حدّقت ليليانا مباشرةً في رأس بايل المنحني. كان هناك شيءٌ لا يعرفه بايل، لكنها كانت تعلمه جيدًا.
كان هيليو قادرًا على القضاء على الدوق غابرييل في أي وقتٍ يشاء. لكن سقوط هذه الشجرة العظيمة سيؤدي حتمًا إلى اضطراباتٍ في الإمبراطورية.
ولهذا، كان هيليو ينتظر اللحظة المناسبة ليدمر بيت غابرييل تمامًا، مع تقليل الفوضى الناجمة عن ذلك إلى أدنى حد.
عندما لم تقل ليليانا شيئًا، عبس بايل وكأنه أساء فهم صمتها.
“هل يمكن أن يكون السبب أنكِ تخشين جلالة الإمبراطور؟”
“ولماذا عليّ أن أخشاه؟”
رفع بايل رأسه عند سماعه ردّها. لا يزال بإمكانه استنشاق الرائحة الزهرية الخفيفة التي تنبعث منها.
لكن المرأة التي تقف أمامه الآن لم تكن كزهرةٍ رقيقة.
عينَاها الورديتان كانتا تحملان مزيجًا من المشاعر المتناقضة—ارتباك، شفقة طفيفة، واستياء لا يمكن محوه… لكن الخوف لم يكن أحدها.
“أولئك الموجودون بالأسفل حاولوا قتلي، وجلالته احتجزهم لحمايتي. فلماذا يجب أن أخشاه؟”
كان صوت ليليانا هادئًا، لكنه حمل صلابة لا تُخطئها الأذن.
على عكس أولئك الذين تحت الأرض، الذين سيفعلون أي شيء من أجل الموت، فقد كان لديها عزيمةٌ مستعدة لفعل أي شيء من أجل البقاء.
“لم أطلب منك إخفاء الأمر. كل ما طلبته منك هو ألا تفشيه بلسانك.”
قالت ذلك ثم وجهت نظرها إلى الظلام الدامس في عمق الحديقة.
“يبدو أن السيد بايل ليس بالذكاء الذي كنتُ أتوقعه.”
لم يستطع بايل فهم كلماتها وتصرفاتها تمامًا. ولم يكن من النوع الذي يترك جهله بشيء دون محاولة فهمه.
“أرجو أن تمنحيني الحكمة.”
“وجودنا هنا كان مجرد مصادفة، صحيح؟ لكن هل تعتقد حقًا أن جلالته هو شخصٌ يمكن أن يترك دليلًا كهذا يُكتشف بالصدفة؟”
“إذن، هل تعنين أن جلالته أراد منا أن نرى هذا المكان؟”
“كيف لي أن أفهم مقاصده السامية؟”
حقًا، لم تكن تعرف. لكن في هذه اللحظة، شعرت ليليانا بنشوة غريبة.
هيليو، الذي كان يخفي عنها كل شيء ذات يوم، قد تغيّر بلا شك. لا بد أن اللقاء السري الذي جمعهما في قصر الماركيز ريستون قد عزز الثقة بينهما.
لكنها لم تكن متأكدة مما إذا كان قد منحها الإذن بتدمير سجنه المصنوع من الأمل أم لا.
“ما هو مؤكد، هو أنه لو أراد إخفاء هذا المكان، لما تمكنا من الوصول إليه.”
ثم أضافت بصوتٍ ناعمٍ لكنه حمل برودةً مخيفة:
“جلالته استنتج أن السيد بايل سيحفظ السر. لكن إن خالفت توقعاته وتكلمتَ…”
توقف صوتها للحظة، قبل أن تكمل،
“سأفقد ورقة رابحة مهمة.”
وبعد قول ذلك، استدارت قليلًا ثم بدأت بالمشي، في إشارةٍ إلى رغبتها في مغادرة المكان.
تبعها بايل بخطواتٍ مائلة إلى الخلف، وبينما كان يرتدي سترته التي أعادتها إليه مينيلّي، أسرعت الخادمة لتضيء الطريق تحت قدمي ليليانا.
“ماذا ستفعل؟”
سألت ليليانا دون أن تلتفت إليه.
“… لم أكن أنوي التحدث منذ البداية. كنتُ أرغب فقط في فهم نواياكِ.”
“إذن، يمكنني أن أخبرك بهذا أيضًا.”
“وماذا سيكون ذلك؟”
“لديك أموال مستثمرة في قافلة كارد التجارية، أليس كذلك؟”
قافلة كارد كانت تتبع لعائلة الكونت كارد، التي تدين بالولاء للدوق غابرييل. وكان أبناء دوق غابرييل الصغار يتعلمون التعامل مع الأموال عبرها.
لقد توسعت هذه القافلة عبر استقطاب المستثمرين الشباب وكسب ودّهم. وكان ذلك مسموحًا حتى لأفراد الفروع الجانبية من العائلة.
“بالطبع.”
“اسحب كل استثماراتك منها.”
تغيّر وجه بايل عند سماع ذلك. إذا سحب أمواله من قافلة كارد، فسيملأ شخصٌ آخر من بيت غابرييل الفراغ الذي سيتركه، ولن يجني أي فائدة.
بل إنه لم يكن متأكدًا مما إذا كان سيتمكن من استعادة كل استثماراته بالكامل أم لا.
لكن ليليانا التي رآها اليوم لم تكن تتصرف بلا سبب. لا بد أنها شعرت بوجود خطر ما، وكانت تحاول تحذيره.
بدلًا من طرح المزيد من الأسئلة، انحنى بايل باحترام.
“سأفعل كما أمرتِ. شكرًا لكِ، جلالتك.”
عندما خرجا تمامًا من الحديقة، تاركين خلفهما الزينة الفاخرة، لم يكن مفاجئًا ظهور هيليو أمامهما.
لقد أكد هذا فقط صحة كلمات ليليانا بأن هيليو كان على علمٍ بكل شيء.
“جلالة الملكة.”
مدّ هيليو يده نحو ليليانا برفق، كما لو أنه فارسٌ يعرض مرافقة زوجته بكل رقة.
أمسكت ليليانا بيد هيليو بثبات، كما لو أنها لا تخشى صاحبها على الإطلاق، بينما تبادلت معه النظرات.
لطالما كانت في حالة تأهب مستمرة أمام بايل، فقد اعترف بقيمتها كأداة نافعة لكنه لم يحظَ بمودتها أبدًا.
أما عيناها حين تنظر إلى هيليو، فقد كانتا تعجان بمشاعر متضاربة. لم يكن واضحًا إن كانت تلك المشاعر حبًا خالصًا أم مجرد ولاء للسيد الذي يحميها.
ما كان مؤكدًا الآن هو المسافة الشاسعة التي تفصل بين بايل وهيليو.
الشعور العابر بالبهجة الذي انتابه عندما سار بجوار ليليانا في الحديقة، انهار تمامًا كقلعة من الرمال.
“أشكرك بصدق على مساعدة جلالة الملكة، أيها اللورد غابرييل.”
“إنه لشرف لي.”
انحنى بايل قليلاً بردّ مهذب لكنه لم يخلُ من التوتر، بينما راقب هيليو أدق تحركاته بنظرة حادة لم تغفل شيئًا.
ثم تعمّد تطويق كتف ليليانا بذراعه، وسحبها برفق إلى جانبه.
“جلالتك، نحن في قاعة الحفل.”
همست ليليانا، محرجة، ولم يكن ذلك ليخفى على بايل. لكن هيليو اكتفى بالنظر إليها بمكر، وكأنه لم يلحظ ارتباكها.
“قاعة الحفل؟ يا لها من حفلة ملكية متواضعة إذن.”
“لا، ما قصدته أننا على وشك الدخول إلى قاعة الحفل.”
“هذا ليس ما قلتِه.”
استمر الجدال الطفيف بينهما بينما كانا يتجهان نحو القاعة، في حين تبع بايل خطواتهما من مسافة محددة، لكن كان من الواضح أنه لم يكن حاضرًا في وعي ليليانا.
عندما وصلا إلى مدخل القاعة، لبّى هيليو أخيرًا رغبة ليليانا وأبعد ذراعه عن كتفها، قبل أن يقدم لها مرافقة رسمية أكثر لائقة.
في الواقع، لم يكن ينوي دخول الحفل بذلك المظهر غير الرسمي، لكنه استمتع برؤية ارتباكها، فاستمر في مضايقتها قليلًا.
كانت القاعة تضج بالموسيقى، والرجال والسيدات يتمايلون في أزواج على أنغامها، لكن ما إن ظهر الإمبراطور والملكة معًا حتى انصبّت جميع الأنظار عليهما.
شعرت ليليانا بثقل النظرات، لكنها أخفت انزعاجها وسارت بخطى رشيقة.
“مر وقت طويل منذ أن رأيت أختي ترقص.”
تمتم هيليو، فالتفتت ليليانا لتنظر إلى وسط القاعة، حيث كانت لوسيا ترقص بفستانها القرمزي الداكن، تتحرك برشاقة ساحرة، أشبه بباقة من الورود تتفتح وتتناثر مع كل دوران.
لكن ما جذب انتباهها أكثر من حركات لوسيا الرشيقة هو شريكها في الرقص.
كان رجلًا ذا شعر أسود وملامح أجنبية، وملابسه تميزت عن الآخرين وكأنها تحمل الطابع التقليدي لبلاده. لكنه مع ذلك كان متقنًا تمامًا لرقصات البلاط الإمبراطوري.
بينما كانت تحدق فيه، استحضرت ليليانا ما تعلمته من هيسدين، وتذكرت هويته.
إنه ولي عهد مملكة ساغرينو، الدولة الحدودية المجاورة.
كانت تلك المملكة تفتخر بتمسكها بتقاليدها، رغم انفتاحها الثقافي. ومع ازدهار صناعتها العسكرية، نمت تجارتها، وأصبحت بحاجة إلى أميرة حكيمة تعزز مصالحها.
وكانت لوسيا الأميرة الإمبراطورية قد لفتت أنظارهم.
“إنه وسيم جدًا…”
علّقت ليليانا بصوت خافت. من الطبيعي ألا يتوقع أحد الجمال في زيجات السياسة، لكن ولي العهد كان حسن المظهر، كما أن آدابه أثناء الرقص لم تترك مجالًا للشك في نبل شخصيته.
لكن تعليقها لم يرق لهيليو، فاستند إلى كرسيه عابسًا.
“وسيم؟”
“بالطبع، أليس كذلك؟”
نظرت ليليانا إلى ولي العهد، ثم التفتت إلى هيليو، ثم عادت لتنظر إلى ولي العهد مرة أخرى.
ولكن فجأة، لم يعد وجه الأمير يبدو بنفس الجاذبية، بل بدا كما لو أن أحدهم قد رمى به كتلة طينية على الحائط.
“هاه؟”
رمشت ليليانا، ثم نظرت مجددًا إلى هيليو. حدقت في عينيه الزرقاوين، وعندما رمشت مرة أخرى، شعرت وكأن مجال رؤيتها أصبح أكثر وضوحًا واستقرارًا.
“آه…”
عندما أومأت برأسها وكأنها قد فهمت شيئًا، رسم هيليو ابتسامة راضية.
كان وجهه مزعجًا بالفعل، لكن لا يمكن إنكار أنه كان متوهجًا بجاذبية تفوق الوصف.
عندما انتهت الرقصة، أمسك ولي العهد بيد لوسيا وطبع قبلة خفيفة على ظهرها قبل أن يصحبها إلى إحدى الطاولات لاستكمال حديثهما.
مالت ليليانا قليلًا نحو هيليو وسألته بصوت خافت:
“هل سترسل جلالة الأميرة إلى مملكة ساغرينو؟”
في القصة الأصلية، لم تكن لوسيا قد تزوجت في زواج سياسي، بل وجدت حبها الحقيقي بمرور الوقت.
لذا، رغم أنها عرفت النتيجة مسبقًا، إلا أنها أرادت معرفة رأي هيليو.
“إن أرادت ذلك.”
رفع هيليو كأس النبيذ وشم رائحته، لكنه وضعه جانبًا دون أن يحتسيه.
“وإن لم ترد، فلا داعي لذلك.”
لقد جاءت مملكة ساغرينو بعروض سخية، بل ووعدت بتقديم المزيد بعد إتمام الزواج.
أي حاكم آخر كان سيقبل هذا العرض دون تردد، خصوصًا مع قوة الجيش الساغريني.
لكن هيليو تمتم بثقة:
“ليست لدي أي نية لبيع أختي الوحيدة لأي دولة. ليس بعد أن جعلت هذه الإمبراطورية قوية بما يكفي لتستغني عن ذلك.”
بدت كلماته متغطرسة، لكنها كانت تحمل في طياتها ازدراءً للحكام الذين يضحّون ببناتهم من أجل الصفقات السياسية.
مدّ يده نحو ليليانا، ولم يكترث لكونهما في قاعة الحفل، بل أمسك بخصلة من شعرها المتدلي على كتفها، وتركها تنساب بين أصابعه.
ثم همس مبتسمًا:
“حتى أنتِ، حاولتِ الهرب لأنك لم ترغبي في أن تُباعي.”
__________________________________________
•• حسابي واتباد: Toro1312 !!⭐••
《لاتدع الرواية تشغلك عن العبادات》
ترجمة: ✧𝐀𝐌𝐘✧
التعليقات لهذا الفصل " 63"