كانت لِيليانا تعتقد أن السُّلطة هي القوة التي تحمي الإنسان.
وكما قال هيليو، إذا جمعت ما يكفي من السُّلطة، فلن يكون لوجود طفل من عدمه أي تأثير، كما أنها لن تعاني من الحر أو البرد، وستعيش وفقًا لعمرها المقدَّر.
لماذا لم تدرك ذلك من قبل؟ على الرغم من أنها عاشت دائمًا متأرجحة تحت وطأة السُّلطة التي يمارسها الآخرون، إلا أنها لم تفكر يومًا في أنها يمكن أن تؤذي غيرها بهذه السُّلطة.
وحتى لو فعلت، فلم تكن لتؤذي شخصًا بريئًا، فقط لمجرد أنه يثير استياءها.
“هذا صحيح.”
لو كانت لِيليانا السابقة، لكانت بررت موقفها قائلة إنها ليست من هذا النوع من الأشخاص. لكن لِيليانا الحالية تعلم أن مثل هذه الكلمات لن تجعلها سوى أضعف.
قررت لِيليانا أن تنسى أمر الخادمة التي غادرت للتو، ووجهت اهتمامها إلى الأحذية. اختارت حذاءً بلون أزرق داكن، يتناسب تمامًا مع فستانها الحالي.
كان الحذاء مرصعًا بلمعان خفيف يشبه درب التبانة، مما أضفى عليه جمالًا دون أن يكون مبالغًا فيه أو طفوليًّا. لكن أكثر ما أعجب لِيليانا هو الراحة التي يوفرها الحذاء لقدميها رغم جماله.
“أنا لا أختلق الكلام.”
تذكرت لِيليانا كلمات هيليو وابتسمت بلطف. لقد كان محقًّا عندما وعدها بأنه سيجد لها حذاءً جميلًا ومريحًا.
“صوفيا، أعيدي باقي الأحذية.”
“ماذا؟”
إعادة الهدايا التي منحها الإمبراطور كانت أمرًا غير مألوف وفقًا للبروتوكول. لكن رؤية الخادمة ترتعد خوفًا منها قبل قليل جعلت لِيليانا تدرك أمرًا مهمًّا.
قد يكون بوسعها إخافة الخدم فقط لأنها تحمل لقب “المحبوبة لدى جلالته”، لكن الأمر يختلف مع النبلاء. بغض النظر عن مدى قربها من الإمبراطور، سيستهينون بها ما دامت متواضعة.
اقتربت لِيليانا من صوفيا وهمست لها بصوت خافت:
“تأكدي من أن الجميع يعلم.”
في الواقع، هذا المخطط لن ينجح إلا إذا تعاون معها هيليو.
إذا انفجر غضبًا، فسوف تصبح موضع سخرية الجميع. أما إذا لم يفرض أي عقوبة على لِيليانا رغم هذا التصرف، فسينظرون إليها بطريقة مختلفة تمامًا.
أما دوق غابرييل، فلن يتأثر بشيء كهذا، بل ربما يكون من الأفضل إبقاؤه مغرورًا كما هو.
بعد فترة قصيرة، عادت مينيلي.
“إذا انتظرتِ هنا قليلًا، فسيصل جلالته قريبًا.”
وهذا يعني أن هيليو لا يزال مع دوق غابرييل. تبادلت لِيليانا نظرات مع صوفيا، فحملت الأخيرة صندوق الأحذية وخرجت.
لم يكن الهدف مقاطعة اجتماع هيليو مع الدوق، بل فقط أن تقف أمام الباب.
في الواقع، كان هذا أفضل، لأنه سيجعل الجميع يلاحظونها.
بعد مغادرة صوفيا، بقيت لِيليانا في الغرفة مع قائد الفرسان فيرين ومينيلي.
لم تكن قريبة بما يكفي من فيرين لبدء محادثة معه، كما لم يكن من المناسب التحدث مع مينيلي بوجوده.
بعد لحظات من الصمت المطبق، وقفت لِيليانا متظاهرة بعدم القدرة على تحمله.
“إلى أين تذهبين؟”
سألها فيرين، فردت عليه بابتسامة محرجة:
“بما أنني ارتديت حذاءً جديدًا أهداني إياه جلالته، أود أن أجربه قليلًا.”
لم يكن فيرين ضيفًا على لِيليانا، لذا لم يكن من غير اللائق مغادرة المكان.
بدا مقتنعًا بردها وأومأ برأسه. غادرت لِيليانا برفقة مينيلي.
ربما ستتفاجأ صوفيا عندما تعود، لكنها ستتفهم مشاعر سيدتها عندما تواجه هذا الجو الخانق. على الأقل، لم يكن مطلوبًا من الخدم إجراء محادثات، مما جعل وضعهم أسهل.
فكرت لِيليانا في العودة إلى قاعة الحفل، لكنها شعرت بالإرهاق بعد كل هذا التفكير في كيفية إدارة المحادثات. لم تكن ترغب في العودة إلى ذلك المكان الصاخب.
“فقط، أحتاج إلى القليل من الراحة.”
طمأنت نفسها بهذه الكلمات، ثم توجهت إلى الحديقة القريبة من قاعة الحفل.
كان مدخل الحديقة فخمًا للغاية، لكنه لم يكن يحظى بتقييم عالٍ من حيث المنظر الداخلي. في الأساس، لم يكن الغرض منها سوى أن تكون ممرًا مؤقتًا لمن يهربون من الحفلات، لا أكثر ولا أقل.
بل إن أضواء قاعة الحفل الساطعة جعلتها تبدو أكثر ظلمة. أعطى أحد الخدم مينيلي مصباحًا صغيرًا، لتضيء به الطريق.
بعد المرور عبر المدخل المبهر والسير قليلًا، ظهرت الحديقة الداكنة والبسيطة.
وعلى الرغم من أنها لم تكن سوى زينة سطحية، فإنها كانت جزءًا من حدائق القصر الإمبراطوري، فبدت واسعة ومرتبة بعناية.
لكن نظرًا لكونها مهجورة ليلًا، فقد كان الجو أكثر برودة من قاعة الحفل، مما جعل القشعريرة تسري في ذراعيها.
“جلالة الملكة لِيليانا.”
توقفت يدها التي كانت تفرك جلدها لتدفئته عند سماع صوت يناديها.
استدارت لترى رجلًا يحمل مصباحًا.
ظنت في البداية أنه مجرد خادم أو فارس من القصر، لأنه كان بمفرده، لكن عندما نظرت من خلال الضوء الخلفي، رأت ملامح حادة وأنيقة.
“اللورد غابرييل؟.”
استعادت لِيليانا القواعد التي علَّمها لها هيسدين ومدَّت يدها بسلاسة، كما لو كانت تتبع تدفق الماء.
لم تكن هذه العادة موجودة في مملكة نييتا، لذا شعرت ببعض الإحراج في داخلها، لكنها بذلت جهدًا كبيرًا لعدم إظهار ذلك.
انحنى بايل أمام يد لِيليانا برقة، ثم أمسكها بلطف، تاركًا أنفاسه الخفيفة تلامس ظاهر يدها.
“هل يمكن أن تناديني باسمي لبعض الوقت، بدلًا من اللورد غابرييل؟”
“…سيكون ذلك مناسبًا، بايل.”
إذا نادت لِيليانا فرع عائلة غابرييل بأسمائهم، فسيعتقد الجميع أن طموحهم لا يتعدى مجرد الاستقلال، مما سيدفع الدوق غابرييل إلى تعزيز علاقته بفرعه، مما يمنح بايل فرصة أقرب إلى الوريث الشرعي.
“لقد تبعتني لأن لديك أمرًا لتقوله، أليس كذلك؟”
“تبعتكِ؟ لا، لقد كنتُ فقط أرافقكِ باحترام.”
ابتسم بايل بخفة، بينما حاولت لِيليانا أن تحافظ على هدوئها رغم برودة هواء الخريف التي تسللت إلى جسدها. عندما احتضنت كتفها دون وعي، خلع بايل سترته.
“إذا لم يكن في ذلك إزعاج…”
“إنه كذلك.”
“فقط حتى نغادر الحديقة. بعد ذلك، لا بد لي من الحفاظ على مظهري.”
رغم نبرته الساخرة، لم تستطع لِيليانا إنكار أنها ستشعر ببرودة شديدة قبل إنهاء المحادثة. عندما لم تعترض، اقترب بايل ووضع سترته على كتفيها.
حاول سحب شعرها الوردي من تحت السترة، لكن لِيليانا تراجعت خطوة إلى الوراء، ناظرة إليه بحزم.
“لطالما فكرت في أنك مرتاحٌ جدًا في تصرفاتك، سيد بايل.”
“أحقًا؟”
“نعم. على أي حال، شكرًا لك على إعارة المعطف.”
“كان تصرفًا غير لائق، أعتذر. لدي أخت صغيرة، مما يجعلني أتصرف دون تفكير أحيانًا. أرجو أن تعتبريني شخصًا ساذجًا وتتغاضي عن ذلك.”
“يبدو أنك تهتم كثيرًا بالآنسة أغرينا.”
“بالطبع، كما أنني أشعر بالقلق عليها، فهي فتاة مفعمة بالحيوية.”
أومأت لِيليانا بصمت، بينما قامت مينيلي، التي وضعت المصباح جانبًا للحظة، بتعديل شعر سيدتها بلطف.
“إذًا، ما سبب ملاحقتك لي، سيد بايل؟”
“أعتقد أن الوقت قد حان للتفكير في خطوتك الأخيرة.”
رفعت لِيليانا رأسها لتنظر إليه مباشرة، فرأت على ملامحه ثقة واضحة.
“هل هذه المرة مؤكدة؟”
“إنه كاهن روحاني مسنٌّ من إمارة لاوبي. رغم أنه يُقال إنه في الثمانينيات من عمره، إلا أنه يبدو في الخمسينيات أو الستينيات فقط.”
كلما كان الكاهن الروحاني أكثر موهبة، كان تأثره بالطبيعة أقوى، مما يبطئ شيخوخته.
في شبابه، لم يكن الأمر ملحوظًا، لكن مع تقدمه في العمر، كانت الفجوة بين عمره الحقيقي ومظهره تتسع.
إضافة إلى ذلك، كانت إمارة لاوبي مليئة بالطاقة الروحية أكثر من مملكة نييتا، لذا كان الكهنة الروحانيون يولدون هناك بشكل متكرر، رغم أن طبيعة البلاد الانعزالية جعلت خروجهم أمرًا نادرًا.
“حسنًا. أحضر هذا الكاهن إلى جناحي قريبًا.”
“كما تأمرين، جلالتك.”
بينما كانا يتبادلان الحديث عن الكاهن، وجدا نفسيهما يسيران في عمق الحديقة أكثر مما كان مخططًا له.
شعرت لِيليانا ببعض القلق لأنها تركت القاعة بصحبة بايل، لكنها كانت تعلم أن الجميع يعتقدون أنها في غرفتها مع هيليو، لذا لن يكون هناك مشكلة كبيرة.
“عند العودة، سأخرج أولًا، ثم يمكنك المغادرة بعدي بفترة.”
“بالطبع.”
تقبّل بايل اقتراحها دون أي تردد. لكن بينما كانا يتجهان نحو المخرج، حدث شيء غير متوقع.
“آه…!”
شعرت لِيليانا بشيء ثقيل يعترض طريقها، فاختل توازنها لوهلة.
دون تفكير، مدَّ بايل يده وأحاط خصرها، مسندًا إياها إليه.
كانا قريبين بما يكفي ليتمكنا من رؤية لون عيون بعضهما البعض تحت ضوء القمر.
ارتسمت الدهشة في عيني لِيليانا الوردية، لكن بايل لم يُبعد يده فورًا، فقد كان مأخوذًا بالرائحة العطرة التي فاحت منها.
كان هذا العطر مألوفًا له، يشبه رائحة الأزهار التي اعتادت خادمته وضعها في غرفته.
“س–سيد بايل، الآن… يمكنك أن تتركني.”
قالت لِيليانا بصوت متوتر وهي تحاول إبعاده برفق، فأدرك موقفه سريعًا وأطلق سراحها.
ثم انحنى معتذرًا بجدية.
“آسف ، لقد أسأت التصرف!.”
__________________________________________
•• حسابي واتباد: Toro1312 !!⭐•
《لاتدع الرواية تشغلك عن العبادات》
ترجمة: ✧𝐀𝐌𝐘✧
التعليقات لهذا الفصل " 61"