قصر ماركيزة ريستون كان يبدو كئيبًا في الليل، على عكس ما يكون عليه في وضح النهار. لم يكن مستبعدًا أن يظهر شبح في أي لحظة.
لحسن الحظ، كان صوت البكاء أقرب مما تخيلت لِيليانا.
رفعت شمعدانها عاليًا وتقدّمت إلى الغرفة التي بدا منها الصوت الحزين.
كانت هناك فجوة صغيرة في الباب المفتوح تُسرب ضوءًا خافتًا إلى الخارج. إذا كان الضوء مشتعلًا، فهل يعني أن ما بداخلها ليس شبحًا؟ ترددت لِيليانا لوهلة، متسائلة إن كان من اللائق الدخول.
حينها، تسلّل صوت واضح من الداخل.
“كارولين… صغيرتي…”
تعرفت لِيليانا فورًا إلى الصوت. لم يكن هناك شك في أن صاحبة هذا الصوت هي الماركيزة ريستون.
مع كل شهقة تبكيها الماركيزة، كان قلب لِيليانا يهبط بشدة، وكأنها تفضّل أن تواجه شبحًا عن رؤية هذا المشهد المحزن.
و كأنها تحت تأثير قوة خفية، اقتربت لِيليانا من الباب وألقت نظرة من الفجوة الصغيرة. كانت الماركيزة ريستون جالسة على الأرض، وإلى جانبها شمعدان مضاء. بين ذراعيها، كانت تعانق إطار صورة صغيرة، بداخله بالتأكيد صورة لابنتها كارولين، التي كل مارأتها شعرت بالألم.
ترددت لِيليانا قليلًا، ثم طرقت الباب بخفة. فزعَت الماركيزة والتفتت بسرعة نحوها. اتسعت عيناها بدهشة عندما رأت لِيليانا، لكن ما لبثت أن شعرت بالإحراج عندما أدركت أنها كانت تبكي. بسرعة، بدأت تمسح دموعها بظهر يدها.
“أعتذر عن قدومي المفاجئ.”
“لا، لا بأس… بل أنا من يجب أن أعتذر لأنك رأيتني هكذا…”
بدت الماركيزة، التي كانت دائمًا أنيقة ومتماسكة، محرجة تمامًا لظهورها بهذا الضعف. شعرت لِيليانا للحظة أنها ربما أخطأت في الدخول، لكن الوقت كان قد فات.
مدّت يدها بلطف وأمسكت بيد الماركيزة الباردة.
“هل تسمحين لي أن أواسيكِ؟ لن يكون لذلك فائدة كبيرة، لكنني سأبقى بجانبك.”
امتلأت عينا الماركيزة بالدموع مجددًا، لكنها اكتفت بهز رأسها، ويدها ما تزال تمسك بالإطار.
“ابقِ معي، إذًا…”
“بالطبع.”
جلست لِيليانا على ركبتيها بجانبها، دون أن تنبس بكلمة. ورغم أن الماركيزة توقفت عن النحيب بصوت عالٍ، إلا أن الدموع استمرت في الانهمار بصمت. كان وجهها المبتل يلمع تحت ضوء القمر، وهو ما جعل قلب لِيليانا يزداد حزنًا.
حينها، رفعت الماركيزة رأسها ونظرت إلى لِيليانا بابتسامة باهتة.
” من الجيد أن يكون هناك من يبقى بفرقتك. زوجي قد استنفد قواه من الحزن.”
“حقًا؟”
“لقد انتهى به الأمر كما يقول الناس. أصبح صامتًا طوال الوقت، لا يتحدث إلى أحد، ولا يرى أحدًا. و كأنه مجرد جثة تتنفس.”
تحدثت الماركيزة بنبرة حزينة تخفي الكثير من مشاعر الذنب.
“أحيانًا أفكر أنني قاسية جدًا… ابنتي قد ماتت، لكنني لا أزال أدير عملي السري.”
“لا تقولي ذلك!”
قبضت لِيليانا على يدي الماركيزة بحزم، وكأنها تمنعها من الاستمرار في الحديث.
“لكل منا طريقته في التعبير عن حزنه. زوجكِ اختار أن يغلق على نفسه، وأنتِ اخترتِ السعي للانتقام من أجل ابنتكِ. لا أحد يستطيع أن يحكم أيكما أكثر ألمًا.”
أغمضت الماركيزة عينيها، فتهاوت الدموع من جديد. دفعت لِيليانا نفسها إلى الأمام، وعانقتها بحرارة.
شعرت ببرودة جسدها النحيل وإطار الصورة القاسي الذي تحمله، لكنها لم تهتم. أخذت تربت على ظهرها بخفة، تحاول تهدئتها.
احتاجت الماركيزة إلى وقت طويل لتتوقف عن البكاء. وعندما انتهت، تراجعت بخجل، ومسحت دموعها، لكنها ابتسمت بحنان.
“أتساءل… كم تفتقدكِ والدتكِ، يا صاحبة الجلالة؟ لا شك أنها تحبكِ كثيرًا.”
ظهرت ابتسامة حزينة على شفتي لِيليانا، وبدت عيناها ورديتي اللون محملتين بالحنين والأسى.
“أشتاق إليها أيضًا، لكنني أظن أن حالها سيكون أفضل بدوني.”
“هذا غير صحيح.”
“بل هو كذلك. بعد رحيلي، أصبحت والدتي كونتيسة، وابتعدت عن هذا القصر الملعون. أظن أنني فعلت الصواب بتركها.”
شعرت لِيليانا أن كلماتها كانت تتدفق دون وعي، ربما بسبب الصدق الذي رأته في دموع الماركيزة.
هزت الماركيزة رأسها قائلة بلطف:
“أنا أختلف معكِ. لو كانت كارولين معي الآن، لما رغبت في أي شيء آخر، حتى لو عُرض عليّ لقب الإمبراطورة نفسها. كل تلك الأمور لا تساوي شيئًا مقارنة بابنتي. والدتكِ تشعر بالشيء نفسه.”
امتلأت عينا لِيليانا بالدموع، لكنها حاولت كبحها. لم تكن تريد أن تبكي هنا، لكنها أدركت أن هذه الكلمات هي ما كانت تتوق لسماعه طوال هذا الوقت.
لِيليانا كانت تأمل أن تصبح والدتها أكثر سعادة بعدما أرسلتها إلى الإمبراطورية. وفي الوقت نفسه، كانت تأمل أن تبقى تفتقدها وتحزن عليها.
كم كانت أنانية لتفكر بذلك؟ تلك الأفكار كانت تؤرقها باستمرار.
“أتمنى حقًا أن تكون أمي سعيدة، لكن…”
توقفت لِيليانا عن الحديث فجأة، وانفجرت بالبكاء. عندها وضعت الماركيزة رِستون الإطار جانبًا ومسحت دموع لِيليانا عن وجنتيها.
“آه، يا صغيرتي المسكينة… ليس في ذلك خطأ. لا بأس، يا عزيزتي.”
أمسكت ماركيزة رِستون وجنتي لِيليانا بحنان، ونظرت إليها نظرة دافئة مليئة بالمحبة.
كانت تلك النظرة مختلفة عن نظرات والدتها التي كانت دائمًا مليئة بالقلق. ومع ذلك، بعث هذا الدفء الطمأنينة في قلب لِيليانا.
كانت قد التقت بالماركيزة رِيستون للمرة الأولى في ذلك اليوم فقط، ومع ذلك، شعرت برغبة في أن تحتضنها وتجد الراحة في أحضانها. ابتسمت لِيليانا رغم وجنتيها المبللتين بالدموع.
تلك الليلة، وبين أمٍّ فقدت ابنتها وابنةٍ فقدت أمها، كانتا تعزيان بعضهما البعض في مشهدٍ بسيط، لكنه مليء بالدفء.
❈❈❈
عندما استيقظت لِيليانا في اليوم التالي، كانت الشمس قد ارتفعت عاليًا في السماء. لم يكن ذلك مستغربًا، فقد بقيت مستيقظة حتى ساعات متأخرة من الليل وهي تبكي وتضحك مع الماركيزة ريستون.
وحينما رأت صوفيا عيني لِيليانا المتورمتين، أصابها الذعر وأحضرت دلوًا من الثلج. ثم وضعت بعض الثلج في منشفة رقيقة وبدأت تضغط به برفق على جفون لِيليانا.
“ما الذي حدث بحق؟”
“حسنًا… الأمر هو…”
همّت لِيليانا بتفسير ما جرى في الليلة السابقة، لكن طرقًا على الباب أوقف الحديث.
دخلت كبيرة الخدم المنزل وأغلقت الباب خلفها، ثم تقدمت بحذر لتقول:
“جلالة الملكة، لقد وقع حادث لعربة قيل إنها كانت ستقلّكِ ، يبدو أن الحصان قد جُن فجأة، مما أدى إلى اصطدام العربة بشجرة.”
وقفت لِيليانا مندهشة.
“هل هذا صحيح؟”
“نعم. الماركيزة ريستون هي من حصلت على هذه المعلومات بنفسها، وهي مؤكدة بلا شك.”
“وأين وقع الحادث بالضبط؟ وهل من المؤكد أن الحصان جُن فعلاً؟”
“الماركيزة ريستون خرجت لتتحقق من التفاصيل بنفسها. ستعرفين المزيد حين تعود.”
“حسنًا. أشكرك على إخباري.”
انحنت كبيرة الخدم قبل أن تغادر الغرفة. جلست لِيليانا على سريرها في حالة من الذهول.
لم يكن من الممكن أن يفقد الحصان صوابه هكذا دون سبب. خاصة وأن ذلك الحصان كان تحت رعاية القصر الإمبراطوري. كان من الواضح أن هناك من تلاعب بالأمر.
“لا بد أن هذه مؤامرة جديدة من عائلة غابرييل…”
شعرت لِيليانا بأن الأمور لا تسير كما يجب.
كانت تحاول النجاة، لكن كلما تحركت خطوة، كانت عائلة غابرييل تضيق الخناق عليها أكثر فأكثر.
أخذت تتساءل إن كانت ستلقى حتفها أسرع مما حدث في القصة الأصلية.
لكنها سرعان ما تخلّصت من ذلك الشعور العميق بالعجز، واستعادت رباطة جأشها.
“إن كان مقدرًا لي أن أموت قبل موعدي، فلا فرق بين الموت قريبًا أو لاحقًا. الحل الوحيد للنجاة هو أن أواصل المحاولة.”
قررت لِيليانا الانتظار بهدوء حتى تعود الماركيزة ريستون. قضت الوقت بقراءة الكتب التي وجدت في الغرفة، والاستمتاع بوجبة الشاي التي أعدتها خادمات المنزل بعناية.
كما دخلت إلى غرفة الاستقبال الفخمة التي تحدثت فيها لأول مرة مع الماركيزة ريستون، لتتأمل اللوحات المعلقة على الجدران.
قالت صوفيا، مشيرة إلى صورة لامرأة ذات شعر وردي:
“تلك السيدة تمتلك لون شعر يشبه لون شعرك، جلالتك.”
ابتسمت لِيليانا بشيء من السرور، فقد كان شعرها الوردي أكثر إشراقًا، لكنه ظل لونًا نادرًا.
“أوه، جلالتك! ها أنتما هنا!”
دخلت الماركيزة ريستون إلى غرفة الاستقبال، وقد كانت ترتدي قبعة سوداء ذات حجاب رقيق، مما يشير إلى أنها خرجت لتجنب الأنظار. خلعت القبعة وسلمتها لإحدى الخادمات، ثم اقتربت من لِيليانا وأمسكت بيدها برقة.
لم يكن ذلك المشهد يبدو غريبًا بعد الليلة التي قضتاها معًا، وكأن علاقتهما باتت أكثر قربًا.
“لا بد أنكِ شعرتِ بالصدمة بعد سماع الخبر.”
“أنا بخير. ما يقلقني حقًا هو أنني لا أعرف كيف أشكركِ على اهتمامكِ الكبير.”
ابتسمت الماركيزة ريستون قائلة:
“لا داعي للشكر. لقد شعرتُ بالقلق وتصرفتُ بسرعة لا أكثر. كنت أفكر طوال الطريق في طريقة لمواساتك، لكنك تبدين بحالة أفضل مما توقعت. حتى أنني أعددتُ خيارات، لكنها لم تعد ضرورية على ما يبدو.”
لم تستطع لِيليانا منع نفسها من الابتسام. كانت عفوية الماركيزة ريستون ورقتها تملأ قلبها بالدفء، مما جعلها تعترف بصراحة:
“في الحقيقة… أنا أتظاهر فقط بأنني بخير.”
“أوه! حقًا؟”
صفقت الماركيزة ريستون بمرح وأمسكت بيد لِيليانا، ثم جرّتها خارج الغرفة دون سابق إنذار.
سارت لِيليانا بسرعة للحاق بها وهي تسأل بدهشة:
“سيدتي، إلى أين نحن ذاهبتان؟”
“لقد عشتِ في القصر الملكي والإمبراطوري، مما يعني أنكِ لم تلبسي سوى تلك الفساتين المزعجة. لديّ الكثير من ملابس كارولين التي لم ترتدِها قط. لنذهب ونتفقدها معًا!”
“لكن… ماذا عن حادث العربة؟”
ابتسمت الماركيزة ريستون وقالت بخبث:
“المعلومات لها ثمن، يا عزيزتي. قضاء وقت ممتع معي هو ثمن تلك المعلومات.”
لم تستطع لِيليانا الرفض بعد ذلك. تبعتها بهدوء وهي تفكر في كم أصبحت الماركيزة ريستون قريبة منها بطريقة لم تتوقعها.
__________________________________________
• حسابي واتباد: Toro1312 !!⭐•
《لاتدع الرواية تشغلك عن العبادات》
ترجمة: ✧𝐀𝐌𝐘✧
التعليقات لهذا الفصل " 46"