“لقد أُغمي على الملكة لِيليانا.”
انتشر هذا الخبر بسرعة في أرجاء القصر الإمبراطوري، وبدأ العاملون في القصر يتهامسون حول السبب.
ادّعى البعض أن السبب هو أن دوق غابرييل قد ضغط عليها كثيرًا حتى أصبحت عاجزة. وذهب آخرون إلى القول بأن مملكة نييتا قد أرسلت عمدًا أميرة تعاني من خلل صحي.
بينما تساءل البعض الآخر في سرهم عمّا إذا كان الأمر يتعلق بتسميم متعمد.
في قلب كل هذه الشائعات، داخل قصر الزمرد، كان طبيب القصر يقف بوجه شاحب.
“لقد كان تسممًا. تم الكشف عن كمية ضئيلة من السم في آخر كوب شاي تناولته جلالة الملكة.”
كان الشخص الذي يتلقى التقرير هو هيليو. كان واقفًا بجانب السرير ويداه متشابكتان خلف ظهره، يتأمل وجه لِيليانا.
منذ أن تقيأت لِيليانا الدم، أصبحت وجنتاها شاحبتين بسرعة. لم تكن تتحرك إلا بإصدار أنين خفيف أو ارتعاش طفيف في جفنيها بين الحين والآخر.
“ما نوع السم؟”
سأل هيليو بنبرة باردة خالية من الانفعال، فارتجف الطبيب قليلًا لكنه أسرع بالإجابة.
“إنه عصير فطر سام يُدعى هيبيلينوس. يتمتع بسمّية عالية، لكن لحسن الحظ، نظرًا لأن جلالة الملكة تناولت كمية صغيرة جدًا منه، فمن المحتمل ألا تكون هناك تهديدات خطيرة على حياتها.”
“هل يمكن علاجها؟”
“بالطبع، جلالتك.”
كان مساعد الطبيب قد أعد بالفعل الترياق وملأ به وعاءً صغيرًا. ظل هيليو يراقب بصمت بينما كان الطبيب يُعطي لِيليانا الترياق.
رغم توتر الطبيب الشديد وارتجاف يديه، تمكّن من إعطائها الدواء دون أن يُسقط منه قطرة واحدة.
“إذا تناولت جلالتها الجرعة المحددة من هذا الترياق كل صباح، فسوف تتخلص تمامًا من السم.”
أومأ هيليو برأسه، بينما لم تتغير نظراته التي كانت موجهة نحو لِيليانا.
كانت عيناه الزرقاوان، اللتان عادة ما تشتعلان كالنار، تبدوان الآن مظلمتين كالجليد في أعماق كهف، تنبعث منهما برودة تثير القلق في النفوس.
تمنى الطبيب لو يتمكن من مغادرة المكان على الفور.
“لماذا لا تشرح لي المزيد عن هذا السم؟”
لكن بدا أن هيليو لم يكن ينوي السماح للطبيب بالمغادرة. وقف الطبيب محنيًا رأسه، ويداه متشابكتان ، وشفاهه ترتعش قليلاً.
“في الواقع، هناك أمر غريب أثار دهشتي. فالفطر السام هيبيلينوس نادر جدًا في الإمبراطورية، ولا يُستخدم حتى في الأغراض العلاجية، لذا لا يتم تداوله تجاريًا.”
عندما استمع هيليو إلى تلك الكلمات، ارتسمت على شفتيه ابتسامة ملتوية.
لم يصدر أي صوت، لكن الجو المحيط به أصبح مشحونًا إلى درجة أن الجميع خفضوا رؤوسهم بتوتر.
“إذا فقد جاء من مملكة نييتا.”
“ه.. هذا…”
“أخطأت؟”
“لـ… لا، صحيح، ياجلالتك!”
أجاب الطبيب بسرعة، لكن عينيه كانتا مليئتين بالدهشة. فالفطر السام هيبيلينوس نادر للغاية، ولا يعرفه سوى أولئك الذين يعملون في المجال الطبي.
ينمو في أماكن محدودة جدًا، حتى إن الكثير من العلماء لم يتمكنوا من دراسته لأنه يوجد فقط في المناطق النائية من مملكة نييتا.
لكن كيف عرف هيليو ذلك؟
بالطبع، لم يقدم هيليو أي تفسير. نظر إلى جانب السرير، حيث كانت وصيفة تُدعى صوفيا تعتني بلِيليانا طوال الوقت.
“أنتِ الوصيفة التي ترافق الملكة دائمًا، أليس كذلك؟”
قبضت صوفيا على المنشفة التي كانت تحملها، لكنها لم تتردد وأومأت برأسها على الفور.
“نعم، يا جلالتك.”
“هل أنتِ من أعدّتِ الشاي الذي شربته الملكة في الفجر؟”
“نعم، يا جلالتك.”
“إذاً الجميع يعلم أن هذا الشاي من صنعكِ، فلا يمكن أن تكوني قد أضفتِ السم بغباء. هل لاحظتِ أي شيء غير عادي؟”
فكرت صوفيا للحظات ثم أجابت:
“هذا الشاي كان هدية من الكونت راكل لجلالتها.”
ابتسم هيليو ابتسامة جافة وكأنها سخرية مكتومة.
“كما توقعت.”
رغم أن هيليو كان يتحدث إلى نفسه، إلا أن هدوء الغرفة جعل كل من فيها يسمع كلماته بوضوح.
ثم أخذ يتأمل من حوله ببطء وكأنه يطبع في ذهنه وجوه الموجودين واحدًا تلو الآخر، قبل أن يصدر أوامره إلى كبير خدمه.
“اعتبارًا من الآن، لا يُسمح لأي شخص في قصر الزمرد بالخروج منه. ساتولى الفرقة الثالثة من حراس القصر مراقبة القصر، ولن يُسمح بنقل أي أغراض إلا تحت إشرافهم.”
كان من المفترض، بناءً على الأدلة المتوفرة، أن يوجه الحراس أنظارهم إلى قصر الكونت راكل، إذ كان هو المشتبه به الرئيسي.
لكن هيليو قرر أن يعزل قصر الزمرد تمامًا، وهو قرار بدا غريبًا.
“أمرك، يا جلالتك.”
لكن لم يجرؤ أحد على مناقشة أوامره. غادر كبير الخدم الغرفة لتنفيذ تعليماته، وأمر الفرقة الثالثة من الحراس بمراقبة القصر.
“اخرجوا جميعًا.”
لم يكتفِ هيليو بذلك، بل أمر بإخراج كل من كان في الغرفة. ترددت صوفيا للحظة، لكن كبيرة الوصيفات أمسكت بيدها وسحبتها إلى الخارج.
وهكذا، لم يبقَ في الغرفة سوى هيليو ولِيليانا.
راقب هيليو ضوء الشموع المتراقص للحظات قبل أن يجلس بالقرب من لِيليانا.
كانت عيناها الورديتان اللتان اعتادتا على النظر إليه بارتباك مغمضتين الآن خلف جفون شاحبة.
“عائلة دوق غابرييل تبدو أكثر ارتباكًا مما توقعت. استخدام السم ضد فرد من العائلة الإمبراطورية قد يرتد عليهم في النهاية.”
لم يكن الكونت راكل أحمق.
لو كان هو الجاني، لما وضع السم في الشاي الذي أهداه بنفسه إلى الإمبراطورة.
إذن، كان هذا بلا شك مكيدة تهدف إلى منع لِيليانا من الحصول على دعم الكونت راكل.
قد تمكنت بالكاد من الاستحواذ على سلاح واحد، ولا يمكنها السماح بخسارته بهذه السهولة. كان لا بد من سدّ كل الشائعات التي قد تنتشر خارجًا، والعثور على الجاني الذي دسّ السم في أوراق الشاي.
كان من الجيد لو استطاع خلال التحقيق انتزاع اعتراف يحمل اسم دوق غابرييل، لكن هذا لن يحدث على الأرجح. ومع ذلك، لو أمكنه إغلاق فمها، لكان بإمكانها الإعلان أن الأمر مجرد إجهاد بسيط، وليس بسبب السم.
بهذا، لن يتحمل الكونت راكل أي اتهام باطل. وعلاوة على ذلك، سيكون من الطبيعي أن يقع اللوم على دوق غابرييل، الذي حاصر لِيليانا في زاوية حرجة أثناء المنافسة.
“هل هذا كل شيء فقط؟”
أطلق هيليو ضحكة ساخرة.
“لقد تحركت من أجلك، لكن دوق غابرييل يتجول سالمًا وأنت ترقدين هنا وكأنك جثة.”
كان هيليو شخصًا يرسم الخطط الكبيرة، ولِيليانا لم تكن سوى قطعة صغيرة من هذه الصورة الكاملة.
غيابها قد يشكل عقبة، لكنه لن يعرقل الصورة التي يسعى هيليو إلى إكمالها.
بل، حتى لو ماتت الآن، لن يكون لذلك تأثير يُذكر على اللوحة النهائية.
لكن…
مد هيليو يده ليلامس وجنة لِيليانا.
ورغم برودة ملامحه، كانت لمسته في غاية الحذر.
بينما مرّت أنامله عبر وجنتها المستديرة وصولًا إلى فكها الصغير، أدرك فجأة أن يده ترتعش برفق.
“ما هذا…؟”
تراجع هيليو فجأة وكأنه احترق، ثم تأمل يده المرتجفة بذهول.
هل كان خائفًا؟ بدا الأمر كأنه شيء خارج عن طبيعته تمامًا.
مسح على شعره بوجه مرتبك، وبدأت خصلات شعره الذهبي تتدلى عبر أصابعه، مغطية حاجبيه الحادين.
“لا يجب أن أسمح لنفسي بأن أمنح لِيليانا اهتمامًا أكثر من هذا.”
كما تصبح الحيوانات أكثر حساسية عند شعورها بالخطر، شعر هيليو أن حواسه كلها باتت متيقظة بشكل حاد.
وبدت المرأة الصغيرة النائمة أمامه وكأنها مصدر للخطر في تلك اللحظة. فنهض بسرعة وغادر السرير.
لكن، وقبل أن يغادر الغرفة، التفت لا شعوريًا نحوها كما ينجذب المدّ نحو القمر.
بقي ينظر إلى شعر لِيليانا الوردي، المرتب بعناية وكأنها دمية، قبل أن يتخذ قراره ويخرج من الغرفة كمن يقطع حبلًا خفيًا يربطه بها.
❈❈❈
عندما استعادت لِيليانا وعيها، كانت الشمس قد دارت دورة كاملة وعاد الليل ليبسط ستاره. كانت الغرفة هادئة جدًا.
كان طبيب القصر قد أتمّ علاجه وغادر، بينما كانت رئيسة الوصيفات مشغولة بضبط أمور الخدم، لذا لم يكن في الغرفة سوى لِيليانا وصوفيا، التي كانت تغفو على طرف السرير.
شعرت لِيليانا بغرابة مألوفة في المشهد. صحيح أن قصر الزمرد كان هادئًا نسبيًا، لكن هيليو كان قد أرسل العديد من الخادمات لخدمتها، لذا كان نادرًا أن تبقى هي وصوفيا وحدهما.
ومع ذلك، كان هذا الهدوء الموحش مألوفًا وكأنها اعتادت عليه يوميًا.
فجأة، اجتاحها إحساس بالوحدة وكأنها تخنق أنفاسها. رغبت في الهرب والصراخ بجنون، وفي ذات الوقت تمنت لو أنها تختفي تمامًا من هذا العالم.
“جلالتكِ! جلالتكِ!”
صرخت صوفيا وكأنها رأت شبحًا، لتعيد لِيليانا إلى الواقع.
كانت صوفيا قد اقتربت منها واحتضنت كتفيها وظهرها بحذر.
نظرت لِيليانا إلى صوفيا بعينين مرهقتين، فرأت في عينيها ارتياحًا عابرًا.
“جلالتك، هل تجدين صعوبة في التنفس؟”
“ماذا…؟”
عندها فقط أدركت لِيليانا أنها كانت تلهث بشدة.
“سأستدعي طبيب القصر حالًا! إنه قريب، أرجوكِ انتظري قليلًا!”
“لا، أنا…”
حاولت أن تقول إنها بخير الآن، وإنها لا تعرف حتى لماذا شعرت بذلك قبل قليل، لكنها لم تتمكن من إيقاف صوفيا التي هرعت مسرعة إلى الخارج.
وجدت لِيليانا نفسها وحيدة، وبدأت تفهم تدريجيًا ما يحدث.
تذكرت أنها لم تستطع النوم في الفجر، فقررت شرب الشاي، ثم لم يمض وقت طويل حتى تقيأت دمًا. يبدو أن السم كان في الشاي، ولهذا تم استدعاء طبيب القصر.
نهضت ببطء، رغم ضعفها، لكنها استطاعت الوقوف.
تقدمت نحو النافذة المضيئة بضوء القمر، ولاحظت أن حرس القصر الإمبراطوري يحيطون بقصر الزمرد.
عندما عادت صوفيا ومعها طبيب القصر، سألتها لِيليانا:
“لماذا حُرّاس القصر الإمبراطوري في الخارج؟”
ترددت صوفيا لوهلة. لم يفهم أحد لماذا أمر الإمبراطور بنشر الحرس حول قصر لِيليانا، رغم أنها الضحية.
“… أصدر جلالته أمرًا إمبراطوريًا بذلك.”
ضيّقت لِيليانا عينيها بينما انكمشت كتفاها الواهنتان أكثر.
“أمر بنشر الحرس حول قصرِي؟”
“نعم، جلالتك.”
“ولم يعطِ أي تفسير؟”
“… لا، جلالتك. لكن، رجاءً، دعينا نهتم بصحتكِ أولًا. طبيب القصر هنا لفحصكِ.”
“هذا صحيح، جلالتك.”
لم تستطع لِيليانا أن تظل واقفة متجمدة أكثر، فجلست بهدوء على السرير بينما بدأ الطبيب بفحصها.
لكن عقلها كان مشغولًا.
لو أن هيليو أصدر هذا الأمر المفاجئ، فلا بد أنه عرف بشأن محاولة التسميم. والوحيد الذي يمكنه فعل ذلك هو دوق غابرييل وعائلته.
‘ هل يمكن أنه يحاول تغطية جرائمهم؟ ‘
رغم أن عائلة غابرييل هي أحد أعمدة الإمبراطورية، لم يكن هيليو يريد تدميرهم كليًا، بل مجرد الحد من نفوذهم.
ضحكت لِيليانا بسخرية مريرة.
في الآونة الأخيرة، كان الجميع ينصحونها بعدم الاعتماد كثيرًا على هيليو. سواء كان دوق غابرييل أو الكونت راكل أو حتى صوفيا نفسها…
والآن، بعد هذه الحادثة، شعرت وكأن قلبها يتجمد.
شعور بالوحدة والبرد تسلل إليها، وكأنها قد تُركت وحدها يومًا ما في هذا القصر الواسع.
__________________________________________
• حسابي واتباد: Toro1312 !!⭐••
《لاتدع الرواية تشغلك عن العبادات》
ترجمة: ✧𝐀𝐌𝐘✧
التعليقات لهذا الفصل " 39"