كما ذكر سابقًا، ظهر برفقة عجوز من دوقية لاوبي.
لكن تسميتها بـ”العجوز” كانت فقط تعبيرًا عن تواضعها، إذ لم تكن تبدو إلا في منتصف العمر.
رغم التجاعيد التي ارتسمت حول عينيها، ظل ظهرها مستقيمًا، ولم يظهر بين خصلات شعرها البني سوى بضع شعرات رمادية.
“أنتِ إذن الروحانية التي أخبرني عنها اللورد بايل؟”
“إنه لشرف لي أن ألتقي بشخص نبيل مثلكِ ، اسمي آبرا.”
“سررتُ بلقائكِ، آبرا. لقد كنا في انتظاركِ طويلًا.”
غمرت ليليانا سعادة عارمة، إذ بات بإمكانها أخيرًا تحرير تشوتشو من قيودها. استقبلت آبرا بترحاب حار.
“سمعتُ أنكِ جئتِ من دوقية لاوبي؟ لقد قطعتِ مسافة طويلة، شكرًا لكِ حقًا.”
كانت دوقية لاوبي قريبة من مملكة نييتا، لكنها بعيدة نسبيًا عن إمبراطورية كارلو.
ورغم أن مملكة نييتا لم تكن تفتقر إلى الأرواح، فإنها لم تكن تضاهي دوقية لاوبي، حيث كانت الأرض ذاتها مشبعة بقوة الأرواح. فأغلب من وُلدوا أو عاشوا هناك طويلًا تمكنوا من رؤية الأرواح.
“صحيح أن موطني هو دوقية لاوبي، لكنني أتنقل بين الأمكنة، لذا لم يكن السفر شاقًّا عليّ. أشكركِ على اهتمامكِ.”
كانت آبرا تنضح بهالة هادئة ودافئة، مما ناقض تمامًا الصورة النمطية المأخوذة عن روحانيي الظلام.
“تشوتشو، سررتُ بلقائكِ”
قفزت تشوتشو، التي كانت تجلس على الطاولة، ومدّت يدها بحماسة. نظرت إليها آبرا بعطف قبل أن تمد إصبعها الصغير.
أمسكت تشوتشو بإصبع آبرا بكلتا يديها وهزّته بحماس قبل أن تتركه أخيرًا.
“والآن، حرريني من هذه القيود!”
“تشوتشو!”
وبّختها ليليانا على طريقتها الجريئة في الطلب، لكن آبرا لم تبالِ، بل اكتفت بهز رأسها ومدّ كفيها.
فجأة، تشكلت برك سوداء في راحتيها، ومن وسطها برز رأس صغير.
لكن وصفه بـ”الصغير” كان نسبيًا، إذ إنه بدا بحجم دمية كبيرة مقارنة بتشوتشو.
كان ذا بشرة بيضاء وشعر أسود مجعد، مما جعله أشبه بالدمى.
وبالنظر إلى أن روح الملك التي تعاقدت معها البطلة في الرواية الأصلية كانت أطول قامة من معظم البشر، بدا أن حجم الروح يرتبط ارتباطًا وثيقًا بقوتها.
“هذه مومو، روحي الخاصة.”
كانت مومو أكثر الأرواح التي التقتها ليليانا هدوءًا. رفرفت برموشها الكثيفة قبل أن تبتسم بلطف.
“مرحبًا.”
“مرحبًا، مومو.”
راودت ليليانا فكرة أن أرواح الظلام يمكن أن تكون جميلة كأرواح النور تمامًا.
“هذه تشوتشو، وأنا ليليانا.”
“مرحبًا.”
“أليس لديكِ شيء آخر تقولينه غير ‘مرحبًا’؟”
سألتها تشوتشو متعجبة، لكن مومو لم تتراجع.
“بلى.”
كان في ابتسامتها الدائمة ما يجعل الآخرين يشعرون بالتوتر. ابتسمت أبرا بخفة وهي تربت على رأس مومو.
“مومو، هل يمكنكِ مساعدة تشوتشو؟”
أومأت مومو برفق استجابةً لطلب أبرا، ثم حركت جناحيها السوداوين بخفة واقتربت من تشوتشو.
لمست القيود المعدنية التي تكبّل تشوتشو بلطف، ثم أمالت رأسها متفكرة قبل أن تغرس يديها داخل الكرة الحديدية.
قبل أن تتمكن ليليانا من التفوه بكلمة، سحبت مومو يديها مجددًا وقالت بصوت خافت:
“لا أستطيع.”
“ماذا تعنين بأنكِ لا تستطيعين؟!”
صرخت تشوتشو بغضب، لكن مومو بقيت هادئة وهزت رأسها مرتين.
“لا يمكنني مساعدة تشوتشو، ولا بأي شكل من الأشكال.”
لم تستوعب ليليانا الأمر بسهولة. فرغم أن روح أغرينا، فيفي، استطاعت تقليص حجم الكرة الحديدية ولو قليلًا، فكيف لمومو، التي كانت أقوى بلا شك، أن تعجز تمامًا؟.
“ألا يمكنكِ على الأقل جعل الكرة أصغر قليلًا؟”
سألت ليليانا برجاء، لكن مومو أجابت بإصرار:
“لا أستطيع مخالفة إرادته. لقد صُنعت منه.”
“تكلمي بوضوح!”
صرخت تشوتشو غاضبة، لكن ليليانا فهمت شيئًا من كلمات مومو.
لطالما قيل إن الملك هو الأب الروحي لجميع الأرواح التي تنتمي إلى عنصره.
“مومو، هل تعنين أن الشخص الذي كبل تشوتشو هو ملك الظلام؟”
نظرت مومو إلى ليليانا مباشرة قبل أن ترف عينيها مرة واحدة.
“نعم. تشوتشو تتلقى عقوبة فرضها عليه، ولا يمكنني التدخل. فأنا روح طيبة.”
“إذًا، هل هذا يعني أنني روح شريرة؟”
أجابت مومو دون تردد:
“ربما.”
“ماذا؟!”
اشتعل غضب تشوتشو وبدأت تلوح بذراعيها في الهواء، فما كان من مومو إلا أن طارت بخفة واختبأت خلف كتف أبرا.
“ذلك الشخص لا يفرض العقاب دون سبب.”
تصلبت ملامح أبرا عند سماعها كلمات مومو القاطعة.
تأملت قليلاً قبل أن تنظر إلى ليليانا.
“جلالتكِ، إذا لم يكن في ذلك تجاوز، فهل يمكننا التحدث بدون الأرواح؟”
تقدمت صوفيا خطوة إلى الأمام، معبرة عن رفضها لأن تجتمع أبرا بليليانا على انفراد.
رغم احتفاظ أبرا بابتسامتها الهادئة، فإن كلماتها كانت مباشرة:
“أخشى أن يتسبب سماع الحديث في انفعال روحكِ. لا تقلقي، لن يكون لقاءً خاصًا.”
كان من الواضح أن نقل تشوتشو من المكان لا يمكن أن يتم إلا على يد ليليانا أو أبرا، ولم تكن ليليانا ترغب في تركها بين يدي أبرا، لذا قامت بنفسها بحمل تشوتشو إلى النافذة المطلة على الرواق.
“ليلي، إنهم يريدون الحديث عني بالسوء، أليس كذلك؟”
“كيف لهم أن يتحدثوا عنكِ بالسوء وهم لم يروكِ إلا الآن؟”
رغم أن ليليانا تحدثت بنبرة مهدئة، إلا أنها شاركت تشوتشو نفس الظنون.
فقد قالت مومو بوضوح إن تشوتشو تتلقى عقوبة، ومن المؤكد أن المحادثة ستدور حول ذلك.
وضعت ليليانا تشوتشو برفق على حافة النافذة، وهو المكان الذي تحب الجلوس فيه لأنه يتيح لها رؤية الخارج دون عناء.
“تشوتشو، لا تقلقي. حتى لو قالوا عنكِ ما شاءوا، فأنا لا أزال أحبكِ.”
“حقًا؟”
“نعم، حقًا. ثم إنهم جادون في حديثهم، فلا بد أنهم يملكون معلومة مهمة. ربما يكون الأمر مفيدًا، لذا انتظري بطمأنينة.”
بعد محاولات ليليانا المستمرة لتهدئتها، أومأت تشوتشو برأسها أخيرًا.
“عُودي سريعًا.”
مدت ليليانا إصبعها لتربّت على تشوتشو، فقامت الأخيرة بتقبيله برقة.
تبادلتا الابتسامات، ولوحت تشوتشو بيدها حتى اختفت ليليانا عن أنظارها.
عندما عادت ليليانا إلى غرفة الاستقبال، وقفت أبرا احترامًا وألقت تحية أخرى. أما مومو، التي لا تهتم بالبروتوكولات البشرية، فبقيت جالسة تلوح بيدها بهدوء.
بدا الاثنان كالجدة وحفيدتها، وهو ما جعل ليليانا تتخذ تعبيرًا أكثر صرامة وهي تجلس.
“لا بد أن لديكِ سببًا وجيهًا لإبعاد روحي عن الحديث.”
“جلالتكِ، لم توقّعي عقدًا مع تلك الروح بعد.”
“لكنني كنت أنوي فعل ذلك بمجرد تحريرها، لذا فهي ‘روحي’.”
“لن تتحرر تلك الروح أبدًا.”
ضيقت ليليانا عينيها عند سماع هذا الرد القاطع. رغم أنها لم تُظهر استياءها بوضوح، واصلت أبرا حديثها:
“أرجو منكِ ألا تقتربي من تلك الروح.”
“لأن تشوتشو معاقبة من قِبَل ملك الظلام؟”
“نعم. يُعرف ملك الظلام بأنه الأكثر رأفة بين الملوك الستة. حتى البشر الذين سقطت قلوبهم في الظلام احتضنهم. لكن بسبب ذلك، استُغل من قبل الأشرار، وسُوء فهمه من قبل العالم.”
“إذًا، إذا كان بهذه الرحمة، فإن إنزال العقاب على روحي ليس بالأمر العادي.”
“أنتِ حكيمة.”
تنهدت ليليانا بعمق وهي تحدق عبر نافذة غرفة الاستقبال، بينما التزم الجميع الصمت انتظارًا لكلماتها.
بعد فترة طويلة، وقفت ليليانا وقالت:
“يمكنكِ المغادرة الآن.”
“جلالتكِ، تلك الروح…”
“أفهم وجهة نظركِ، لكنني لا أوافق تمامًا. ملك الظلام عقد اتفاقات مع البشر رغم شرورهم، ومع ذلك يعاقب مجرد روح؟ لا أستطيع تقبّل ذلك.”
“لا بد أنها ارتكبت إثمًا عظيمًا.”
حاولت أبرا تحذيرها بإخلاص، لكن ليليانا هزت رأسها بحزم.
رغم أنها قضت حياتها داخل القصر، إلا أنها قابلت الكثير من الأشرار. لم تستطع تصديق أن تشوتشو ارتكبت ما هو أسوأ من أفعالهم.
“حتى لو ارتكبت تشوتشو خطأً، فهل هو أسوأ من خطايا البشر؟ لا أعتقد ذلك. لذا لن آخذ بنصيحتكِ. شكرًا على معلوماتكِ وقلقكِ، لكن يمكنكِ الانصراف الآن.”
بدت أبرا وكأنها ترغب في قول المزيد، لكنها أدركت أن ليليانا ثابتة على رأيها.
“أتفهم قراركِ، لكن احذري. هذا لا يعني أن تشوتشو شريرة، لكن حتى الكائنات الواعية قد ترتكب أعظم الذنوب بدافع الحب العميق.”
كان في كلماتها شيء من الصحة. لكن هذا لم يكن سببًا يدفع ليليانا للابتعاد عن تشوتشو، بل على العكس. اكتفت بإيماءة مختصرة.
“سآخذ نصيحتكِ بعين الاعتبار.”
فتحت أبرا كفيها، فقفزت مومو بداخلهما واختفت.
اقترب بايل هامسًا:
“أبرا تحظى باحترام كبير في دوقية لاوبي. لا تتجاهلي نصيحتها.”
كانت ليليانا تدرك ذلك بالفعل. منذ أن رأت مومو شعرت بأن أبرا روحانية عظيمة.
كانت قوة مومو هادئة لكنها كثيفة، والأهم أنها كانت محبة وسعيدة بوجودها مع أبرا.
ربما كانت نصيحة أبرا نابعة من تجاربها، لكن ليليانا أدركت أمرًا آخر: أن تكون روحانية جيدة يعني أن تجعل روحك سعيدة.
وما دامت تشوتشو سعيدة، فهذا يعني أنها تقوم بعمل جيد كروحانية.
خرجت ليليانا من غرفة الاستقبال برفقة أبرا وبايل، وعندها رأت تشوتشو جالسة على النافذة، بعكس عادتها، برأس مائل وساقين مرتخيتين، مما كشف عن حالتها المزاجية السيئة.
__________________________________________
• حسابي واتباد: Toro1312 !!⭐•
《لاتدع الرواية تشغلك عن العبادات》
ترجمة: ✧𝐀𝐌𝐘✧
التعليقات لهذا الفصل " 66"