة بدلًا من مواجهته.
ابتسم هِيليو بسخرية، يعضّ على شفته وهو يُفكر بذلك.
“ما الذي ترغب أن أفعله؟”
“.. دَعها تدخل. وجهّز الشاي.”
“أمرك جلالتك.”
خرج تيرنز لينقل الأوامر، وما لبث أن دخلت لِيليانا إلى مكتب الإمبراطور.
لم تُؤدّ التحية، بل أخذت تُدير نظرها في أرجاء المكان بفضول.
“ما الذي تفعلينه؟.”
سألها هِليو بخشونة وقد امتلأ صدره بالضيق، غير أن لِيليانا لم تُعره اهتمامًا، وأجابت ببساطة:
“جلالتك دائمًا في المكتب، حتى أنني لم أعد أتذكّر لون غطاء سريرك. هل كان ذهبيًا؟.”
–”إنه أحمر.”
“إذًا، فإن ذاكرتي سيئة بالفعل.”
كانت لِيليانا تبدو أكثر هدوءًا من المعتاد، لكن يديها المتشابكتين تحت بطنها ونظراتها المُشتتة التي لم تجرؤ على ملاقاة عينيه، كلها دلّت على التوتر الذي يعتمل في داخلها.
دخلت الوصيفة تحمل صينية الشاي، ثم وضعتها على الطاولة الصغيرة في ركن المكتب. جلس هِيليو أولًا دون أن يتحدث، ولحقت به لِيليانا وجلست قبالته.
“هذا الشاي من مملكة نييتا، أليس كذلك؟ هل هو من هدية الكونت راكل لجلالتك؟”
“أجل.”
أجاب هِيليو باقتضاب، فيما كانت لِيليانا تتظاهر بالهدوء وهي تشم رائحة الشاي، وكان ذلك وحده كافيًا ليوتر أعصابه.
“لا بد أنكِ توقعتِ أنني سأزوركِ الليلة.”
توقّفَت حركة لِيليانا تمامًا وهي تُقرب الكوب من فمها. كأنها نسيت قواعد الإتيكيت التي تعلّمتها، فلم تلمس الشفاه الكوب، بل أعادته إلى الطاولة.
“لا داعي لأن تعتذر، جلالتك. لقد أتيت لأقول هذا.”
يبدو أنها كانت تتوقع كل شيء بالفعل.
“أنا أعلم أن جلالتك قد تغاضيت عن تصرفاتي الطائشة من قبل. لذا، لا سبب لأن أطلب الاعتذار منك.”
عبس هِيليو وهو يمدّ يده نحوها، فوضعت لِيليانا يدها فوق يده بهدوء، دون أن تفهم السبب.
كانت ترتدي قفازًا أبيض من الدانتيل، فلم يلمس جلدها جلده، ولم تصل حرارتها إلى راحته.
“يبدو أن لديكِ حرارة.”
ورغم أنه لم يلمس جبهتها ليتأكّد، فقد قال ذلك بصوتٍ واثق.
“ربما ستُصابين بحمى شديدة الليلة.”
لم تتمالك لِيليانا نفسها وضحكت بصوتٍ خافت، وقد غمرها إحساسٌ حار بالامتنان.
غمغمت وهي تُومئ:
“لا، لن أكون مريضة الليلة، على الإطلاق.”
ثم خلعت قفازها، وعادت لتضع كفها العاري فوق كف هِيليو. كانت يدها باردة، لا حرارة فيها، بفعل هواء الشتاء وبرودة التوتر.
مرَّ هِليو بإبهامه على ظاهر يد لِيليانا البيضاء.
“يبدو أن حرارة يدك أنت هي المرتفعة، يا جلالة الإمبراطور.”
“قد يكون ذلك صحيحًا.”
ابتسمت لِيليانا بصمت، ثم نهضت من مكانها. قبض هِيليو على الفراغ الذي خلّفته يدها المغادرة، ثم أرخاه.
“أراكَ الليلة، يا جلالة الإمبراطور.”
“… ليكن.”
لم تمكث لِيليانا طويلًا في القصر الإمبراطوري. غادرت بلا تردد، وكأنها لم تفكر قط في التوسل إلى هِيليو.
بل بدا أن من أراد التعلّق بها، وأن يختلق أعذارًا شتى، هو هِيليو نفسه.
❈❈❈
عندما أسدل الليل ستاره، سُمِع صوت عجلات العربة يقترب من بوابة قصر الزمرد. رفعت لِيليانا طرف فستانها الخفيف واقتربت من النافذة.
وكما هو متوقّع، نزل هِيليو من العربة. رغم بُعد المسافة، إلا أن لِيليانا أدركت أنه تعمّد أن يبدو أنيقًا هذه الليلة.
فقد صفّف خصلات شعره الذهبي الجميل إلى الوراء ليظهر جبينه، وارتدى قميصًا يُبرز عنقه، مما جعله يبدو وسيماً بشكلٍ خاص.
وما دام هذا الوسيم قد زاد وسامةً، فلا عجب أن خفق قلبها بعنفٍ مباغت.
لم يدخل هِيليو إلى القصر مباشرة، بل رفع رأسه نحو النافذة. تراجعت لِيليانا خطوة إلى الخلف كما لو أنها ضُبطت تتلصص، ثم لوّحت بيدها في خجل.
ابتسم هِيليو ابتسامة خافتة، ثم سار بخطًى طويلة حتى اختفى عن ناظريها.
ورغم أن صوفيا أعلمتها بوصول هِيليو، فإن لِيليانا لم تخرج لاستقباله. شعرت أن هذا المساء، بإمكانها التخلف عن المراسم المعتادة.
وعندما دخل هِيليو إلى غرفة النوم، انفجرت لِيليانا ضاحكة. رمقها هِيليو بصمت، ثم لوّح بيده ليأمر صوفيا وكل الخدم بالخروج.
“ما الذي يضحككِ؟”
“بل جلالتك…”
ترددت لِيليانا في قول ما يدور في ذهنها، إذ لم تكن متأكدة إن كان يليق مخاطبة إمبراطور بهذا الشكل، لكنها لم تستطع كبح الكلمات.
“لماذا تأنّقت إلى هذا الحد؟”
عندها، فتح هِيليو ذراعيه ودار دورةً خفيفة، وكأنه يعرض نفسه أمامها.
بدت هيئته أقرب إلى ممثل على المسرح من إمبراطور. وللأمانة، فإن وسامته تجاوزت الحدود المعتادة لأي حاكم.
“لأثير إعجابكِ. فلا أسوأ من أن تري زوجكِ في ليلة الزفاف للمرة الأولى وهو قبيح المنظر، أليس كذلك؟”
خفق قلب لِيليانا عند سماع كلمة “زوج”، لكنّها تظاهرت باللامبالاة وأجابت بمزاح:
“جلالتك لا يمكن أن يكون قبيحاً.”
“لعلّ ذلك من حسن الحظ. فإغراء الجميلات لا يجدي نفعًا خصوصاً معكِ.”
بل يجدي…
فطالما لي عينان، فلن يسعني تجاهل وسامتك، يا هِيليو…
فتحت لِيليانا عينيها على اتساعهما وراحت تطرف بسرعة.
اقترب هِيليو بخطى واثقة، ومدّ يده نحوها. ورغم قصر المسافة إلى السرير، إلا أن لِيليانا أدركت أنه يعرض عليها أن يرافقها.
تناولت يده بسرور، وتشابكت أصابعهما.
وما إن وصلا إلى السرير، حتى جلست لِيليانا على طرفه. ظلّ هِيليو واقفًا دون أن يفعل شيئًا.
فأمسكت لِيليانا بيده وجذبته برفق، فجلس إلى جوارها دون مقاومة.
لكن رغم قربهما، لم يتبادلا سوى الإمساك بالأيدي، دون أن يتجاوزا ذلك.
“قلتِ لي ذات مرة… إن وُلد لنا طفل، فلا تتركه وحيدًا.”
أومأت لِيليانا برأسها، مستذكرة تلك اللحظة.
“أعدكِ بذلك. سيكون طفلنا أرفع من أي شخصٍ آخر… أسمى مَن وُلد في هذا العالم.”
ضحكت لِيليانا كما لو كانت تسمع قصة طريفة. لم تكن بحاجة لوعد؛ كانت واثقة أن هِيليو سيُحب ابنته كثيرًا.
سيكون لها أبًا يجعل أي بطل روائي يبدو باهتًا أمامه.
لكن يبدو أن هِيليو أساء تفسير ضحكتها، فقال بنبرة يملؤها الحزن:
“ألا تُصدّقينني؟”
“بل أُصدّق.”
“من يُصدّق لا يضحك هكذا.”
“ضحكت لأنني أُصدّقك كثيرًا… أكثر من اللازم.”
لقد رأيتُ بالفعل كم ستحب تلك الطفلة…
حاولت لِيليانا تهدئته، لكنه ظلّ يبدو غير راضٍ. جذبت كمّه برفق وسألته في قلق:
“جلالتك، هل ضايقتك ضحكتي؟”
“ليس الأمر كذلك. فقط… لا أعلم كيف أطمئنكِ. إخافة الآخرين أمر أجيده، لكن طمأنتهم… لا أجيدها أبدًا.”
حين نطق هِيليو تلك الكلمات بنبرة منكسرة، تسللت مشاعر الذنب إلى عيني لِيليانا الواسعتين.
فهي، في الحقيقة، لم تكن تنوي الإنجاب. ولم تكن ترى ذلك أمرًا جبانًا.
فمصير الإمبراطورية لا يعنيها، ولم تكن لتتجاهل احتمال الموت، أو توهم نفسها بأن كل شيء سيكون بخير لمجرد أنها ستُحسن التصرف مستقبلاً.
لكن، لمجرد أنها لم تصارحه بالحقيقة… شعرت بقلبها يغوص في بحر من الألم.
“جلالتك…”
ربما ظنّ هِيليو أنها لا تزال خائفة، فاستعد ليقول شيئًا.
لكن لِيليانا رغبت فقط في أن تمر هذه اللحظة سريعًا، لأن كل كلمة يقولها تزيد من تعلقها به.
رفعت وجهها إليه وهمست:
“جلالتك… قبّلني، رجاءاً.”
__________________________________________
• حسابي واتباد: Toro1312 !!⭐•
《لاتدع الرواية تشغلك عن العبادات》
ترجمة: ✧𝐀𝐌𝐘✧
التعليقات لهذا الفصل " 71"