لم يكن هيليو يرغب في تلبية أي من مطالب دوق غابرييل، ولو واحدة.
“ذلك النسل لن يتمكن من النمو. لقد قضوا عمرهم يرتدون أرقى الثياب ويتناولون أطيب الأطعمة. فأن يعيشوا يوماً بعد يوم بلا مال سيكون جحيماً لا مثيل له.”
لوّح هيليو بيده وكأنه لا يرغب في مواصلة الحديث. عضّ دوق غابرييل شفته السفلى، لكنه أدرك أنه لن يربح شيئًا إن تمادى أكثر من ذلك.
لا بأس. فالتخلص من نبيلٍ أُسقِط إلى مرتبة العامة لم يكن بالأمر الصعب.
وما إن تراجع دوق غابرييل خطوة إلى الوراء حتى انتقلت الجلسة إلى البند التالي، حيث طُرح النقاش بشأن ما إذا كان ينبغي الاستمرار في نظام مسابقة الصيد الذي اقترحته لِيليانا.
تعرّض الاقتراح لوابلٍ من الانتقادات، غير أن عددًا من النبلاء باتوا يرغبون بالتقرب من لِيليانا، فاحتدم الجدال وطال أمده.
وساهمت السيدة ريستون في تأجيج الخلاف، حين بدأت بشرح مفصّل عن الأرباح المادية التي جنتها بفضل استدعاء روح ملك النور خلال المسابقة.
وفي نهاية المطاف، اضطر هيليو إلى التدخل.
“الا تستحق الملكة الثناء على قلبها الرحيم الذي يفكر في خزينة الإمبراطورية وشعبها؟ لا أريد أن أسمع في هذا الشأن مرة أخرى.”
وما إن تنهد بعض النبلاء وكأنهم يرفضون التبذير، حتى عمّ الصمت ولم يجرؤ أحد على الكلام.
دوق غابرييل ألقى نظرة على من حوله، فلما رأى وجوهًا شاحبة وقد خيّم عليها الخنوع، نقر لسانه بسخط.
عندما اعتلى هيليو العرش، ظن غابرييل أن عصره الذهبي قد بدأ.
فما دام ذلك الإمبراطور الجاهل عديم النفوذ، الذي لم يعرف إلا ساحات المعارك، قد جلس على العرش، فسيكون من السهل التحكم به كدميةٍ بين يديه. لكنه، لسببٍ ما، لم يكن بالسهولة التي تخيّلها.
انظر إليه الآن. جلب فتاة مجهولة الأصل، لا تملك قوةً أو نفوذًا، وجعلها ملكة، بل وجعل منها مركزًا للقوة التي يستند إليها.
هل ينوي عدم التنازل عن القيادة الفعلية للإمبراطورية؟ غابرييل سخر منه في نفسه.
لكن مهما فعل، فلن يتمكن من الإطاحة بأسرة دوق غابرييل. فهم متغلغلون في كل أوجه الاقتصاد والسياسة، ولا شيء يجري دون تدخلهم.
أما هو، فيستطيع تغيير الإمبراطور متى شاء، ولن تواجهه أي مشاكل. بل إن وجود حفيده على العرش سيكون أفضل نتيجة ممكنة.
وبعد انتهاء كل البنود، وقبل اختتام الجلسة، رفع دوق غابرييل يده ليجذب الأنظار إليه.
“ثمة أمر لم أجرؤ على طرحه سابقًا، احترامًا لصحة جلالتك.”
وما إن نطق بذلك، حتى حدّق به هيليو بعينيه الزرقاوين الحادتين. بدا وكأنه قد سمع الكلام مسبقًا، فلم يسأله شيئًا، ولم يمنحه الإذن بالكلام، لكن غابرييل تحدّث بصوتٍ عالٍ على الرغم من ذلك.
“لقد مضت تسع سنوات منذ اعتلاء جلالة الإمبراطور العرش، دون أن يُرزق بوريث. ألا ترون كم هو وقتٌ طويل في تاريخ الإمبراطورية دون وريث؟”
فصاحت السيدة ريستون بغضب، وكأنها تعتبر الحديث ضربًا من التجديف:
“كيف تجرؤ على الحديث عن الوريث بينما جلالة الإمبراطور لا يزال في عنفوان شبابه وصحته! لا تتحدث في أمور تخص العائلة الإمبراطورية لم تتحدث بها حتى جلالة الإمبراطورة الأم!”
“أوهل مسألة الوريث تخص العائلة الإمبراطورية وحدها؟”
رغم انزعاجه من تدخل السيدة ريستون، إلا أن غابرييل لم يُظهر ذلك علنًا، واكتفى بتجاهلها وهو يوجه كلامه نحو هيليو.
“تسع سنوات، يا جلالة الإمبراطور. ومع أنك لا تبخل على الوطن بروحك وتشارك في المعارك بنفسك، إلا أن ما حدث مؤخرًا من حريق في قصر آريس، القريب من القصر الإمبراطوري، قد زاد القلق إلى أقصى حد.”
ورغم أن ذلك الحريق من تدبيره، إلا أنه واصل الحديث دون خجل:
“لابد لجلالتك أن يُنجب وريثًا في أقرب وقت. عليك أن تتخذ امرأةً عفيفة وشريفة كإمبراطورة، لتحفظ شمس الإمبراطورية مشرقة لسنوات طويلة قادمة.”
ضحك هيليو ضحكة عالية، فدوّى صداها في قاعة الاجتماع الكبرى.
الجميع وقفوا دون تعبير، أو بملامح مشدودة، بينما وحده هيليو من كان يضحك. لكن ضحكته لم تطل كثيرًا، إذ انحنى إلى الأمام، وحدّق بدوق غابرييل بعينين كأنهما تنطقان بشرر، وتبثّان صقيعًا في آنٍ واحد.
“امرأة عفيفة وشريفة، تقول.”
راح هيليو ينقر على ذراع العرش بطرف إصبعه بإيقاع منتظم، حتى شحب وجه أكثر من حاضر، ثم قال:
“أليست بجواري بالفعل؟”
وسادت القاعة همهمات متقطعة بعد لحظة من الصمت الرهيب.
الجميع كان يعلم أن دوق غابرييل يشير إلى ڤيستي غابرييل باعتبارها المرشحة المثالية. لكن هيليو لم يكن يتحدث عنها على الإطلاق.
“إن الملكة لِيليانا، مثالٌ يحتذى في الطهر والعفّة. رغم انشغالها بإدارة شؤون الإمبراطورية، إلا أنها لم تُهملني، كما أنني سمعت الكثير من الثناء عليها من خدمها، لما تتحلى به من خلقٍ واحترام.”
“لكن جلالتها ليست من بنات الإمبراطورية. إنها أميرة مملكة نييتا.”
أراد غابرييل التأكيد على أنها غريبة الأصل، ولا يُوثق بها. لاكن هيليو أومأ برأسه، ثم حرف مجرى الحديث ببراعة:
“الملكة لِيليانا هي أحبّ بنات ملك نييتا إليه، وأكثرهن دلالًا. والآن، بعد أن أصبحت زوجتي، وصارت تنال محبتي، فهي من أسمى نساء العالم مكانة، ولا يشق لها غبار.”
لم يكن يخفى على الدوق غابرييل أن لِيليانا ليست سوى أميرة منبوذة، لكنه لم يكن ليتجرأ على إهانة حبيبة الإمبراطور ووصفها بالدنيئة أمام عينيه.
“ولكن، يا صاحب الجلالة، الملكة لِيليانا لم تُرزق بعد بوريث…”
قهقه هيليو ضاحكًا بصوت خافت وقصير. كان ضحكه أشبه بمن استلذّ السخرية، فلم يجد الدوق بُدًا من أن يصمت.
“يقولون إن الزمن يمرّ بسرعة كلما تقدم العمر… يبدو أنك لا تزال شابًا، يا دوق.”
“ماذا تعني بذلك…؟”
“لم يمضِ سوى نصف عام فقط منذ أن جاءت الملكة لِيليانا إليّ. ولا أرغب في تحميل المرأة التي أحبها عبئًا كهذا. ثم إنني لا أريد تبديد خزينة الدولة على مراسم تتويج للملكة، خاصة وأنها أميرة من مملكة أجنبية. لا تقلق، فالوريث الذي تحلم به سيأتي حين يحين أوانه، وستتكفّل به الملكة.”
وما إن فرغ هيليو من كلماته، حتى دعا “تيرنز” إلى جانبه، وكان جليًا أنه ينوي إنهاء الاجتماع الكبير.
حاول الدوق غابرييل أن يضيف شيئًا، وكأن كبرياءه لا يسمح له بالتراجع بهذه السهولة، لكن هيليو نهض من مقعده، ولوّح بيده إشارة إلى انصرافه، ثم غادر القاعة الكبرى.
“جلالتك!”
ناداه الدوق بصوت مفعم بالرجاء، لكن هيليو ابتعد كأنّه لم يسمع شيئًا. طحن الدوق على أسنانه غضبًا وغادر القاعة بخطوات غاضبة.
‘ لو كنت أعلم أن الأمر سيؤول إلى هذا، لكانت الخطوبة أفضل، حتى ولو كانت مقامرة!. ‘
ندم الدوق على ذلك اليوم أشد الندم.
عندما اعتلى هيليو العرش، لم يكن شيء مؤكدًا. كان من الممكن أن يظهر أحدهم في أي لحظة ليقتله ويستولي على العرش الأحمر.
لهذا لم يكن الدوق راغبًا في التضحية بابنته “ڤيستي” الثمينة على عجل. ظن أن الإمبراطور سيختارها زوجة دون الحاجة إلى ربط رسمي، فلم يشعر بالقلق.
لكن هيليو لم يُعر ڤيستي أي اهتمام، ومرّت تسع سنوات على هذا الحال. لا تزال ڤيستي جميلة، لكن يبدو أن القلق بدأ ينال منها، فأصبحت أكثر توترًا وحدة.
وأثناء ما كان الدوق يسرح في أفكاره المعقدة، ارتسمت على وجهه نظرة شريرة.
…ربما سيكون من الأفضل أن تحمل الملكة لِيليانا بطفل في أسرع وقت ممكن. وإن حدث إجهاض، فلن يعود الإمبراطور قادرًا على التمهّل بعد الآن.
صعد الدوق إلى عربته وهو يرسم ابتسامة خبيثة لا توصف.
❈❈❈
ما إن عاد هيليو إلى القصر الإمبراطوري، حتى اتجه مباشرة إلى مكتبه دون أن يأخذ أدنى قسط من الراحة.
وما إن أغلق تيرنز باب المكتب خلفه ليجعل المكان معزولًا، حتى خلع هيليو معطف زيه الإمبراطوري وألقاه بإهمال.
“جلالتك…”
“إن لم تكفّ عن ترديد أن قتل ذلك الدوق محال، فسأبدأ بقطع رأسك أنت أولًا.”
كان صوت هيليو منخفضًا، مشوبًا بخشونة مهدّدة كزمجرة ذئب، فصمت تيرنز فورًا كأنّ فمه قد خيط بإحكام.
كما قال قائد الفرسان ريدل ذات مرة: حين يبدأ هيليو بالتفوه بكلام فظ، فإن الصمت هو الخيار الأذكى.
والحق يُقال، لقد أزعج تيرنز الإمبراطور كثيرًا اليوم. إذ بدا واضحًا خلال الاجتماع أن هيليو كان على وشك أن يفتك بالدوق غابرييل.
وكان تيرنز يضطر للهمس مرارًا وتكرارًا طوال الإجتماع:
‘ جلالتك، لا يمكنك قتله الآن…’
‘جلالتك، لا يجوز قتل الدوق في هذا التوقيت…’
‘جلالتك، إن قتلته أمام الجميع فستقع كارثة!’
وكان تيرنز يتوقع أن يركله الإمبراطور بعد الاجتماع، لكنه اكتفى بتهديد عابر، ولم يُعِره أي اهتمام إضافي.
في مثل هذه اللحظات، كان تيرنز ممتنًا من أعماقه لوجود لِيليانا.
قد يظن البعض أن لا فرق في الأمر، لكن تورنز كان يشعر به بوضوح… لقد بات الإمبراطور أكثر هدوءًا، بل وأكثر لطفًا منذ أن جاءت لِيليانا إلى الإمبراطورية.
أخذ هيليو نفسًا عميقًا، وفتح بعض أزرار قميصه بعصبية. وكان واضحًا لـتيرنز ما الذي يدور في خَلَد الإمبراطور.
فقد كان يعلم أنه سيتلقى كتابًا طائرًا على رأسه عاجلًا أم آجلًا، ومع ذلك سأل بتردد:
“هل أبلغهم أن جلالتك ستزورقصر الزمرد الليلة؟”
لم يتلقَ أي رد من هيليو.
أدرك هيليو أن صبر الدوق غابرييل قد بلغ منتهاه. إذ وصل به الحال إلى إشعال النيران في قصر قريب من القصر الإمبراطوري، متذرعًا بأهمية الوريث.
تخلى عن ورقة تجارية كبرى كـ”نقابة كيرد”، ما يدل على شدة توتره.
ولكي يواصل الإمبراطور اللعب على الوقت، كان عليه أن يرد بخطوة مماثلة… خطوة تتعلق بالوريث الذي طالما تحدّث عنه ذلك الدوق اللعين.
__________________________________________
• حسابي واتباد: Toro1312 !!⭐•
《لاتدع الرواية تشغلك عن العبادات》
ترجمة: ✧𝐀𝐌𝐘✧
التعليقات لهذا الفصل " 70"