“لن أسكر بهذا القدر.”
في الواقع، بدا هيليو متماسكًا تمامًا، رغم أن نسبة الكحول في النبيذ كانت مرتفعة. كانت ليليانا تحدق في الكأس باشمئزاز، مما دفع هيليو إلى صب قليل من النبيذ في كأس أخرى.
“لي؟”
” هل تظنين بأنني مجون لأتناول النبيذ من كأسين بالتناوب؟”
كانت نبرة هيليو هادئة للغاية. أمالت ليليانا الكأس قليلًا لتستنشق رائحة النبيذ.
كانت هناك رائحة خفيفة للأعشاب تمتزج مع النبيذ، لكنها لم تتمكن من تحديد نوع العشب بالضبط.
وبما أنه المشروب المفضل لدى هيليو، أثار ذلك فضولها، فتجرعت منه رشفة صغيرة.
“لماذا تعقدين حاجبيك هكذا؟”
“آه… لأنه لذيذ جدًا.”
أخرجت لسانها قليلًا وهي تكذب، لكن ملامحها لم تكن تبدو سعيدة أبدًا، مما جعل هيليو يضحك بصوت خافت.
“إنه نبيذ مصنوع من أجود أنواع العنب في الجنوب المشمس. إذا عبستِ بهذا الشكل، فسيحزن من صنعوه.”
“لكنهم رحلوا الآن.”
“هذا صحيح.”
دفعت ليليانا كأس النبيذ بعيدًا وجذبت كأس الماء، تغسل فمها من طعم العنب الغريب الذي غمره. لكن رغم ذلك، لم تستطع طرد الشكوك التي كانت تراودها— لماذا أبقى هيليو عليها وحدها وأرسل الآخرين بعيدًا؟
وفي عقلها، كانت هناك إجابة واضحة.
تحرير أولئك المساجين في القبو… لا بد أن ذلك لم يكن ليروق له.
“ملكة.”
“نعم، يا جلالتك.”
“لماذا لم تخبريني بخطئك؟”
كما توقعت.
أغمضت ليليانا عينيها للحظة، ثم فتحتهما، لكنها تجنبت النظر إليه مباشرة، واكتفت بخفض بصرها إلى مستوى ذقنه وعنقه.
“ظننت أن جلالتك ستغض الطرف عن الأمر.”
كانوا أناسًا أرسلهم دوق غابرييل لاغتيالها، لذا لم يكن غفرانها لهم نابعًا من شفقة.
بل كانت تخشى أن يهاجموها بجنون إن خرجوا مجددًا للعالم.
لكن العقوبة التي نالوها كانت قاسية جدًا، وكأنهم أصيبوا بلعنة تجعل الماء يتبخر عند اقترابه من شفاههم.
“أنا؟”
“نعم، فبعض ما حدث كان بأمر جلالتك.”
عند سماع ذلك، ارتسمت على شفتي هيليو ابتسامة جانبية ساخرة.
“لم يسبق أن أمرت بشيء كهذا.”
“هذا غير ممكن.”
كانت ليليانا أكثر حزمًا من أي وقت مضى.
“لو لم يأمر جلالتك بذالك، لما استطعت الذهاب إلى هناك. ولما تمكنت من إلقاء الحبل إلى أعماق ذلك الظلام. ولكن إن كان هذا الفعل قد أغضب جلالتك، فأنا أطلب الصفح.”
تنهد هيليو ونهض قليلًا من وضعيته المسترخية، مسندًا ذراعه على الطاولة، وكأن كل حركة منه كانت تثقل الجو بالمزيد من التوتر.
ثم التفت إليها بالكامل.
“لم أقصد ذلك.”
“إذًا، ماذا…”
في تلك اللحظة، أمسك هيليو بذراع ليليانا بقوة وجذبها نحوه بعنف.
انسدلت خصلاتها الطويلة خلف ظهرها، ثم تدفقت إلى الأمام، لتنسدل أسفل وجنتيها. وفي عينيها الشفافتين، تمددت حدقتاها كعيني قطة أسيرة في الظلام.
“ما الصفقة التي أبرمتِها مع غابرييل؟”
سألها بصوت خفيض، والمسافة بينهما لم تكن تتجاوز بوصة واحدة.
كان في صوته مزيج من المشاعر المتضاربة، لدرجة أنه بدا وكأنه بلا مشاعر على الإطلاق، أشبه بلون أسود قاتم تشكل من اختلاط جميع الألوان.
“ما الذي جعلكِ تتجرأين على مواجهة نظري دون خوف؟”
تجمدت ليليانا تمامًا، ولم تستطع حتى تحريك أصابعها، وكأنها مكبلة بالسلاسل.
ثم، بعدما ترك معصمها، مرر أصابعه برفق على وجنتها. عندها فقط، التقطت أنفاسها ببطء، وكأن روحها عادت إليها.
كان واضحًا أن الكذب لن يجدي معه الآن.
“أغرينيا تريد أن تصبح الإمبراطورة. فإذا حصلت على العرش، سيكون من السهل عليها ابتلاع نفوذ دوقية غابرييل.”
“سيكون من الأفضل أن تُبني القصر الإمبراطوري فوق مقبرة وريث ريستون، عوضاً عن هذا.”
لم يُخفِ هيليو اشمئزازه من أغرينيا، بل أظهر كراهيته لها بلا مواربة.
وربما لم يكن يكرهها كشخص، بل كجزء من دماء دوقية غابرييل.
“وعديني ألا تكرري ذلك أبدًا.”
كانت نبرته تحمل شيئًا من اللين، لكن كلماته كانت قاسية وحاسمة.
لكن ليليانا لم تكن تخاف هيليو نفسه.
شعرت بيده تلامس شفتيها برقة، ففتحت فمها ببطء قائلة:
“رأيتُ أنه لا بأس من التحالف مع اللورد بايل، أحد فروع عائلة غابرييل. ألم تكن رغبتك أن أنتزع السلطة؟”
“أنا لم أخبرك بأن تستولي على السلطة…”
ردَّ هيليو فورًا، لكنه فجأة قطع كلامه. أدار رأسه بعيدًا عنها، ثم ضحك بخفة وكأنه لا يصدق ما سمعه.
نهض من مكانه مبتعدًا عن ليليانا تمامًا، وكأنه يريد أن يخلق مسافة بينهما.
“يبدو أنكِ لستِ مستعدة بعد.”
بدا وكأنه على وشك الاستدارة والمغادرة، لكنه في النهاية مد يده نحوها.
“لا بد أنكِ متعبة، عودي الآن.”
أمسكت ليليانا بيده بحذر. كانت قبضته التي رفعتها للأعلى قوية، لكنها ناعمة في الوقت ذاته، مما مكّنها من الوقوف بسهولة دون بذل أي جهد.
كانت غارقة في التفكير، فلم تنطق بكلمة، ولم يفعل هيليو سوى مرافقتها بصمت.
وقبل أن تصعد إلى العربة، توقفت ليليانا والتفتت نحوه. نظرت إلى صدره العريض أمامها، ثم رفعت بصرها لترى وجهه الشاحب الذي بدا وكأنه يخطط لشيء ما.
“جلالتك، متى سيتمكن أولئك المساجين في القبو من لقاء حتفهم؟”
لم تكن تتمنى لهم حياة طبيعية وكأن شيئًا لم يحدث، لكنها أيضًا لم ترغب في أن يعيشوا أبدًا وهم يتمنون الموت.
“يبدو أن الملكة تخشى الكوابيس.”
“ربما.”
لفَّ هيليو ذراعه حول خصرها وجذبها نحوه.
“دورهم لم ينتهِ بعد.”
“هل تنوي القضاء تمامًا على دوقية غابرييل؟”
عند سماع ذلك، ارتسمت على وجه هيليو ملامح انتقام عميقة.
“لا. يجب أن نجهز للدوق قبوًا خاصًا به.”
في عينيه الزرقاوين، اجتمعت ظلمة كثيفة.
الانتقام أحيانًا يشعل القلب بطاقة جامحة.
ظهر على وجه هيليو، الذي كان عادة هادئًا، ابتسامة غريبة. لم يكن وجه رجل يواجه خصمه فحسب، بل كان تعبيرًا عن كراهية شخصية خالصة ممتلئ بالحقد.
شعرت ليليانا وكأن الهواء من حولها أصبح أخف، وأن أنفاسها باتت ضيقة. ومع شحوب وجهها، بدت على ملامح هيليو لمحة من القلق.
“هذا غير جيد.”
اختفى التوتر القاتم الذي أحاط به المكان منذ لحظات. أمسك وجهها بين يديه وسألها بلطف:
“ظننت أنكِ بخير، لكن يبدو أنكِ خائفة.”
بمجرد أن استحضرت صورة ذلك القبو في ذهنها، تجمدت أصابعها، ولم تستطع التفكير في شيء آخر. لكنها لم تكن تخاف من هيليو نفسه.
رؤية رجل يعبر عن كراهيته النقية دون مواربة جعلتها ترتجف.
“لن تضطري لرؤية ذلك القبو مرة أخرى. لذا، لا داعي لهذا الوجه القلق.”
“… نعم.”
في تلك اللحظة، لم تملك الشجاعة لسؤاله عن سبب كراهيته العميقة لدوق غابرييل. لذا، لم تجد سوى الإيماء برأسها.
“الآن عودي حقًا إلى القصر.”
بدا وكأنه أنهى الحديث، وحررها من بين يديه. ولكن هذه المرة، أمسكت ليليانا بيديه بلطف.
“أنا حقًا لست خائفة.”
قالتها بصوت منخفض، لكن هيليو سمعها بوضوح. ابتسم بسخرية خفيفة.
“أنتِ سيئة في الكذب.”
عندها، وقفت ليليانا على أطراف أصابعها وعانقته بقوة.
“كنت خائفة قليلًا، قليلًا جدًا. لكنه كان شعورًا لحظيًا فقط، وبالمقارنة مع المشاعر الكثيرة التي أكنها لك، فهو لا يعني شيئًا.”
نظر هيليو إلى الفتاة الصغيرة التي دفنت وجهها في صدره، ورأى كيف أصبح شعرها فوضويًا من محاولتها التعبير عن نفسها.
رفع يديه في الهواء للحظة، ثم أنزلهما ببطء، ليمرر أصابعه على ظهرها. لم يتوقف إلا عندما لامس عنقها النحيل.
كانت ناعمة ودافئة. لم تكن تبدو كمن غمرها الخوف.
عانقها هيليو، وحدق في الظلام الذي خيم على القصر الإمبراطوري. تُرى، هل بدوت وحيدًا؟ يا لها من مزحة سخيفة.
“حسنًا، سأصدقك.”
عند سماع ذلك، تراجعت ليليانا ببطء. كان هواء الليل البارد يتسلل بين أصابعها وأصابعه.
كان وجهها محمرًا من خجلها من تصرفها المفاجئ.
“… أتمنى لك ليلة سعيدة.”
ثم صعدت إلى العربة بسرعة. وبدا أنها ستغادر دون تردد، لكن في اللحظة الأخيرة، رفعت رأسها ونظرت في عينيه.
الابتسامة التي أضاءت وجهها لم تتأثر بعتمة الليل.
لكن بعد مغادرة العربة، أصبحت ملامحها شاحبة.
كانت تعلم أن هيليو يكره دوقية غابرييل. لكنها اعتقدت أن ذلك نابع من كونه منافسًا سياسيًا يعترض طريقه نحو العرش.
لكنها أدركت الآن أن الأمر أعمق من ذلك. لم يكن مجرد عائق سياسي، بل كراهية متجذرة تجاوزت العقل إلى حد الغريزة.
بحثت في ذاكرتها، لكنها لم تجد أي إشارة إلى هذا الأمر في الرواية الأصلية.
‘ لماذا؟ ‘
من الطبيعي أن تتغير الأمور بسبب وجودها في هذا العالم، لكن العلاقة بين هيليو ودوق غابرييل متأصلة في الماضي…
شعرت بالحيرة أمام هذا الوضع الغامض. لكنها شعرت أيضًا بالحزن لأنه كان عليه أن يتحمل هذا البرد العاطفي وحده.
لو كانت حبيبته الحقيقية، لربما استطاعت مواساته.
كان الشعور بالعجز يخدش روحها مثل شفرة باردة.
❈❈❈
بعد انتهاء مهرجان الحصاد، استمرت الأجواء الباردة. بدا وكأن الشتاء سيأتي بسرعة، جاعلًا الأرض تتجمد تمامًا.
كانت ليليانا ترتدي ملابس دافئة أكثر من السابق، وتقضي وقتها في القراءة أو ممارسة فنون استدعاء الأرواح.
وبما أن الإمبراطورية كانت بحاجة إلى تحضيرات كثيرة قبل الشتاء، لم يكن لقاء هيليو أمرًا ممكنًا.
لكنه كان يرسل لها رسائل قصيرة وهدايا عبر تيرنز، وكانت ترد عليه بجمع أوراق الخريف الجميلة من الحديقة، وتصنع منها إشارات للكتب أو بطاقات بريدية وتسلمها لتيرنز.
في البداية، بدا تيرنز متشككًا، لكنه قال: “جلالته سيكون سعيدًا بذلك.” مع تعبير يوحي بعكس ذلك.
وعندما لم ترسل ليليانا أوراقًا في المرة التالية، عاد تيرنز متوسلًا، طالبًا منها إرسال أي ورقة، حتى لو كانت ممزقة.
بدا واضحًا أن هيليو جعله يعاني بسبب ذلك.
رغم شعورها بالأسف تجاه تيرنز، إلا أن ليليانا لم تستطع منع ابتسامتها عند تخيل المشهد.
وفي خضم تلك الأيام الهادئة، جاء بايل لزيارتها.
__________________________________________
•• حسابي واتباد: Toro1312 !!⭐••
《لاتدع الرواية تشغلك عن العبادات》
ترجمة: ✧𝐀𝐌𝐘✧
التعليقات لهذا الفصل " 65"