[ ليلي، لقد سرّني أن أرى خطك الواضح وكلماتك النابضة بالحياة، مما يدلّ على أنكِ بخير. لقد كنتِ قلقةً عليّ، لكنني بعد مغادرتي القصر أصبحت في حالٍ أفضل. بما أنني لم أعد بحاجة لمقابلة أحد من أهل القصر، فإن أيامي تمرّ بهدوء وسلام.
لكنني أظن أنه من الأفضل أن أشرح لكِ الأمر بتفصيلٍ أكبر، فقد يكون ذلك نافعًا لكِ أيضًا. منذ أن حصلتُ على لقب الكونتيسة، بدأت الملكة والأميرة رايلي في الحذر مني بشكلٍ واضح.
إنهما تعتقدان أنه إن عشتُ خارج القصر، فقد يؤثر ذلك سلبًا على حقّ الطفل الذي ستلدينه في وراثة العرش. وبالفعل، هذا يتعارض مع بروتوكولات القصر، حتى وإن كانت هذه القصر الذي وهبه لي جلالة الملك بنفسه.
لذلك، فإن الشيء الوحيد الذي يشغل بالي هو أن يؤثر هذا الأمر عليكِ بطريقةٍ سيئة. أما أنا، فلا داعي لأن تقلقي عليّ، فليس لديّ أي مشاكل.
— من مكانٍ بعيد، أمكِ التي تحبكِ.]
بعدما أنهت ليليانا قراءة الرسالة ورفعت رأسها، وقع نظرها على الكونت راكل وهو يحتسي الشاي. قامت بطي الرسالة بعناية وأعادتها إلى ظرفها قبل أن تعبر عن امتنانها.
“شكرًا لكَ مجددًا على إيصال الرسالة، الكونت راكل.”
“لم يكن أمرًا صعبًا. لكن يا جلالة الملكة، لم أغادر وطني وأقطع كل هذه المسافات لأصبح مجرد ساعٍ للبريد.”
لم يُخفِ الكونت راكل مشاعره أو نواياه، وهو أمرٌ لم تعتده ليليانا لا في البلاط الملكي ولا في القصر الإمبراطوري. ورغم ذلك، لم يكن ذلك يزعجها، بل وجدت فيه شيئًا مميزًا يجذبها.
“في الواقع، كنتُ أتساءل عن شيءٍ ما. لا بد أنك كنت من الشخصيات الواعدة في مملكة نيتا، فلماذا تخليتَ عن ثروتك وتنازلت عنها من أجل الحصول على الجنسية الإمبراطورية؟ وإن كنت قد فشلت، فلا شك أن مكانتك في مملكة نيتا كانت ستتضرر كثيرًا.”
“بلا شك، كان ذلك سيحدث. لكن الأمر لم يكن مهمًا بالنسبة لي.”
أجاب الكونت راكل بصوته الواثق كما هو معتاد.
“سأكون صريحًا معكِ. أنا أرى أن مملكة نيتا أشبه ببركةٍ راكدة، أو ربما بمياهٍ آسنةٍ في كهفٍ مظلم. إنها مملكةٌ ترفض المواهب، وتستنزف شعبها، وتعتمد فقط على مناجم الأحجار السحرية المتوفرة لديها، دون أي نيةٍ حقيقيةٍ لتحقيق التقدم.”
كان الناس يلقبون الكونت راكل بأنه المخلص الوفي لمملكة نيتا. وبطريقةٍ ما، لم يكن هذا الوصف بعيدًا عن الحقيقة.
لكن حينما تحدّث عن المملكة، بدا الغضب واضحًا في عروقه.
“لقد بذلتُ كل ما بوسعي لإصلاحها. بحثتُ عن بدائل اقتصادية غير الأحجار السحرية، وسعيتُ إلى تقليل الفجوة بين العاصمة والأطراف من خلال تنشيط السوق الداخلية. وحتى أنني فتحتُ مخازن الحبوب عدة مرات لإطعام الجياع. لكن في النهاية، لم أتمكن من فعل شيءٍ بمفردي. كما تعلمين، لم أكن سوى كونتٍ بسيط في الغرب.”
للحظةٍ وجيزة، ارتسمت لمحةٌ من اليأس في عيني الكونت راكل، ثم قبض على يده بإحكام وهو يستعيد ذكرياته. نظرت ليليانا إلى يده بصمت، ثم سألته بهدوء:
“إذن، هل لجأت إلى ملك نيتا؟”
“لقد أحسنتِ التخمين. أجل، حملتُ تقاريري وذهبت إليه طالبًا دعمه. قلت له إنني أعمل من أجل خير المملكة، وإنني بحاجة إلى مساعدته. لكنه نظر إليّ وقال…”
سخر راكل، ثم تابع بصوتٍ يفيض استهزاءً:
“لقد بذلتَ جهدًا كبيرًا، لذا سأمنحك لقب الماركيز. الآن، عُد إلى الغرب.”
وهكذا، أصبح الكونت راكل “الماركيز راكل”. لم يجد الناس أي أمرٍ غريب في ازدياد نفوذ عائلته، لكن لم يكن أحد يعلم القصة الحقيقية التي دارت خلف الكواليس.
لم يكن الملك مهتمًا حتى بحصد ثمار جهود راكل، بل حرّف نواياه الصادقة، ليظهر وكأنه كان يسعى فقط لنيل لقبٍ أعلى.
“جلالة الملكة، أدركت حينها أنني لم أعد قادرًا على تغيير مملكة نيتا من الداخل. إنها تحتاج إلى قائدٍ جديد.”
نظر الكونت راكل إلى ليليانا مباشرةً، بلا أي تردد أو مواربة. ولذا، لم يكن بوسعها إلا أن تفهم تمامًا ما يقصده.
“إذن، أنت تفكر في حق طفلي لوراثة العرش.”
“نعم، هذا صحيح.”
“وماذا لو لم تكن لدي أي نية للتعاون معك إلى هذا الحد؟”
كان الهدف الأول لليليانا هو ألّا تنجب طفلًا على الإطلاق، لذا فإن احتمال أن تسير الأمور وفق رغبة الكونت راكل كان ضئيلًا للغاية.
لكن راكل فهم كلماتها بطريقة مختلفة، فاتسعت عيناه بدهشة.
“هل تفكرين في المطالبة بالعرش؟”
ارتبكت ليليانا بشدة، فقفزت من مقعدها على الفور. أخذت تنظر حولها بسرعة، لكنها وجدت أن الحاضرين في الغرفة لم يكونوا سوى كبيرة الوصيفات وصوفيا. عندها، حدّقت في كبيرة الوصيفات وأكدت بحزم:
“مستحيل. لا، مستحيل تمامًا. لا يمكنني حتى التفكير في ذلك!”
تكرارها للرفض جعل ملامح الاستغراب تظهر على وجه الكونت راكل، ثم تبع نظراتها بهدوء ليرى كبيرة الوصيفات.
كانت الأخيرة، كما هو متوقع، تحتفظ بتعبيرها الجامد الذي يشبه تمثالًا من الجص، مما جعل من المستحيل معرفة أفكارها.
لكن الكونت راكل تمكن من استنتاج أمرٍ ما. لم يكن يعلم ما إن كانت صوفيا مجرد وصيفة عادية، لكن كبيرة الوصيفات لم تكن بالتأكيد من أتباع ليليانا. على الأرجح، كانت عينًا من عيون الإمبراطور.
وبالتالي، فإن استمرار هذا الحديث لن يجدي نفعًا. لذا، غيّر راكل الموضوع بسرعة.
“حتى إن لم تكن جلالتكِ من العائلة الحاكمة، فأنا أنوي دعم شخصٍ جديد من خلال الأسس التي أنشأتها داخل الإمبراطورية. آمل أن تنظري إلى هذا الأمر بإيجابية.”
“سأفكر في الأمر.”
لم يضف الكونت راكل أي تعليق، لكنه لم يكن يبدو مستسلمًا أيضًا. لا شك أنه سيبحث عن طريقةٍ أخرى للحديث معها بعيدًا عن أعين كبيرة الوصيفات.
“قبل أن نتعاون، أعتقد أن عليّ أن أريكِ قدراتي أولًا. لذا، أعددتُ لكِ بعض الأمور. أولها جزءٌ من خطة تجارية.”
عندما تناولت ليليانا الوثيقة، توقفت فجأة عن الحركة وبدت مصدومة.
“هل من الآمن أن تطلعني على شيءٍ بهذه الأهمية؟”
“على أي حال، لقد أحرزتُ تقدمًا كبيرًا بالفعل، وما أعرضه عليكِ ليس سوى جزءٍ بسيط منها. قد أبدو شخصًا بطيئ الفهم، لكنني لست أحمقًا تمامًا. هاها!”
ضحك الكونت راكل بصوتٍ عالٍ. ربما كان يقصد ببطيء الفهم حجمه الكبير، لكنه لم يكن يبدو كذلك على الإطلاق. بل على العكس، بدا أشبه بأسدٍ ضخم.
ثم انحنى نحوها وهمس بصوتٍ خافت جدًا، حتى إن ليليانا بالكاد سمعته.
“يمكنكِ إخبار جلالته بذلك، لا بأس.”
اتسعت عينا ليليانا دهشة.
لم تكن تنوي إخفاء ما حدث اليوم عن هيليو. لم تكن ترغب في أن تصبح شخصًا مشبوهًا في نظره، بل كانت تنوي البقاء داخل حدود السلطة التي منحها لها.
ومن الواضح أن الكونت راكل أدرك ذلك من خلال حديثه معها اليوم.
“لكن لا بد أن تأتي لحظة تصل فيها إلى حدودكِ.”
أضاف راكل تلك الكلمات قبل أن يبتعد.
تصلبت ملامح ليليانا، فقد أصاب نقطةً كانت تفكر فيها دائمًا.
لكن راكل عاد سريعًا إلى طبيعته كرجل أعمالٍ حيوي، وأخذ يتحدث بحماسٍ عن مختلف الأمور—عن مملكة نيتا، والتطورات الحديثة في إمبراطورية كارلو…
كان يهتم برفاهية الشعب، لكنه كان أيضًا موهوبًا بشكلٍ استثنائي في عالم التجارة.
استمتعت ليليانا بالحديث معه، لكن إحساسًا بالقلق لم يفارقها.
وقبل أن يغادر، سألته فجأة:
“أيها الكونت، هل لا تزال تعتبر نفسك من مملكة نيتا؟”
عندها، أجاب راكل بلا تردد، وكأنه لم يجد أي حاجةٍ لإخفاء الحقيقة:
“أنا من البلد الذي يستطيع شعبه أن يأكل حتى يشبع.”
لم تكن هذه الإجابة ما كانت ليليانا تبحث عنه. لقد أرادت ببساطة أن تتأكد مما إذا كان شخصًا آمنًا يمكنها الوثوق به.
لكنها لم تستطع سوى أن تبتسم. فقد شعرت بالدهشة لوجود شخصٍ مثله في مملكة نيتا. وكل ما استطاعت فعله هو أن تأمل أن يكون راكل صادقًا في كلماته.
❈❈❈
في ساعة متأخرة من الفجر، كانت أنوار غرفة النوم في قصر الزمرد لا تزال مضاءة. كان ذلك أمرًا نادر الحدوث، خاصة أن ليليانا اعتادت النوم فور أن يحين موعد راحتها.
كانت صوفيا، التي كانت ترافقها، تسير حولها بوجهٍ مفعم بالقلق.
“جلالتكِ، ألاً تخلدين للنوم؟ سيؤثر ذلك على صحتكِ.”
فركت ليليانا عينيها المتعبتين وقلبت الأوراق التي كانت تمسك بها. كانت هذه هي خطة العمل التي سلمها لها الكونت راكل.
كان راكل يعتزم استخدام ثروته المعدنية الهائلة لوضع أسسٍ لمشروعٍ تجاريٍّ في مجال الأحجار الكريمة.
لكنه لم يتوقف عند ذلك، بل بدا أنه يخطط لنشر استخدام أنواعٍ نادرة من أوراق الشاي، بالإضافة إلى تعميم استهلاك القهوة، التي لم تكن تحظى بتقديرٍ كبير في الإمبراطورية.
أمامها على الطاولة، وُضِع فنجان قهوةٍ نصف ممتلئ. كان ذلك هديةً من الكونت راكل، الذي أخبرها أنه ابتكر طريقةً جديدة لتحميص حبوب القهوة.
“يبدو أكثر سلاسة من القهوة التي اعتدت شربها. لكنه لا يزال مرًّا بعض الشيء بالنسبة لي.”
ومع ذلك، كان عبير القهوة ساحرًا للغاية. فالقهوة التي اعتادت شربها من قبل كانت ذات رائحةٍ نفاذة وخشنة.
بعد وقتٍ طويل، وضعت ليليانا الأوراق جانبًا. اقتربت منها صوفيا بوجهٍ فرِح وبدأت بترتيب الطاولة.
“ستذهبين للنوم الآن، أليس كذلك؟”
أومأت ليليانا برأسها.
“هل يمكنكِ أن تتحققي لي غدًا إن كان بإمكاني لقاء جلالته؟ لديّ أمرٌ أود التحدث معه بشأنه.”
“بالطبع، سأفعل ذلك.”
بما أن الكونت راكل لم يمانع، فقد قررت ليليانا أن تخبر هيليو بجزءٍ مما دار بينها وبين الكونت، وفقًا لخُطتها الأصلية. كانت تريد أن توصل له رسالةً واضحة: لم يكن لديها أي نيةٍ لتجاوز حدودها.
لكن صوت راكل تردد في ذهنها بوضوح:
“لكن لا بد أن تأتي لحظة تصلين فيها إلى حدودكِ.”
حتى لو جاء ذلك اليوم، فإن بناء نفوذٍ خارج نطاق رؤية هيليو ودون علمه كان فكرةً مخيفة.
“لا يمكنني حتى تخيل كيف ستكون ردة فعله…”
تمتمت ليليانا لنفسها وهي تستلقي في سريرها.
لكن، ربما لأنها لم تعتد بعد على شرب القهوة، وجدت نفسها عاجزةً عن النوم. فكرت في آثار الكافيين الجانبية، ثم مدت يدها وسحبت خيط الجرس.
“صوفيا، هل يمكنكِ إحضار شايٍ يساعد على النوم؟”
لم يمضِ وقتٌ طويل حتى عادت صوفيا وهي تحمل كوبًا من الشاي الدافئ، وأخبرتها بأنه شايٌ نادرٌ وثمينٌ قدّمه الكونت راكل.
أومأت ليليانا برأسها دون اهتمام، وأخذت تحتسي الشاي ببطء.
ثم…
“أه…!”
وضعت يدها على عنقها وأطلقت أنينًا خافتًا. شحبت ملامحها على الفور، وأخذت أطراف أصابعها ترتجف. فزعت صوفيا وأمسكت بجسدها المرتعش.
“جلالتكِ! جلالتكِ!”
صرخت صوفيا بصوتٍ حاد، فاندفعت الوصيفات اللواتي كنّ يقفن خارج غرفة النوم إلى الداخل بسرعة.
وفي تلك اللحظة،
تدفّق الدم من فم ليليانا.
اتسعت أعين الوصيفات، لكنهن لم يفقدن رباطة جأشهن. تحركن بسرعة، حيث انطلقت إحداهن لجلب الدواء، بينما هرعت أخرى لاستدعاء طبيب القصر.
أما ليليانا، فشعرت بيد صوفيا وهي تضغط بمنديلٍ على شفتيها. وبعد لحظات، تلاشى وعيها تمامًا.
__________________________________________
• حسابي واتباد: Toro1312 !!⭐•
《لاتدع الرواية تشغلك عن العبادات》
ترجمة: ✧𝐀𝐌𝐘✧
التعليقات لهذا الفصل " 38"