داخل العربة التي كانت تعيدها إلى قصر الزمرد، عضَّت ليليانا على شفتها السفلى بكل ما أوتيت من قوة. لو لم تفعل ذلك، لأغرقت وجهها دموع لم تستطع كبحها.
لو كانت بمفردها، أو حتى لو كانت صوفيا هي من تجلس بجانبها الآن، لكانت أطلقت العنان لدموعها بلا تردد ولا اكتراث. لكنها، لسوء الحظ، كانت برفقة تيرنز.
ورغم محاولاتها المستميتة لتماسك نفسها، لم تستطع أن تمنع صورة وجه هيليو البارد وكلماته القاسية من التسلل إلى ذهنها. طريقة حديثه التي بدت وكأنها ترسم خطًا نهائيًا بينها وبينه كانت أشد قسوة من أي شيء رأته حتى في كوابيسها.
كانت غاضبة، محبطة، وتشعر بالظلم.
ألم يقل إنه سيتحمل مسؤوليتها؟
شهقت بصوت منخفض.
في النهاية، لم تستطع منع دموعها من الانهمار. أدارت رأسها بسرعة نحو النافذة حتى تخفي وجهها، لكنها لم تتمكن من كتم صوت شهقاتها المتقطعة.
كم كانت ضعيفة وعاجزة، حتى عن منع نفسها من البكاء. كانت تعلم أن تيرنز سيجدها مثيرة للشفقة، وهذا جعلها تشعر بالحرج أكثر.
“جلالة الملكة…”
“تـ… تحدث.”
ردت ليليانا بصوت مرتعش، بينما لا تزال تنظر بإصرار إلى الخارج، محاولة أن تبقي دموعها بعيدة عن الأنظار. كان صوتها مفعمًا بالدموع، لكنها بذلت كل ما في وسعها لتبدو قوية.
“تفضلي، هذا…”
امتدت يد تيرنز نحوها، مقدمةً لها منديلًا أبيضًا ناصعًا، مطرزًا بخيوط ذهبية على شكل ورود. بدا المنديل فاخرًا ومهندمًا.
نظرت ليليانا إلى المنديل بذهول قبل أن تأخذه تلقائيًا وتنقل نظرها إلى تيرنز. كان يبتسم بخجل، وكأن تعبيره يقول إنه لا يشكل أي تهديد.
“لا تقلقي، سأدير ظهري وأراقب الطريق فقط.”
استدار تيرنز بالفعل ليمنحها بعض الخصوصية.
لم تستطع ليليانا منع ضحكة صغيرة من الانفلات من بين شفتيها. كان تصرف تيرنز لطيفًا وعفويًا إلى حد لا يُحتمل.
نظرت نحوه بحذر، ثم مسحت دموعها سريعًا قبل أن تنفث أنفها بصوت منخفض في المنديل.
“سير تيرنز… سأغسل المنديل وأعيده إليك… أو بالأحرى سأشتري لك آخر جديدًا.”
ثم أضافت متلعثمة: “بعد أن تُرفع عني المراقبة، بالطبع.”
هز تيرنز رأسه بسرعة دون أن ينظر إليها.
“لا داعي لذلك، جلالتك. على أي حال، من واجب أي رجل نبيل أن يحتفظ بمنديل إضافي ليقدمه للسيدات.”
ضحكت ليليانا من جديد.
“يبدو أنك رجل نبيل بالفعل، سير تيرنز.”
أدارت نظرها نحو الخارج، لكنها شعرت بأن العبء الثقيل الذي كان يخنقها قد أصبح أخف.
❈❈❈
داخل مكتب الإمبراطور، كان الصمت سيد المكان.
لم يكن هيليو من النوع الذي يستمتع بالضوضاء، لكنه لم يكن كذلك شخصًا متذمرًا أو شديد الحساسية تجاه الأصوات الخافتة. ورغم ذلك، كان الجو في الآونة الأخيرة مشحونًا إلى درجة أن خدم القصر كانوا يحرصون حتى على كتم أنفاسهم.
تيرنز كان من القلائل الذين تجرؤوا على التحدث إلى الإمبراطور عندما بدا في حالة مزاجية سيئة.
وحين لاحظ تيرنز أن هيليو قد توقف عن الكتابة وأرخى قلمه قليلًا، انتهز الفرصة لفتح موضوع بدا شائكًا.
“جلالة الإمبراطور، الملكة… بكت.”
توقف هيليو عن الحركة تمامًا، مستندًا إلى ظهر الكرسي. كان يحدق في الفراغ بنظرة قاتمة جعلت الخدم من حوله يتجمدون في أماكنهم.
رمقه رئيس الخدم بنظرة تحذيرية، كما لو كان يأمره بالصمت، لكن تيرنز تجاهلها واستمر:
“تبدو مستاءة منك، جلالتك.”
ضرب هيليو المكتب بيده بقوة أثارت ارتعاش من كان في الغرفة.
“سيكون لديها العديد من الأسباب للغضب في المستقبل أيضًا.”
كانت كلماته تعني:
“لا تأتِ لإخباري بأمور كهذه في كل مرة.”
نظريًا، كان محقًا.
ليليانا، رغم لقبها كملكة، لم تكن أكثر من محظية له، والإمبراطور لم يكن ملزمًا بمواساتها عندما تبكي.
لكن تيرنز لم يُخفِ استياءه.
“في هذه الحالة، لمَ أظهرت لها اللطف من البداية؟ المسكينة، لقد علّقت آمالها عليك…”
بينما كان تيرنز غارقًا في أفكاره المشاكسة تلك، كان هيليو يحدق في الأوراق المتراكمة على مكتبه، دون أن ينبس ببنت شفة.
“تيرنز.”
نادى هيليو بصوت خافت، مما جعل تيرنز يقف دون أن يشعر بشيء غير عادي.
“هل أعطيت الملكة منديلًا؟”
كان تيرنز يعرف هيليو منذ أن كان مجرد ولي عهد، وهيليو بدوره كان يعلم أن تيرنز لم يكن يتحمّل رؤية امرأة تبكي دون أن يعرض عليها منديله ليواسيها.
لكن تيرنز لم يكن مغفّلًا، فأجاب فورًا:
“لا.”
“حقًا؟”
تنفّس تيرنز بارتياح داخلي. لو قال الحقيقة، ما كان ليعرف ما قد يحدث بعدها. لحسن الحظ، لم يتغير وجه هيليو الذي ظل هادئًا كعادته.
وبدون مقدمات، بدأ هيليو في تقليب بعض الأوراق فوق مكتبه، قبل أن ينهض فجأة.
تيرنز نظر إليه بارتباك.
ثم أمسك هيليو ثلاثة أكوام ضخمة من الوثائق ووضعها فوق كومة الملفات التي كان يحملها تيرنز.
“تأكد من إنهائها بحلول صباح الغد.”
ظل هيليو محافظًا على وجهه الخالي من المشاعر، لكن تيرنز أدرك الحقيقة.
“آه… لقد كشف أمري.”
كان متأكدًا من أن كذبه كان سريعًا وطبيعيًا، لكن هيليو استطاع كشفه بسهولة.
تنهد تيرنز بحزن وهو يحدّق في الأكوام الضخمة فوق يديه، ثم قال متوسلًا:
“جلالتك، كنت فقط أحاول مواساتها…”
قاطعه هيليو ببرود:
“و من قال إنني مهتم؟ الآن، أنجز عملك.”
حاول تيرنز التحديق فيه بأسى، لكن هيليو لم يظهر أي رحمة.
تيرنز تمتم في داخله:
‘ يالك من طاغية وغد ‘
وهو يسير بخطوات ثقيلة نحو الباب.
لكنه لم يستطع كبح غضبه، فاستدار فجأة وصرخ:
“لماذا تلومني على عدم قدرتك على أن تكون صريحًا مع نفسك؟!”
كان صوته عاليًا لدرجة أن هيليو رفع حاجبيه قليلًا، لكن قبل أن يتمكن من الرد، فرّ تيرنز من المكان بأسرع ما يمكن.
اعتادت الخادمات على هذا المشهد المتكرر، فاكتفين بإخفاء ابتساماتهن دون أن يُبدين أي اندهاش.
مرّر هيليو يده على جبينه كما لو كان متعبًا، ثم سار نحو النافذة.
نظر إلى الأسفل فرأى تيرنز وهو يكافح لنقل أكوام الأوراق، لكنه لم يهتم كثيرًا بذلك.
بدلاً من ذلك، وجّه بصره بعيدًا، نحو الأفق البعيد. تطلّعت عيناه إلى برج رفيع يخص قصر الزمرد.
من هذه المسافة، لم يكن يرى شيئًا سوى ذلك البرج، لكنه ظل يحدّق فيه كما لو كان يشاهد شيئًا أكثر أهمية.
همس بصوت منخفض أشبه بالكلمات التي يقولها لنفسه:
“يجب أن أعطيها ما تستحقه…”
رغم ذلك، بقي في مكانه عند النافذة لفترة أطول، وكأن قدميه تأبى التحرك.
❈❈❈
كانت الرياح تتلاعب بين أصابع ليليانا، تلتفّ كخيط حريري رفيع. أغلقت ليليانا عينيها وركّزت قليلًا، ثم وجّهت الرياح برفق نحو هدف بعيد.
حين أحسّت بأن الهواء بدأ يسلك الطريق الذي رسمته له، ارتسمت على وجهها ابتسامة طفولية مفعمة بالمرح.
أشارت بيدها إلى صوفيا، التي أسرعت لتقف بجانبها بفضول ظاهر.
قالت ليليانا وهي تشير نحو أحد الحراس خارج النافذة:
“شاهدي هذا.”
بدأت الرياح التي سيطرت عليها ليليانا تسير بخفّة نحو الحارس. بدا الحارس مرتاحًا وكأن النسيم يروق له، لكن بعد لحظات، بدأت الرياح تلامس أنفه.
فجأة، عطس الحارس بصوت عالٍ!.
قال له زميله بغضب:
“ما الذي تفعله؟”
ربّت الحارس على أنفه وهو يشعر بالإحراج وقال باعتذار:
“آسف، يبدو أنه مجرد غبار.”
قهقهت ليليانا وصوفيا إلى الخلف تحت النافذة وهما تضحكان بخفوت.
قالت صوفيا بإعجاب:
“أنتِ مذهلة، يا صاحبة السمو!”
ضحكت ليليانا وقالت مازحة:
“لأنني جعلته يعطس؟”
أجابت صوفيا وهي تحاول كتم ضحكتها:
“لا، بل لأنك تبدين وكأنك أصبحتِ ساحرة بارعة بحق!”
ابتسمت ليليانا، وسرعان ما شعرت بالثقة في قدراتها المتزايدة. لقد أمضت الأيام الماضية في تعلم مهارات التحكم بالريح وقراءة الكتب عن فنون الروحانيات.
همست لرفيقتها الروحية “تشوتشو”، التي كانت تجلس بجانبها على النافذة:
“ماذا تعتقدين يا تشوتشو؟ أليس هذا رائعًا؟”
قفزت تشوتشو بسعادة، وهي تقول:
“أنتِ الأفضل، ليلي! لم أرَ من يستخدم الرياح للعبث بهذا الإبداع!”
أخذت ليليانا تداعب رأس تشوتشو بإصبعها مبتسمة.
تذكرت ليليانا الليلة التي عادت فيها بعد لقائها الأخير مع هيليو. كانت قد أمضت ساعات طويلة تحت الأغطية، غارقة في الحزن، ترفض الطعام والكلام مع أحد. لكن عندما بزغت شمس الصباح، نهضت وكأن شيئًا لم يحدث، مصممة على المضي قدمًا وعدم الاستسلام.
والآن، قررت أن تصبح أقوى وتفعل ما بوسعها.
لم يقطع تركيزها إلا ظهور شخص مألوف في الباحة الخارجية.
حدّقت فيه ليليانا وقالت بدهشة:
“السير تيرنز؟”
__________________________________________
• حسابي واتباد: Toro1312 !!⭐•
《لاتدع الرواية تشغلك عن العبادات》
ترجمة: ✧𝐀𝐌𝐘✧
التعليقات لهذا الفصل " 42"