“تشو تشو، هل كنتِ تنتظرينني؟”
رفعت لِيليانا بيديها الصغيرتين تشو تشو الظريفة والكرة الحديدية الثقيلة الممتلئة بالحنق.
حينها، رمقتها تشو تشو بنظرة قلقة.
ثم وضعت تشو تشو إصبعها على أنف لِيليانا وهمست:
“ماذا قال ذلك العجوز؟”
“هممم، لا شيء مهم.”
“لا شيء؟! حقًا؟”
كان من الصعب أن تخدع تشو تشو بمجرد التزام الصمت.
فأظهرت لِيليانا ملامح أسفٍ بالغ.
“في الحقيقة، أعتقد أنه ينبغي أن أبحث عن ساحر أرواح آخر.
ساحر الأرواح المظلمة رفض مساعدتي، لذا لا بدّ أن أجد ساحر الأرواح النورانية، ويبدو أنّ الأمر سيستغرق وقتًا طويلًا، طويلًا جدًا.
“هل ستكونين بخير؟”
عبست تشو تشو للحظة، ثم ما لبثت أن رفعت رأسها فجأة وضحكت:
“بالطبع سأكون بخير. فـ ليلي ستُحررني يومًا ما، أليس كذلك؟”
تشو تشو التي لا تعرف الكذب، لم تكن تتظاهر بالقوة.
بل كانت تؤمن بلِيليانا بكل صدق.
مدّت لِيليانا سبابتها تربّت بها بلطف على وجنة تشو تشو، ثم سألتها بحذر:
“تشو تشو، ألا تذكرين شيئًا؟ ولو كان بسيطًا جدًا؟”
إن وُجدت ولو ذكرى ضئيلة، ربما تتمكن آبرا من استخدامها لتقدّم نصيحة مفيدة.
لكن تشو تشو هزّت رأسها نفيًا، وبحزن:
“لا شيء أبدًا.”
“ولا حتى واحدة؟”
“آسفة… تشو تشو عديمة الفائدة، أليس كذلك؟”
انخفضت كتفا تشو تشو، مما أحزن لِيليانا، فهزّت رأسها بقوة نافية.
“أبدًا، لستِ كذلك.”
حين أنكرت لِيليانا ذلك بشدة، احمرّت وجنتا تشو تشو خجلًا وبدت سعيدة.
لكنّ فرحتها لم تدم طويلًا، وسرعان ما تحدّثت عمّا كانت تفكر به طوال انتظارها عند النافذة.
“ليلي، يمكنكِ التعاقد مع روحٍ أخرى….لكن بشرط، لا تطرديني، أرجوكِ.”
رغم بساطتها، بدا على تشو تشو الجدية النادرة.
فأدركت لِيليانا مدى صعوبة الأمر عليها، فأطبقت شفتيها بأسى، ثم ابتسمت ابتسامة مشرقة.
“تشو تشو، ما رأيك أن نعيش هكذا فحسب؟”
“هكذا؟”
“نعم.الأميرة الغبية، والروح الغبية، نعيش معًا بطريقة غبية. ما رأيك؟ أنتِ لا تستطيعين الطيران، وأنا لا يمكنني مغادرة هذا القصر، ألسنا في الوضع نفسه؟”
لم يكن في صوت لِيليانا أي نبرة سخرية من الذات.
بل كانت كعادتها، تتقبل ما فُرض عليها وتبحث عن السعادة بين طياته.
“تشه… أنا لستُ غبية.”
قالت تشو تشو ذلك وهي تلوّح بشفتيها في محاولة لتكذيب الابتسامة التي بدت عليها.
لكنها، في النهاية، ضحكت مع لِيليانا وضغطت على أصابعها الصغيرة بشدة.
آبرا وبايل كانا يشاهدان تلك اللحظة، لحظة وعدٍ صادق بالحياة معًا، دون عقدٍ بين بشر وروح.
بدقّة، كان آبرا ينظر إلى الروح، بينما كان بايل يحدّق في لِيليانا.
لِيليانا التي كانت تحدّق بروحها بمحبة، بدت هي نفسها محبوبة كمثلها.
كانت ابتسامتها دافئة كأنّها ربيعٌ مُصاغٌ على هيئة إنسان.
“اللعنة…”
استدار بايل قليلًا، ضاغطًا على صدره هامسًا بشتيمة مكتومة.
فبمجرد أن رأى وجه لِيليانا المتألق بالضحك، قفز قلبه بجنون، وشعر بدوار غريب.
رغم أن صورة لِيليانا وهي تتكئ على هيليو وتتمشى في ليلة مهرجان الحصاد لا تزال محفورة في ذهنه، لم يستطع التوقف عن النظر في عينيها.
‘ ها أنا ذا أعاود التفكير في حماقة أخرى… إنها امرأة الإمبراطور.’
تغضّنت ملامح بايل، وهمّ بالمغادرة واقترب منه آبرا.
“برأيك ، لماذا محا ملك الأرواح المظلمة ذاك، ذاكرة تلك الروح؟”
سأل آبرا بصوت خافت، لكن بايل لم يكن في مزاجٍ يسمح له بالتحليل، فردّ باختصار:
“لا أعلم.”
“أظنها كانت رحمة.”
قالت آبرا ذلك بنبرة غير مفهومة.
ألم تكن قبل قليل تقول إن ملك الأرواح عاقب تشو تشو؟ وإنّها تستحق العقوبة؟
عندها فقط نظر بايل إلى آبرا وسألها:
“وما الذي تقصدينه بذلك؟”
“كلام سمو الملكة لم يكن خاطئًا. الأرواح أنقى من البشر. إن ارتكب أحدهم خطأً، فلن يكون بلا سبب. ربما تلك الروح وُضعت في موقفٍ لا تقوى على تحمّله، فأخطأت.ولهذا، نالت العقوبة، لكنّ ذكرياتها انتُزعت منها.أليس هذا نوعًا من الرحمة؟”
“… أتُسمين ذلك رحمةً لا خديعة؟”
“من يدري… الأمر عائدٌ لطريقة النظر إليه.لكن عندما أنظر إلى تلك الروح، أُرجّح أنها كانت رحمة فعلًا.”
أنهت آبرا كلامها، ثم انحنت باحترام نحو ظهر لِيليانا.
ومع ذلك، بقي بايل واقفًا مكانه، يحدّق بها وبروحها.
لو أُتيح له أن يعيش معها، لا يعرف شيئًا عن الماضي، كما لو كان روحًا مثلها…
فذلك، بلا شك، سيكون رحمة.
انحنى هو أيضًا بعمق نحو ظهر لِيليانا، ثم تراجع ببطء.
حتى بعد أن وصلا إلى نهاية الممر، ظلّ صوت ضحك لِيليانا وتشو تشو يتردد في المكان.
❈❈❈
ظنّت لِيليانا أنها ستحظى ببعض الراحة بعد نهاية احتفال موسم الحصاد، غير أنّ ذلك لم يكن سوى وهمٍ من أوهامها.
فقد سارعت لوسيا بإرسال كمية من الأوراق إلى قصر الزمرد، مدعيةً أنه لا بد من البدء فورًا بالتحضير لاحتفال نهاية العام واستقبال العام الجديد، وكان حجمها يفوق ما استلمته في احتفال الحصاد بكثير.
لمَ تلاصق نهاية العام ببدايته هكذا؟ وإن كان لا بد من اقترانهما، أفلم يكن من الأجدر جمعهما في يومٍ واحد بدل الاحتفال بهما مرتين؟.
تفجّرت التذمرات من فم لِيليانا تجاه أمورٍ لم تُساور عقلها بالشك قطّ، لكن ذلك لم يُغيّر من الواقع شيئًا.
على أيّة حال، فالوضع لا يُقارن بما عاشته في مملكة نييتا حين كانت حبيسة القصر، لا تجد ما تفعله سوى لعبة الخيوط البالية.
وفوق ذلك، فقد أزعجت هِيليو مؤخرًا، لذا كانت عازمة على تحقيق نتائج مرضية.
غير أن السهر المتواصل لعدّة أيام، مكتفية بساعتين أو ثلاث من النوم، بدأ ينهك جسدها. راحت تُحدق في الأوراق بعينين تغلبهما النعاس، حتى خرّت برأسها على سطح المكتب، منهارة من الإرهاق.
لقد نامت نومًا عميقًا، حتى إنها لم ترَ حلمًا واحدًا. لا الكوابيس الغريبة الموحشة التي اعتادت أن تزورها، ولا حتى حلمها الدافئ وهي في حضن والدتها.
“منذ متى وهي نائمة هكذا؟”
شعرت لِيليانا بيدٍ تداعب شعرها، وصوتٍ ثقيلٍ هادئٍ ينبعث من قربها، كأنه يُذيب تعب الأيام الماضية.
“مرّ ما يقارب الساعتين، يا جلالة الإمبراطور.”
“ونامت سيدتكِ على المكتب طيلة ذلك الوقت دون أن توقظيها؟”
“لقد حاولت… لكنها لم تستفق… أعتذر، جلالة الإمبراطور.”
بدا صوت صوفيا مُرتبكًا لا تدري ما تفعل.
‘ ولِمَ يلوم صوفيا المسكينة على نومي هكذا؟! ‘
انتفضت روح لِيليانا غاضبة، وهمّت برفع رأسها بقوة، غير أن رقبتها التي انحنت ساعتين متواصلتين صرخت بألم، ويداها اللتان لم تتوسد بهما شيئًا كانتا ترتجفان من التنميل.
“آه…!”
تأوهت و كتفيها يرتجفان، فارتفع ضحك خافت من فوق رأسها.
“ألستِ طفلةً صغيرة؟ انهضي على مهل.”
“يداي مخدرتان…”
تمتمت لِيليانا وهي بالكاد ترفع يديها فوق سطح المكتب، غير أنها لم تستطع تحريكهما أكثر. راقبها هِيليو بصمت، ثم أمسك بيدها اليسرى برفق.
“آه!”
تأوهت لِيليانا من الألم، لاكن هِيليو لم يُبالِ، وراح يُدلّك أطراف أصابعها بهدوء. ظلّت تتألم، لكن ملامحه لم تتغيّر، كأن لا شيء يستحق القلق.
وما زاد الوضع حرجًا أن حركاته كانت بارعةً جدًّا، حتى شعرت بالدم يتدفق إلى أطراف أصابعها مجددًا.
بعد أن انتهى من يدها اليسرى، مدّ كفّه أمامها، مشيرًا لها أن تعطيه اليمنى هذه المرة.
“أنا بخير الآن…”
“جبينك لا يزال أحمر، فلا تُراوغي.”
رفعت يدها اليسرى تُغطي بها جبينها. لا بد أن علامةً حمراء مستديرة ظهرت عليه من نومها على المكتب. رمقت هِيليو بنظرة مترددة وسألته بهمس:
“هل يبدو فظيعًا؟”
“إنه لطيف، فلا تقلقي.”
ماذا قال لتوّه؟..
قال ذلك ببساطة، ثم خطف يدها الأخرى التي تجمّدت من الدهشة، وبدأ بتدليكها أيضًا.
كان مشهدًا غريبًا بحقّ: إمبراطور إمبراطورية كارلو، جالسًا على طرف مكتب الملكة، يُدلّك يديها الصغيرتين.
نظرت لِيليانا إلى أطراف أصابعها التي بدأت تستعيد الدفء، وتنهدت تنهيدة طويلة.
كانت هذه أول مرة تلتقي فيها بهِيليو بعد افتراقهما المحرج، لكنها وحدها لم تستطع التحديق في وجهه كما تفعل عادة.
أما هو، فما زال يمسك بيدها، ويتصفح أوراقًا كانت على مكتبها. غير أن الأوراق لم تكن تخص حفل نهاية العام ولا احتفال السنة الجديدة.
“أتلك كلّ الهدايا التي وصلتك؟”
كانت الورقة التي وقعت عليها عينه قائمة بالهدايا التي استلمتها لِيليانا في أثناء نومها، والتي رتّبتها صوفيا.
بعد ما حققته في احتفال الحصاد من نتائج مبهرة، وبعد مظاهر حظوتها لدى الإمبراطور، كانت الهدايا أكثر من كثيرة.
حتى إن الخادمات اللاتي ساعدن صوفيا في ترتيبها، تورّمت أطراف أصابعهن من كثرتها.
“إنها كثيرة بما يكفي.”
“بل يجب أن تتضاعف حتى تُعدّ كثيرة بحقّ.”
قال ذلك بلهجة قاطعة، وهو يُتابع قراءة القائمة. ومع كل اسم يمرّ عليه، كانت شفتاه تميلان بابتسامة مائلة.
“لا يزال هناك كثيرون لا يفهمون الأوضاع.”
“طالما لم تنكسر شوكة دوقية غابرييل، فلن تزيد قائمة الهدايا عن هذا الحد.”
قالت لِيليانا و كأن الأمر بديهي. فكل من قدّم لها الهدايا لم يكن من أتباع دوقية غابرييل. وإن كانت هناك بعض الاستثناءات.
“الكونت كيرد؟”
كرر هِيليو الاسم بعبوس، مشدود الحاجبين. فقد كان الكونت كيرد من أكثر الموالين لدوق غابرييل، حتى إن الناس كانوا يطلقون على بيت الكونت لقب ملعب غابرييل.
وذلك لأن أبناء الدوق كانوا يستغلّون مؤسسات الكونت في التدرب على الاستثمارات كما يشاؤون.
لذلك، لم يكن من المنطقي أن يُرسل الكونت كيرد هدية إلى لِيليانا، ولا أن يسعى للتقرّب منها. فكيف ورد اسمه في قائمة الهدايا؟.
“هل أرسل الكونت كيرد هدية لي؟”
سألت لِيليانا بدهشة، فترك هِيليو القائمة جانبًا، وأومأ برأسه إلى صوفيا.
“أحضريها.”
__________________________________________
• حسابي واتباد: Toro1312 !!⭐•
《لاتدع الرواية تشغلك عن العبادات》
ترجمة: ✧𝐀𝐌𝐘✧
التعليقات لهذا الفصل " 67"