لا شك أنّه كان السير تيرنز.
لماذا عاد مجددًا إلى قصر الزمرد بعد أن اصطحب لِيليانا إلى القصر الإمبراطوري قبل بضعة أيام؟ هل من الممكن أن يكون الإمبراطور هيليو قد استدعاها؟.
خفق قلب لِيليانا بسرعة وكأنّه يحاول الهروب من صدرها.
دون أن تدرك ما تفعله، أمسكت بحافة النافذة وأخرجت رأسها قليلًا لتنظر إلى الخارج. خلفها، كانت صوفيا تهمس بتحذير، قائلة إن هذا تصرّف خطير، وتطلب منها أن تعود إلى الداخل، لكن كلماتها لم تصل إلى أذني لِيليانا.
رأت تيرنز يتحدث إلى أحد الحراس لبضع لحظات، ثم يستدير ويغادر قصر الزمرد وكأنّ شيئًا لم يكن. بقيت لِيليانا تنظر إلى العربة التي تقلّه وهي تسير مبتعدة حتى اختفت عن الأنظار، ثم عادت إلى الداخل بهدوء، وقد علا وجهها الذهول.
كانت صوفيا على وشك توبيخها بسبب تهورها، لكنها لاحظت النظرة الشاردة على وجه لِيليانا، فبادرت بالقلق:
“جلالتكِ، هل حدث شيء؟”
هزّت لِيليانا رأسها بسرعة وهي تقول بصوت مرتفع غير معتاد:
“لا! لم يحدث أي شيء!”
لكن وضوح توترها فضح عكس ذلك. رمقتها صوفيا بنظرة ملؤها الأسى، فقد كانت تعرف أنّ مظهر لِيليانا الهادئ في الأيام الماضية لم يكن سوى واجهة تخفي خلفها جهدًا كبيرًا لتبدو متماسكة.
ربما كانت تفكر باستمرار فيما حدث، تحاول إخفاء مشاعرها المتضاربة بينما تزداد تألمًا من الداخل.
رغبةً في الهروب من أعين صوفيا، أسرعت لِيليانا إلى سريرها واختبأت تحت الغطاء كما لو كانت تحتمي من كل ما يحيط بها.
لكن فجأة، سُمع صوت طرق خفيف على الباب، وأعلنت مينيلي بوجه جاد وهي تدخل الغرفة:
“جلالتكِ، قائد الحرس يطلب لقائك.”
رفعت لِيليانا رأسها قليلًا وسألت بفضول:
“قائد الحرس؟ هل الأمر له علاقة بزيارة السير تيرنز قبل قليل؟”
“أظنّ ذلك، يا جلالتكِ.”
دفعت لِيليانا الغطاء جانبًا ونهضت من السرير.
في غرفة الاستقبال، كان قائد الحرس ينتظرها بانضباط عسكري. ما إن رأى لِيليانا حتى انحنى على ركبة واحدة احترامًا، ثم وقف ببطء ليواجهها.
كان رجلًا ضخمًا، حتى أن لِيليانا خشيت أن يلامس رأسه سقف الغرفة.
قال بصوت ثابت:
“جلالتكِ، هناك مرسوم إمبراطوري يقضي بأنّك أصبحتِ الآن حرة في التنقل دون قيود. وبناءً عليه، تنتهي مهمة فرقة الحرس الثالثة عند هذا الحد، ونطلب منكِ الإذن بالانسحاب.”
حدّقت لِيليانا إليه ببرود لم يظهر على وجهها من قبل.
“حسنًا، لكن لماذا كنتم تراقبونني منذ البداية؟”
“لست مخولًا بالإجابة على هذا السؤال، يا جلالتكِ. أعتذر.”
شدّت لِيليانا على ذراعيها المتقاطعتين وأشاحت بوجهها بعيدًا لتخفي مرارتها، ثم قالت بنبرة باردة:
“حسنًا، لقد أديتم واجبكم. يمكنكم الانصراف.”
انحنى قائد الحرس مرة أخرى، ثم غادر بهدوء.
خلفه، كانت صوفيا ومينيلي تشاركانه تحية سريعة، قبل أن تسارعا باللحاق بلِيليانا التي عادت إلى غرفتها دون أن تنطق بكلمة.
عندما وصلت إلى الغرفة، رمت نفسها على السرير، ودفنت وجهها في الوسادة وهي تضرب بقدميها الهواء، لترسل حذاءها طائرًا إلى الجانب الآخر من الغرفة.
كانت نوبة غضبها غير مألوفة، حتى أن صوفيا ومينيلي تبادلتا نظرات مضطربة.
حاولت صوفيا تهدئتها قائلة برفق:
“جلالتكِ، لقد زالت القيود الآن، بإمكانك الخروج بحرية.”
وأيّدتها مينيلي بحماسة:
“نعم! الزهور الصيفية تزدهر في الحديقة، وستشعرين بتحسن عند رؤيتها.”
“أو يمكننا تناول بعض الكعك في الحديقة، الجو جميل دون وجود الحراس.”
بينما كانت تسمع ذلك، رفعت لِيليانا رأسها قليلًا وأطلقت تنهيدة عميقة.
ثم قالت بصوت نادم:
“آسفة… لرمي الوسادة. سأذهب وألتقطها.”
ابتسمت مينيلي بمرح وقالت ممازحة:
“الوسادة فقط؟ كان عليكِ على الأقل رمي كوب شاي!”
نظرت لِيليانا إلى مينيلي بدهشة خفيفة قبل أن تقول:
“هل تمزحين الآن؟”
هزّت مينيلي كتفيها وابتسمت:
“لم أكن أمزح تمامًا، فقد كانت سيدتي السابقة ترمي الأكواب أحيانًا، بل كانت ترميها عليّ.”
اتسعت عينا لِيليانا من الصدمة، وأشارت إلى ذراع مينيلي وقالت بدهشة:
“حقًا؟”
عندها، رفعت مينيلي كُمّها قليلًا لتكشف عن ندبة باهتة وقالت بابتسامة مرحة:
“انظري هنا، هذه واحدة من آثار ذلك.”
وضعت لِيليانا يدها على الندبة بحنان، وقالت بحزم:
“لن أسمح بحدوث شيء كهذا مجددًا. سأعتني بكِ جيدًا طالما بقينا معًا.”
ابتسمت مينيلي وأجابت:
“وأنا سأبقى بجانبكِ دائمًا، يا جلالتكِ.”
وفي هذه الأثناء، كانت صوفيا قد التقطت الوسادة وأعادتها إلى مكانها.
ثم قالت بابتسامة مشرقة:
“إذن، هل نخرج الآن؟ سأساعدكِ على ارتداء أجمل فستان!”
❈❈❈
ليليانا اعتنت بمظهرها بعد فترة طويلة، بمساعدة صوفي ومينيلي.
ارتدت ثوبًا أزرق فاتحًا وزيّنت شعرها بشريط مرصّع باللؤلؤ، مما جعل إطلالتها تبدو متألقة ومناسبة لأجواء الصيف.
بعدما أنهت تجهيزها، شعرت أن حالتها المزاجية تحسّنت، ونزلت من على الدرج بخطوات خفيفة. في الطابق الأول، انحنت إحدى الخادمات لتحيّيها. كانت ليليانا على وشك تجاهلها والمضي قدمًا، لكنها توقفت فجأة حين شعرت بشيء مريب.
“ألم تكن خادمة أخرى هي التي تقف هنا عادةً؟”
سألت ليليانا.
أجابت الخادمة بأدب:
“إذا كنتِ تقصدين تيري، فهي لم تظهر منذ الصباح. لذا كُلفتُ بأداء مهامها.”
قطّبت ليليانا حاجبيها وهي تكرر كلمات الخادمة في ذهنها.
“لم تظهر منذ الصباح؟ لكن القصر كان لا يزال تحت المُراقبة صباح اليوم.”
أومأت الخادمة برفق.
“تيري غالبًا ما تضل طريقها، فهي ليست بارعة في تذكر الممرات. أعتقد أنها ستعود قريبًا، وسأوبّخها عندما تعود.”
“إذا وجدتموها، أخبروني، حسنًا؟”
تركت ليليانا المكان دون أن تسأل المزيد.
عندما خرجت من القصر، لاحظت تغيّر ألوان الأزهار المنتشرة في حدائقه، لكنها لم تستمتع بجمالها المعتاد، إذ كان ذهنها مشغولًا بالحديث الذي دار للتو.
“مينيلي، أيمكنني أن أسألك شيئًا؟”
“بالطبع، يا صاحبة السمو.”
تردّدت ليليانا قبل أن تهز رأسها وتنصرف عن السؤال. لاحظت مينيلي ترددها وقالت بحذر:
“لن أخبر الإمبراطور بأي شيء.”
تنهّدت ليليانا وقد بدا عليها الارتياح.
“أشكركِ، مينيلي. هل تظنين أن اختفاء تيري أمر طبيعي؟ أعني، هي تعمل هنا يوميًا وتسير في نفس الممرات.”
أومأت مينيلي.
“لا يبدو الأمر طبيعيًا.”
اتسعت عينا ليليانا، وتنفّست بعمق وكأنها اكتشفت سرًّا مخبأً.
“ربما لم تكن تضل طريقها فعلًا. ماذا لو كانت تتجول في أنحاء القصر بحجة أنها تائهة؟”
والأغرب من ذلك، تزامن اختفاؤها مع مغادرة فرقة الفرسان التي كانت تحاصر القصر. بدا الأمر بعيدًا عن الصدفة.
“أظن أن تلك الخادمة هي التي وضعت السم في شرابي. والإمبراطور هو من أخذها بعيدًا ليحقق معها، ولهذا رفع الحصار.”
بدأت الأمور تتضح في ذهن ليليانا، لكنها لم تكن مستعدة للشكوى أو طلب عودة الخادمة. ما يهمها أكثر هو سبب احتجاز الإمبراطور لها. هل كانت له مصلحة خاصة في هذه القضية؟.
هزّت رأسها لتبعد أفكارها عن الإمبراطور.
كان عليها أن تركز على تقوية نفوذها بدلًا من التفكير في تصرفاته.
“مينيلي، أخبري هيسدين أن الوقت قد حان لاستئناف الدروس.”
عادةً، كانت دروس هيسدين تُعقد داخل القصر، لكن ليليانا أرادت التغيير، فأقنعته بعقد الدرس في الحديقة. ارتدت ملابس مريحة وتوجهت إلى الموقع المحدد.
عندما اقتربت، سمعت ضحكة أنثوية عالية ومليئة بالدلال. توقفت في مكانها وهي تشعر بالاستغراب.
“صوفيا، من تظنين أنها تضحك بهذا الشكل؟”
هزت صوفي رأسها.
“لم أسمع شيئًا، هل تتوهمين يا جلالتكِ؟”
رفعت ليليانا حاجبيها. كانت متأكدة من أنها سمعت الضحكة.
تذكرت أنها مرّت بتجربة مشابهة عندما التقت بـ “تشوتشو”.
أسرعت الخطى ودخلت الحديقة، لترى المشهد المفاجئ أمامها.
هيسدين، معلمها، كان مبللًا بالكامل! شعره وملابسه تقطر ماءً، بينما كان يحاول أن يستعيد هدوءه المعتاد.
“هيسدين! ما الذي حدث لك؟!”
نظر إليها، ورفع يده ليمنعها من الاقتراب.
“لا تقتربي، أنا مبتل.”
“لكن… كيف أصبحت على هذه الحال؟”
تردد قليلًا قبل أن يجيب بصوت مكتوم:
“لقد انزلقتُ في البحيرة القريبة.”
فغرت ليليانا فمها بذهول. كانت البحيرة هناك بالفعل، لكنها صغيرة وضحلة، مما جعل تفسيره يبدو غير معقول.
هل كان يلعب مع كائن مائي أو تعرض لمزاح قاسٍ؟ لم يكن هناك أثر لأي روح مائية حوله، لكنها لم تقتنع تمامًا.
“هل أنت متأكد من أنك انزلقت؟”
“نعم.”
أجاب بحزم، رغم أن يديه المرتبكتين وهما تبحثان عن نظارته المفقودة كشفتا عن شعوره بالإحراج.
تأملت ليليانا هذا الجانب المختلف من هيسدين، ولم تستطع منع نفسها من الابتسام. في النهاية، نادت الخدم ليجلبوا له ملابس جافة، لتتمكن من متابعة الدرس.
__________________________________________
• حسابي واتباد: Toro1312 !!⭐••
《لاتدع الرواية تشغلك عن العبادات》
ترجمة: ✧𝐀𝐌𝐘✧
التعليقات لهذا الفصل " 43"