عادت صوفيا بعد أن انسحبت بهدوء، حاملةً صندوقًا صغيرًا. وخلال فتحها لصندوق الهدية بيديها، بقي هيليو صامتًا، فيما تمتمت لِيليانا بجملة “هذا غريب حقًا” نحو خمس مرات.
“لابد أن به شيئًا غريبًا. لا أرغب في فتحه.”
“سأفتحه أنا.”
“لا أريد أن أريه لجلالتك أيضًا. أود فقط أن أتخلّص منه.”
“هذا غير مسموح.”
لم تكن لِيليانا ترغب بإغضاب هيليو من دون داعٍ، غير أن الأمر مسّ شرفها، ولهذا لم يتراجع هيليو خطوة واحدة.
“أرغب في أن أرى إلى أي حدّ بلغت وقاحه هذا الكونت.”
وحينما أُخرج من الصندوق حذاء مألوف، زفرت لِيليانا تنهيدة حارة. في المقابل، ضحك هيليو ضحكة ممتعة، ثم التقط الحذاء بإصبعه السبابة ورفعه في الهواء.
“حذاءٌ، إذًا…”
الحذاء المتدلّي في الهواء بدا غايةً في الجمال، وهذا لم يكن غريبًا. فقد كان أحد الأحذية التي قدّمها هيليو لِلِيليانا في الحفل السابق كهدية.
ومهما بلغ شأن هيليو، فلم يكن بمقدوره صناعة حذاء غير موجود في هذا العالم خلال ساعة أو ساعتين. وبدلًا من ذلك، أحضر ثلاث قطع من أفخر ما عُرض في أشهر ثلاث متاجر في الإمبراطورية، وقدّمها كهدية.
وبالرغم من قلة عددها وندرتها، إلا أنها لم تكن قطعًا فريدة لا مثيل لها في العالم.
“الكونت كيرد جريء إلى حدٍّ بعيد.”
“ما كان ليتخيل أبدًا أن جلالتك سترى هذا.”
“يبدو أن هذا الكونت يعرفك أكثر مما توقعت. فلو كنتِ من رآه وحدك، لما أخبرتِني بالأمر.”
نقَر هيليو بإصبعه على الحذاءَ وألقاه على الأرض.
كان حذاءً يساوي على الأقل ثمن منزل، لكنه تدحرج على الأرض في مشهد مؤسف.
وكانت الرسالة التي أراد الكونت كيرد إيصالها من خلال هذا الحذاء واضحةً تمامًا. وهي أن لِيليانا لا تختلف في شيء عن هذا الحذاء الباهظ الثمن، الذي يبدو فريدًا، لكنه في الواقع يمكن استبداله بسهولة.
وبعبارة أكثر صراحة، أراد القول:
“أنتِ مجرد زوجة إمبراطور، فتواضعي والتزمي حدودك.”
ورغم إدراكها التام لما يرمي إليه، لم تُظهر لِيليانا أيَّ قدر من الضيق، واكتفت بالرمش بعينيها. بل إنّ عينيها الزهريتين الشفافتين أظهرتا هدوءًا أكثر من المعتاد. والحقيقة أنها بدت أكثر توترًا قبل فتح الصندوق.
“ما الذي يجعلكِ تحدّقين هكذا؟ لقد أهانك هذا الشخص”
“أجل، هذا صحيح.”
أومأت لِيليانا برأسها ببرود. فابتسم هيليو، وجلس على حافة مكتبها. كان متكئًا على ذراعيه بانحناءة طفولية بدت كأنها انفعال من صبيّ غاضب.
وقد بدا منظر هيليو في تلك اللحظة أكثر لفتًا للأنظار من الحذاء نفسه. إذ كان يحدّق في لِيليانا نظرة ممتعضة، وقد بدت مشاعره واضحة تمامًا.
“أخبريني.”
“عن ماذا؟”
“ماذا كنتِ ستفعلين لو أنني لم أرَ هذا؟”
“كنت سأظن أنه أرسله وحسب…”
أجابت لِيليانا بتهاون، ثم شعرت فجأة بإحساس قوي من التكرار، فوضعت يديها على جبهتها. غير أن هيليو، وكأنه كان يتوقّع ردّها، قرص أذنها على الفور.
“آه! مؤلم!”
تراجعت لِيليانا إلى الوراء، فاصطدم كرسيها بالأرض مصدرًا صوتًا مزعجًا. ثم أمسكت بأذنها التي أخذت تخفق من الألم، وهي تصرخ:
“لديّ سبب وجيه أيضًا!”
أخذ هيليو ينقُر بأظافره على سطح المكتب، ثم رفع ذقنه بتكبّر، وكأنه يقول:
“فلنسمع هذا السبب إذًا.”
فأخذت لِيليانا تلمحه بنظرات حذرة من طرف عينها، ثم فتحت أحد الأدراج.
ولم تُبدِ أيّ محاولة لإخفاء الحجرة السرية الموجودة في الدرج عن هيليو. فقد فتحتها وأخرجت منها مستندًا، ثم مدّت ذراعها لتضعه على المكتب أمامه. وكانت تلك إشارةً صامتة بأنها لا ترغب في الاقتراب أكثر.
ورغم أن بإمكان هيليو أن يجذب لِيليانا ويجبرها على الجلوس أمامه متى شاء، إلا أنه اكتفى بالابتسام كأنه وجد الأمر لطيفًا، وراح يسايرها.
أخذ المستند الذي ناولته إياه، وما إن بدأ يتصفّحه حتى أدرك فورًا سبب تصرفها، دون الحاجة إلى قراءته كاملًا.
“دفتر الحسابات السرّي لتُجّار كيرد، إذًا.”
“يبدو أن الكونت كيرد ارتكب الكثير من الأفعال المشينة. وحتى لو كان الدوق غابرييل نفسه، فسيتوجب عليه أن يقدّم جزءًا من لحمه لحمايتهم.”
فقد تجرّأ تجّار كيرد على المتاجرة بالعبيد، وهي جريمة محظورة تمامًا في الإمبراطورية، ولا يمكن التهاون معها.
نقَر هيليو على المستند بإصبعيه، فأحدث صوتًا خافتًا، وابتسم ابتسامة نادرة تنمّ عن رضا حقيقي. يبدو أن هذا الدفتر قد راق له كثيرًا.
“أظنّكِ لن تتدخلي مباشرةً بنفسك، هل سيكون الكونت راكل هو من سيتولّى الأمر؟”
“نعم، أظن أنه حان الوقت ليصلنا بعض الأخبار منه.”
“الكونت راكل مفيد أكثر مما توقعت.”
وكان هذا أعلى درجات المديح في قاموس هيليو.
حتى في الرواية الأصلية، لم يكن هيليو يعلّق آمالًا كبيرة على الكونت راكل، إلى درجة أنه رفض طلب تجنيسه.
لكن بعد هذه الحادثة، لا بد أن نظرة هيليو له قد تغيرت.
“ما جدوى كراهيته؟ الكونت راكل سيهدم الكونت كيرد بنفسه، وما يفعله ليس سوى حركات جوفاء لكسب رضا الدوق غابرييل.”
بدا أن ليليانا لا تكنّ أي كراهية حقيقية تجاه الكونت كيرد.
هيليو نقر بلسانه ولوّح بيده، مشيرًا إليها بأن تقترب.
اقتربت صوفيا وأعادت الكرسي إلى مكانه، ثم جلست ليليانا عليه بتعب ظاهر.
كانت تفرك شحمة أذنها بتذمر، وكأنها ما تزال تشعر بألم بسبب ما فعله هيليو قبل قليل.
“لست طفلة، فلماذا تضرب جبيني وتشد أذني؟ لماذا تتصرف و كأنك تدللني بعنف؟”
“أنا لا أتعامل معك كطفلة.”
“آه، بل تعتبرني طفلة بالفعل، أليس كذلك؟”
وعندما جادلته، ابتسم هيليو بهدوء وقال:
“بل أنت من تجعلينني طفلاً.”
مال هليو بجسده نحو ليليانا.
اقترب وجهه المشرق، الصريح، حتى صار أمامها مباشرة.
الانطباع الذي شعرت به قبل قليل، حين ظنّته صبيًّا، لم يكن وهماً.
تأملها بوجه مشاكس، وكأن أي مزحة طفولية قد تخرج منه في أي لحظة.
“ترى، هل هذا هو الشعور الذي كان يراود الصبية حين يضايقون الفتاة التي يحبونها؟”
واحمرت وجنتا ليليانا عند سماع عبارة “الفتاة التي يحبونها”.
لم تتخيل أبدًا أن مثل هذه الكلمات قد تخرج من فم هيليو.
لكنه ما لبث أن ربت على خدها بلطف ثم ابتعد عنها.
نهض عن الطاولة التي ظل جالسًا عليها طوال الوقت، وفي لحظة قصيرة، تحول مجددًا من صبي إلى إمبراطور.
كانت عيناه الزرقاوان ما تزالا تلمعان بروح الدعابة، لكنها كانت نظرة غير شفافة، يصعب سبر أغوارها.
“لا أعلم، فأنا لم أعش طفولة هادئة كهذه.”
عند سماع هذا الكلام الغامض، تخلّت ليليانا عن الابتسامة الساذجة على وجهها، بل استطاعت أن تبتسم بهدوء.
أجل، هكذا هو الأمر.
حتى لو أبدى هيليو اهتمامًا بها وتصرف بلطف، فإن ذلك لا يتماشى مع عبارات رقيقة مثل “الفتاة التي يحبها”.
بل يليق به أكثر وصف الاهتمام الملكي، لا الحب النقي.
دفنت ليليانا تلك الرجفة التي أحسّت بها في قلبها، ثم سحبت وثيقة من بين الأوراق المبعثرة على الطاولة.
“بما أنك هنا، هل لي أن أطرح سؤالًا؟”
“هل أنا أستاذك؟”
“بل التاريخ الحيّ، أليس كذلك؟”
ردّت ليليانا عليه بشجاعة.
وبصراحة، كانت تشعر براحة أكبر عندما يتصرف كإمبراطور لا كصبي.
فحين يكون إمبراطورًا، كانت أفعاله مدروسة وحدوده واضحة.
وكانت ليليانا تشعر أنها تستطيع فك شيفرة كل إيماءة أو قرار منه.
أما حين يتصرف كفتى، فإن كل شيء يصبح محيّرًا.
ابتسامته، صوته الخفيف، نظراته، حركاته، وحتى عينيه الشفافتين الغامضتين…
هل لأنها غير واقعية؟.
في تلك اللحظات، كانت دقات قلبها تتسارع، وفسّرت ذلك كخوف من المجهول.
لهذا، وجّهت سؤالها إلى هيليو الإمبراطور، ذلك الذي تعرفه جيدًا.
“انظر إلى هذا، لماذا لم يحضر جلالة الإمبراطور السابق حفلة نهاية العام قبل 15 عامًا؟”
“آه، أذكر هذا جيدًا.”
كما توقعت.
فقد نشأ هيليو وترعرع في القصر، وكان بالفعل كالتاريخ الحي.
مسح ذقنه برفق وقال:
“حينها، كنت قد عدت للتو منتصرًا من أول معركة لي.
أعلن الإمبراطور السابق أنه سيمنح جائزة عظيمة لأي أمير يُظهر كفاءة.
ولما طلب مني أن أتمنى أمنية، قلت له أن يعيد والدتي إلى مسقط رأسها.فغضب غضبًا شديدًا، وانعزل داخل القصر الإمبراطوري ولم يخرج.لا يمكن تدوين سبب كهذا في السجلات الرسمية، أن يتغيب إمبراطور عن حفلة بسبب مشاعره.”
قالها بسلاسة، لكن ليليانا عجزت عن الرد.
قبل 15 عامًا، كان هيليو مجرد فتى في أوائل مراهقته.
أن يُلقى به إلى ساحة المعركة في هذا السن؟
ثم يُقابل طلبه البريء بهذا الجفاء؟ لم تستوعب ذلك.
“لم أعش طفولة هادئة كهذه.”
الآن فقط فهمت السبب وراء هذه الكلمات.
جلست ليليانا بصمت، ثم أمسكت قلمها وبدأت تكتب على الوثيقة.
اقترب هيليو ونظر إلى ما تكتبه، ثم ضحك بخفوت.
[حين عاد الأمير هيليو من ساحة الحرب منتصرًا، سأله الإمبراطور عن أمنيته. ولما لم يُرِد تحقيقها، فتغيّب عن الحفلة الرسمية.]
“وما جدوى كتابة هذا؟”
رغم توبيخه لها، لم يمنعها من الاستمرار.
فكلماتها لن تُوثّق في السجلات الرسمية على أي حال.
لكن ربما، يومًا ما، يعثر أحدهم على هذه الورقة، وتتحوّل إلى قصة غير رسمية تُروى.
وربما لهذا السبب، بدا هيليو مستمتعًا بذلك.
ضحكت ليليانا دون وعي، ثم سرعان ما انتفض قلبها.
“ها هو مجددًا… وجهه يبدو كالصبي.”
أبعدت عينيها بسرعة وتكلمت في غير الموضوع.
“هل أدوّن شيئًا آخر؟ أعني، بما أن الملكة المحبوبة هي من كتبت ذالك، فقد يُصبح هذا مرجعًا موثوقًا في المستقبل.”
أمعن هيليو النظر فيها، لكنه لم يقل شيئًا.
كل ما فعله هو أن يمدّ يده ليمررها بهدوء على خصلات شعرها المنسابة على ظهرها، ليتحقق من عنقها الذي بدا وقد احمرّ خجلًا.
__________________________________________
• حسابي واتباد: Toro1312 !!⭐•
《لاتدع الرواية تشغلك عن العبادات》
ترجمة: ✧𝐀𝐌𝐘✧
التعليقات لهذا الفصل " 68"