لم يمضِ أسبوعٌ واحد حتى أفصح الكونت راكل عن السجلات السرية لقافلة كيرد. وقد كانت حقيقة هذه القافلة، التي دأبت على التظاهر بالرقي تحت جناح دوقية غابرييل، أقبح بكثير مما يمكن تصوره.
لقد اختطفوا الأطفال وباعوهم عبيدًا، أما من لم يُبَع، فقد استخدموه في القافلة دون أن يُعطوه قرشًا واحدًا.
وكانوا يسجّلون الأحجار الكريمة الرخيصة على أنها أصلية، ويبيعونها في الحقيقة مرفقةً بعبيد، بل إنهم، طمعًا في رفع قيمة تلك الأحجار، لجؤوا إلى وسائل دنيئة، حتى تسرّبت المعلومات من الداخل.
ظنّت لِيليانا أن دوق غابرييل سيتظاهرعلى الأقل بالدفاع عن آل كيرد، حتى يُطمئن النبلاء الآخرين المتعلقين به.
غير أن دوق غابرييل كان متغطرسًا أكثر مما تخيلت، وكأن مفهوم التهدئة أو الاعتذار لا وجود له في عقله أصلًا.
لم يُحرّك ساكنًا. حتى حين سُحب الكونت كيرد باكيًا منحنٍيًا على ركبتيه نحو السجن، ظلّ صامتًا.
ومع ذلك، لم يذكر الكونت كيرد اسم دوق غابرييل أبدًا.
بل ادّعى أن كل ما حصل كان ناتجًا عن قراراته وحده، بل وعبّر عن أسفه العميق لما سبّبه من إساءة فهمٍ قد تطال دوق غابرييل.
وهكذا، رغم عدم تدخّله، بدا واضحًا أن الدوق يمسك بخناق الكونت كيرد بإحكام.
“دوق غابرييل جبانٌ.”
قالت لِيليانا ذلك فجأة، وهي تحتسي الشاي من شرفة قصر الزمرد، وكأنها ثائرة.
في البداية، قررت التصدي لدوقية غابرييل فقط لأنها رأت أن السلام لن يتحقق ما لم تُسقطهم.
لكن الآن، صارت تكرههم بكل كيانها. فهذه الدوقية لم تعد سوى دودة تنخر في دعائم الإمبراطورية، بعد أن كانت أحد أعمدتها.
“أتفق معكِ أنهم جبناء، لكن أرجوكِ، لا تتورطي أكثر من اللازم. أخشى أن تثيري غضبهم.”
قالت صوفيا التي كانت تقف بجانبها، بصوتٍ حذر مليء بالقلق. لعلّ لِيليانا الأصلية في القصة وافقتها، فعاشت وكأنها ميتة.
لكن دوقية غابرييل لم تكن رحيمةً إلى ذلك الحد. تنهدت لِيليانا وهي تتنشق عبير الشاي، وابتسمت بسخرية.
“لا تقلقي. أولئك سيقتلونني لمجرد أنني أتنفس.”
“آه… لا تقولي شيئًا مرعبًا كهذا.”
لكنها الحقيقة، يا صوفيا…
وقبل أن تنطق بتلك الكلمات، هبّت نسمة طويلة تحمل ذيلًا خلفها.
اصطدمت الخشونة بوجهها، وأتتها رائحة احتراق.
رفعت صوفيا رأسها تتبع الرائحة، وقالت:
“ما هذه الرائحة؟”
“أتُراه حريقًا في القصر الإمبراطوري؟”
“مستحيل…”
قالت لِيليانا ذلك، مستبعدةً الأمر، لكن قشعريرةً سرت في ظهرها.
ذهبت صوفيا لتتأكد من الأمر، بينما ظلّت لِيليانا تحدّق في اتجاه الدخان المتصاعد.
كان يأتي من الاتجاه الذي اعتاد هيليو أن يأتي منه حين يزور قصر الزمرد.
نهضت لِيليانا من مكانها، واستندت على حافة الشرفة، ومدّت عنقها علّها ترى مكان الحريق، رغم علمها أن ذلك لا يجدي.
حتى جاءت مينيلي وأمسكت بها، محذرةً.
“لا أحد يجرؤ على إشعال النار في قصر الإمبراطور، يا جلالتك.”
قالتها وكأنها تقرأ ما يجول في خاطر لِيليانا. تفاجأت لِيليانا من كلامها، ثم تشابكت يداها متظاهرةً بالهدوء.
لكن عينيها لم تكُفّا عن النظر إلى جهة الدخان. شعرت بالحرج، فحاولت التبرير.
“لست أظن أن أحدًا تعمّد الإشعال، لكن… ماذا إن كان حادثًا وأصيب أحد من خدم القصر؟”
جلست مجددًا كأنها لا تكترث، لكنها لم تشرب ولو رشفة واحدة من الشاي.
وبعد قليل، رأت العمال والفرسان يركضون في البعيد، لكنها لم تستطع تحديد وجهتهم.
ثم، بعد أن اختفوا بمدة، ظهرت صوفيا تعود إلى قصر الزمرد بخطى سريعة.
كان الوقت يمر ببطءٍ قاتل وهي تراها تصعد الدرج نحو الشرفة. لولا أنها تماسكت، لذهبت لاستقبالها بنفسها.
لكن ذلك لن يغيّر شيئًا.
“صوفيا، ماذا هناك؟”
بمجرد أن دخلت صوفيا الشرفة، سارعت لِيليانا بالسؤال، فقابلتها صوفيا بوجهٍ ممتلئ بالدهشة والقلق.
“جلالتك! لقد قُبض على الابن الأكبر لكونت كيرد كمُفتعلٍ للحريق!”
صُدمت لِيليانا، وكذلك مينيلي التي كانت واقفةً بجانبها.
فافتعال الحريق داخل القصر الإمبراطوري يُعد خيانةً عظمى. حتى لو أشعل أحد الخدم نارًا عن طريق الخطأ وتمت السيطرة عليها فورًا، فمصيره القتل.
“وهل قبضوا عليه فعلًا؟”
“في الواقع… حين كُشف أمره وهو يحاول الهرب، تناول السم ومات فورًا. وقد صدر أمر بإلقاء القبض على كل أفراد عائلة كيرد.”
كانت كل معلومة تنقلها صوفيا ذات أهمية، لكن ما أرادت لِيليانا معرفته كان مختلفًا.
“وأين اندلع الحريق؟ هل أُصيب أحد؟”
“في قصر آريس! أحد الفرسان أُصيب أثناء القبض على الجاني، لكنها إصابة خفيفة. ولحسن الحظ، لم يكن القصر مأهولًا، لذا أُخلي بسرعة، واندلعت النيران فقط في بعض أرجاء الطابق الأول. حجم الحريق لم يكن كبيرًا.”
بدت صوفيا متحمسةً وهي تتحدث بسرعة.
قصر آريس، إذن.
تنهدت لِيليانا بارتياحٍ عميق، واستندت إلى ظهر الكرسي.
“الحمد لله.”
رغم أن الفكرة بدت جنونية ولا تُصدّق، إلا أن ليليانا خشيت للحظة أن يكون هناك أحمق أشعل النيران في القصر الإمبراطوري.
وما إن أدركت أن هيليو بخير، حتى بدأت أفكارها تعمل بسرعة.
لماذا أشعل الابن الأكبر للكونت كيرد النار في قصر أريس؟ هل كان انتقامًا من العائلة الإمبراطورية؟ لا، ذلك مستبعد.
أولًا، ذلك القصر المهجور لا يُسبب أي ضرر يُذكر للعائلة الإمبراطورية بإحراقه.
ثانيًا، العدو الذي يضمر له آل كيرد الحقد حاليًا هو الكونت راكل، لا الإمبراطورية بحد ذاتها.
ثالثًا، لو كان هدفه الانتقام، لكان استهداف الكونت راكل أسهل بكثير.
إذًا، ليس هناك إلا احتمال واحد: الابن الأكبر للكونت كيرد تلقّى أمرًا بإشعال النار في قصر أريس، أمرًا لم يكن قادرًا على رفضه. ولا حاجة للتفكير كثيرًا حول من أصدر الأمر، فلا شك أنه كان دوق غابرييل.
فمن دونه، ما كان لذلك الشاب أن يضع قدمًا في القصر الإمبراطوري.
إذاً، ما يجب على ليليانا اكتشافه هو: لماذا أمر دوق غابرييل بإحراق قصر أريس؟.
ذلك الشيطان لن يُقدم على مخاطرة كهذه من دون هدف. إذًا، ما الذي كسبه من تلك الحادثة؟
تصاعد الدخان مع تراجع ألسنة اللهب، وكأن النار تلفظ أنفاسها الأخيرة، بينما كانت عينا ليليانا تغوصان في الظلمة.
ومدّت يدها نحو الطاولة دون أن تنظر، فأطاحت بفنجان الشاي.
“جلالتك، هل أنتِ بخير؟”
أسرعت صوفيا نحوها، تمسح بلطف بقعة الشاي التي لطّخت طرف فستانها. وقفت ليليانا بهدوء.
“يبدو أنني بحاجة لتبديل ملابسي. هل تساعدينني؟”
بدت ليليانا هادئة بشكل غريب، لا تشبه من سُكب الشاي للتو على ثوبها. اصطحبت صوفيا معها إلى غرفة النوم وغيرت ملابسها..
وحين اقتربت صوفيا منها لتضع لها شالًا سميكًا على كتفيها، همست ليليانا، بصوت خافت بالكاد تحرك فيه شفتيها:
“صوفيا، من الآن فصاعدًا، كلما زار جلالته قصر الزمرد، حضّري له الشاي بعناية.”
للوهلة الأولى، بدا الأمر توجيهًا بالعناية بالضيافة. لكن صوفيا فهمت المعنى الحقيقي لكلمات ليليانا فورًا.
كانت تقصد أن تخلط موانع الحمل في شايها كلما زارها هيليو.
“هاه؟ الآن؟”
رغم أنها كانت قد أعدّت موانع الحمل منذ فترة، إلا أنها لم تتناولها ولو لمرة واحدة. لم يكن هناك حاجة لذلك. لكن ليليانا أدركت الحقيقة الآن.
لم يعد هناك مجال للتراجع.
“نعم. يبدو أن دوق غابرييل بات يُلحّ على جلالته أكثر، حتى أنه لم يتردد في التخلص من الكونت كيرد.”
لم تعترض صوفيا، لكنها لم تفهم المعنى الخفي لكلام ليليانا. حدّقت فيها بوجه متردد، فابتسمت ليليانا ابتسامة حزينة.
“دوق غابرييل متغطرس لدرجةٍ مذهلة. أن يُشعل النار في القصر الإمبراطوري لمجرد التأكيد على أهمية وجود وريث! يا له من جنون.”
كان من المؤكد أن دوق غابرييل سيستغل الحادثة للضغط على الإمبراطور ليتزوج الإمبراطورة بسرعة، لكن هيليو لن يرغب بذلك.
ولن يكون لدى هيليو سوى ورقة واحدة ليُظهرها في وجههم…
ليليانا نفسها.
❈❈❈
“يجب أن نلقي القبض على جميع أفراد عائلة الكونت كيرد، لنجعل منهم عبرة لمن تسوّل له نفسه.”
كان هذا هو الصوت الوحيد الذي تردد صداه في قاعة الاجتماع الواسعة. أما بقية النبلاء، فلم ينبسوا ببنت شفة، واكتفوا بالنظر بالتناوب بين هيليو ودوق غابرييل، كأنهم فئران تراقب القط.
في المقابل، كان هيليو يجلس على العرش بزاوية مائلة، مظهرًا حالة من الملل كأن كل شيء يثير الضجر في عينيه.
أسند جبينه إلى يده، وجال بنظره في القاعة بنظراتٍ كسولة.
“الكونت كيرد وابنه قد ماتا بالفعل.”
“لكن لا يجوز أن تبقى جذور من تجرأ على إشعال النار في القصر الإمبراطوري حية على هذه الأرض.”
“أتقصد أن نُبيد العائلة بأكملها؟”
“نعم، هذا ما أعنيه.”
عندها رفع هيليو رأسه وضحك ساخرًا.
“الدوق رجلٌ لا يخلط بين الخاص والعام. ألم تكن تربطك بالكونت كيرد صداقة متينة؟ ألا تشعر بأي شفقة تجاهه؟”
“هذا أمرٌ يخص أمن العائلة الإمبراطورية، ولا مجال للعواطف الشخصية فيه.”
“ما أعظم إخلاصك، أيها الدوق. حقًا، أنت فخر للإمبراطورية.”
لو كُتبت هذه المحادثة في كتب التاريخ، لبدت وكأنها حوار خالد بين إمبراطور حكيم ووزيرٍ مخلص.
لكنّ جميع الحاضرين في القاعة كانوا يشعرون بالتوتر المتصاعد بين الرجلين.
اعتدل هيليو في جلسته، ثم أشار إلى “تيرنز” بإصبعه وقال:
“تُسحب رتبة النبل من عائلة الكونت كيرد، وتُصادر ممتلكاتهم، ويُجبرون على العيش كالعامة. كما أن شركة كيرد التجارية ستُضم إلى ممتلكات العائلة الإمبراطورية.”
دوّن تيرنز كل كلمة قالها الإمبراطور بدقة. لكن يبدو أن دوق غابرييل لم يكن راضيًا عن هذا القرار.
“جلالتك، لا ينبغي السماح لبذور الشر أن تنمو من جديد.”
__________________________________________
• حسابي واتباد: Toro1312 !!⭐•
《لاتدع الرواية تشغلك عن العبادات》
ترجمة: ✧𝐀𝐌𝐘✧
التعليقات لهذا الفصل " 69"