ميـنِـلـي أزالت الابتسامة الخفيفة التي كانت تعلو شفتيها وأجابت بأدب:
“أمرني جلالة الإمبراطور بمراقبة صاحبة الجلالة الملكة، ولكنه كذلك أمرني بأن أخدمها بأقصى إخلاص. إلا أنه وقعت مؤخرًا محاولة تسميم، وأشعر أنني كنت متقاعسة لدرجة أنني لم أتمكن من منع حدوث ذلك.”
“هذا ليس لأنك كنت متقاعسة يا مينِلي، بل لأن خصمنا كان شديد الدهاء.”
بعد أن استمعت مينِلي إلى كلمات ليليانا، هزّت رأسها بخفة وكأنها لا توافقها الرأي.
“السيدة المشرفة على الخدم مسؤولة عن إدارة القصر وحمايته. لقد أخفقت في أداء واجبي، لذا أستحق العقاب. ولكن بما أن جلالتكِ وجلالة الإمبراطور لم تفرضا عليّ أي عقوبة، رأيت أنه لا سبيل أمامي سوى التكفير عن ذنبي بطريقتي الخاصة.”
شعرت ليليانا وكأن أنفاسها قد توقفت للحظة أثناء استماعها لكلمات مينِلي. تُرى، هل يمكن للمرء أن يكون صارمًا إلى هذا الحد؟.
فمحاولة التسميم تلك كانت من المؤكد أمرًا يصعب على أي شخص أن يوقفه. ومع ذلك، بدا أن مينِلي كانت تعاني بسبب هذا الأمر طوال الوقت.
“أرغب في تقديم المساعدة لجلالتكِ، ما دامت هذه المساعدة لا تسيء إلى مقام جلالة الإمبراطور.”
أطلقت ليليانا زفرة طويلة، غير واثقة مما إن كانت مينِلي تخفي أي خداع في كلامها.
لو كانت تسعى لتضليلها بكلام منمق، لقالت لها مثلاً إنها تهتم بأوامرها أكثر من أوامر الإمبراطور. ولكن مينِلي لم تفعل ذلك، بل ظلت تعترف بكونها من أتباع الإمبراطور.
قررت ليليانا أن تمنح مينِلي ثقتها هذه المرة.
“أريد أن أعالج هذا الأمر دون أن يصل إلى مسامع جلالة الإمبراطور. هل يمكنك مساعدتي؟”
“نعم، جلالتكِ. جلالة الإمبراطور يرغب في أن تحيط بكِ شخصيات يمكن الوثوق بها، لذا لن يكون هذا الطلب مخالفًا لرغباته.”
أومأت ليليانا برأسها، وقد اتخذت قرارًا نهائيًا بتسليم الرسالة إلى مينِلي.
وكما كان متوقعًا، قامت مينِلي بتنفيذ المهمة على أكمل وجه، ليس فقط بإيصال الرسالة، بل أيضًا بإحضار الرد بسلامة.
إلى جلالة الملكة:
[لا توجد حتى الآن أي شائعات سيئة بحقك. على العكس، يرى الكثيرون أن دوق غابرييل هو المدبّر الحقيقي لهذه المكيدة، ولكن بما أن نفوذه بالغ القوة، يتجنب الجميع الخوض في الحديث عنه. دون أدلة دامغة، سيكون من الصعب اتخاذ خطوات حاسمة ضده.
أما بالنسبة لعائلة ماركيز ريستون، فمن الممكن أن أرتّب لقاءً بينك وبينهم. ولكن نظرًا لكونهم قد اعتزلوا الحياة العامة منذ فترة طويلة وتخلوا عن أراضيهم للإمبراطورية، لست متأكدًا إن كانوا سيكونون عونًا حقيقيًا لكِ. إن رأيت غير ذلك وأردت المتابعة، سأكون بانتظار أوامرك.
أما بشأن إيجاد مستدعي الأرواح الماهر الذي طلبتيه، فالأمر يستغرق بعض الوقت نظرًا لصعوبة العثور على شخص ماهر بما يكفي ويمكنه التحرك بسرّية. سأبذل جهدي وأتواصل معكِ قريبًا.
ملاحظة: اتمنى أن تتحسن صحتكِ سريعًا.]
أعرب بايل عن قلقه من أن ماركيز ريستون وعائلته قد لا يقدمون الكثير من الفائدة.
أخرجت ليليانا بروشًا كان قد أُرسل إليها من عائلة ريستون. بدا نظيفًا ومصانًا جيدًا، لكنه لم يكن بروشًا جديدًا.
لو كان الغرض من إرسال البروش مجرد كسب ودّها، لأرسلوا بروشًا حديثًا أو أرفقوا رسالة تشرح قيمة البروش القديمة. ولكن بدا وكأن هدفهم إثارة فضولها.
قررت ليليانا أن لقاء عائلة ريستون مرة واحدة لن يضرّ. ولكي تتمكن من ذلك، كان عليها أولاً أن تجد وسيلة لتخفيف المراقبة المفروضة على قصر الزمرد.
ولتحقيق هذا الهدف، كانت تعرف جيدًا الشخص الذي يتعين عليها مقابلته: الإمبراطور هِيليو، الذي أمر بحبسها هنا ولم يكلف نفسه حتى عناء زيارتها منذ ذلك الحين.
“مينِلي.”
“نعم، جلالتك.”
“أريد أن أقابل جلالة الإمبراطور.”
انحنت مينِلي برأسها قبل أن تنسحب بهدوء. كانت ستتكفل بإرسال الرسالة إلى الإمبراطور هِيليو.
تُركت ليليانا وحدها في الغرفة، وبلا وعي أخذت تَعَض على أظافرها. مجرد التفكير في لقائها المنتظر مع هِيليو كان كفيلاً بإثارة توترها.
❈❈❈
وكما كان متوقعًا، لم تتأخر مينِلي في أداء مهمتها.
مع شروق شمس اليوم التالي، وصل تيرنز، السكرتير الشخصي لهِيليو، يقود عربة إلى قصر الزمرد.
“جلالة الإمبراطور أمر بإحضارك.”
أومأت ليليانا برأسها وركبت العربة، ترافقها مينِلي وصوفي.
لكن تيرنز أوقفهما بحذر وقال:
“الأمر كان بإحضار جلالة الملكة وحدها.”
رفعت صوفيا حاجبها وسألته بجسارة:
“ومن سيتولى خدمة جلالة الملكة؟”
“لا داعي للقلق. سيكون جلالة الإمبراطور وخادمات القصر الملكي على استعداد لخدمتها.”
امتلأت عينا صوفيا بالاحتجاج، لكنها لم تستطع الاعتراض عندما قال تيرنز بجدية:
“إنها أوامر ملكية.”
كتمت صوفيا اعتراضها خشية أن تتسبب في عقاب سيدتها.
طمأنتها ليليانا بابتسامة هادئة قبل أن تستقل العربة وحدها وتغادر نحو لقاء كان يحمل في طيّاته رهبة لا توصف.
حين فكّرت في الأمر، أدركت أن هيليو كان دائمًا هو من يأتي لمقابلة لِيليانا، لذا كان الطريق المؤدي إلى القصر الإمبراطوري يبدو غريبًا جدًا بالنسبة لها. وبينما كانت تتجه إلى هناك، لفت انتباهها رؤية بعض القصور على طول الطريق، إذ كان قصر الزمرد يقع بعيدًا نوعًا ما.
أبرز ما شد انتباهها كان بالطبع قصر الإمبراطورة وقصر آريس.
قصر آريس كان الأقرب إلى القصر الإمبراطوري بعد قصر الإمبراطورة، وهو القصر الذي وهبه هيليو إلى ابنته الصغيرة المحبوبة في القصة الأصلية.
ومع ذلك، لم يكن قصر آريس يبدو جميلًا في نظر لِيليانا الآن. ورغم عراقة تاريخه، كان فيه لمسات قديمة تفتقر إلى الجمال العصري.
في الرواية الأصلية، يعيد هيليو بناء القصر لأنه لم يكن يحتمل بُعد ابنته عنه، ولم يكن يريدها أن تعيش في قصر بمظهر متواضع.
“أبٌ مُغرم بابنته بشكل مفرط…”
تمتمت لِيليانا وهي تزم شفتيها.
كادت أن تقول له:
“أنا الأم التي ستلد لك تلك الابنة التي تحبها إلى هذا الحد!”
لكنها كتمت كلماتها، لأن ذلك كان سيُحطّم الصورة التي تعبت في بنائها، صورة المرأة الذكية التي لا تبدو كذلك للوهلة الأولى.
“لقد وصلنا يا صاحبة السمو.”
تبعًا لتوجيهات تيرنز، دخلت لِيليانا القصر الإمبراطوري. لم يعترضها الحراس، إذ يبدو أنهم كانوا قد أُبلغوا مسبقًا، بينما تولّت مجموعة من خادمات القصر الإمبراطوري مرافقتها باحترام شديد، كما ذكر تيرنز.
لكن الغريب أنهنّ لم يقدنها إلى غرفة الاستقبال أو إلى جناح النوم، بل إلى مكتب الإمبراطور مباشرة.
شعرت لِيليانا بنذير شؤم، لكنها وقفت باستقامة وتقدمت إلى داخل المكتب كما علّمها هيسدين.
“أحيي جلالة الإمبراطور.”
بعد أن أدّت التحية، بدأت في عدّ الثواني بصمت قبل أن ترفع جسدها ببطء. أمامها كان مكتب كبير وفخم يجلس وراءه هيليو، منشغلًا بالعمل كما يبدو.
رغم دخول لِيليانا، لم يتوقف هيليو عن الكتابة. كانت عيناه دائمًا تتابعانها بنظرات حادة تجعلها تشعر وكأنها تحترق تحتها، لكن هذه المرة بدا وكأنه لا يراها أصلًا.
بلعت ريقها، ثم قالت بتردد:
“لدي ما أريد قوله لجلالتك.”
أجاب هيليو بنبرة باردة ودون أن يرفع رأسه:
“أنا مشغول بالعمل، اختصري ما تريدين.”
تجمدت لِيليانا في مكانها، وكأنها صندوق موسيقى عالق. لم يكن صوته باردًا وحسب، بل كان خاليًا تمامًا من أي اهتمام.
لم تستطع أن تستشف أي شيء من كلماته أو تعابيره، ولا أن تميّز مشاعره أو أفكاره.
‘ لماذا أنا متفاجئة؟ كان عليّ أن أتوقع هذا.’
تشبّثت لِيليانا بأطراف فستانها ثم وضعت يديها المتشابكتين عند خصرها بهدوء، محاولة الحفاظ على تماسكها. بعد أن أخذت نفسًا عميقًا، قالت بصوت ثابت:
“أود أن تطلق عني المراقبة.”
لم يرفع هيليو رأسه، لكنه سأل بصوت هادئ:
“لأنك تريدين مقابلة غابرييل وماركيز ريستون ؟”
اتسعت عينا لِيليانا قليلًا، لكنها استرجعت رباطة جأشها بسرعة. لم يكن من الصعب أن تتذكر أنها كانت تتحدث مع إمبراطور كارلو.
“إذاً، أنت على علم بذلك.”
“وأنتِ لا تبدين متفاجئة. أعتقد أنك كنت تعلمين أن مينلي هي من تراقبك، لكنني لم أكن أظن أنكِ ستطلبين مساعدتها.”
تجهمت لِيليانا قليلًا، ثم قالت بامتعاض:
“لماذا تحاول التشكيك في مينلي؟ أنا لا أظن أنها المسؤولة. قصر الزمرد يعجّ بعيون جلالتك ، وربما تكون مجرد واحدة منهن.”
حينها فقط، أنزل هيليو قلمه ورفع رأسه. كان تحركه رشيقًا ومثيرًا للدهشة، إلى درجة جعلت لِيليانا تشعر للحظة بأنها تفقد أنفاسها تحت وقع تلك الأناقة الصارخة.
ضغطت أكثر على يديها المتشابكتين، ليس لأنها تريد أن تتغلب عليه، بل لأنها لم ترغب في الظهور بمظهر الضعيفة أمامه ، رغم أن ذلك كان مجرد أمل سخيف.
“أحيانًا أنسى أنكِ ذكية.”
“لست ذكية.”
قالت تلك الكلمات بنبرة واثقة.
“لأنني لا أعرف حتى لماذا وضعتني في قصر الزمرد.”
احتاجت إلى شجاعة كبيرة لتطرح ذلك السؤال، لكن هيليو لم يمنحها أي إجابة.
كانت تلك اللحظة أكثر إحباطًا من لحظة سجنها في القصر، لأنها كانت تتوقع تفسيرًا أو مبررًا، بينما اكتشفت الآن أنها لم تكن سوى حمقاء تأمل في شيء مستحيل.
لكن الأسوأ من ذلك هو أنها كانت لا تزال تملك بصيص أمل.
“كنت أعتقد أننا أصبحنا قريبين.”
“وهذا صحيح.”
أجاب هيليو على الفور، دون تردد، لكن كلماته لم تكن تبعث على الاطمئنان.
“على الأقل لدرجة أنكِ تستطيعين قول ذلك والخروج من هنا بأمان.”
شعرت لِيليانا وكأن شخصًا ضربها بقوة على صدرها.
كان هيليو قد اعتاد أن يتغاضى عن سلوكها غير الرسمي، لكنه الآن كان يعاقبها بشكل ضمني على تجاوزها الحدودها.
دون وعي، بدأت لِيليانا بقضم ظفر إبهامها الأيسر بعصبية، مما لفت نظر هيليو للحظة، قبل أن يعيد عينيه إلى وجهها.
كانت لا تزال غافلة عمّا تفعله.
“هل تعرف؟”
بدت وكأنها تتحدث إلى نفسها، بصوت ضعيف وشارِد.
“الجميع يقول لي إنك ستتخلى عني في النهاية، وإنني لا يجب أن أضع ثقتي بك.”
تابعت بصوت أجوف:
“وأنا أوافقهم.”
ثم سُمِع صوت طقطقة صغيرة عندما انكسر ظفرها أخيرًا، لكنها لم تشعر بالألم واستمرت في حديثها بصوت خافت:
“لم أظن أن ذلك اليوم سيأتي بهذه السرعة.”
التفتت نحو الباب وقالت بصوت خفيض:
“سأغادر الآن.”
ثم خرجت دون أن تكمل انحناءتها أو تنتظر ردًا.
بقي هيليو يحدق في مكانها الفارغ بصمت، بينما كانت الأصوات تأتي من وراء الباب؛ صوت تيرنز وهو يلحق بها بدهشة، وصوت خادمات يهرعن خلفها بقلق.
مع ذلك، كان ما يتردد في ذهنه هو ابتسامتها الواسعة وتوترها وهي تقضم أظافرها بجنون.
“تظنين أنني سأترككِ؟”
ضغط على جبينه وكأنه يعاني من صداع مزعج، وهمس بمرارة:
“أتمنى لو كان ذلك ممكنًا.”
__________________________________________
• حسابي واتباد: Toro1312 !!⭐•
《لاتدع الرواية تشغلك عن العبادات》
ترجمة: ✧𝐀𝐌𝐘✧
التعليقات لهذا الفصل " 41"