زمنٌ كان بإمكان رايلي فيه أن تُنقذ لِيليانا بإيماءةٍ صغيرة أو صمتٍ قصير، لكنها لم تفعل. ولهذا السبب تحديدًا، كان لا بُدّ لهذا اليوم أن يأتي.
لكل إنسانٍ فرصة للتكفير عن أفعاله، غير أن رايلي أضاعت فرصتها بيديها.
لم تُجب. ساد بينهما صمتٌ ثقيل، صمتٌ كأنه ختمٌ على مصيرٍ حُدّد بالفعل.
بعد وقتٍ طويل، نهضت رايلي، وكان النهوض بحدّ ذاته صراعًا؛ إذ كانت أصابع قدميها ترتجف من ثقل القرار.
“…كما تشائين يا جلالتك.”
ثم غادرت غرفة الضيوف، بل غادرت قصر أريس بأكمله.
❈❈❈
كانت لِيليانا تستحمّ حين بلغها خبر استعداد رايلي لمغادرة قصر لونا فورًا. دفعت لِيليانا خصلات شعرها المبللة إلى الوراء، وأمالت رأسها للخلف متنهّدة.
“يبدو أن لعب دور الشريرة ليس بالأمر الهيّن… عليّ دائمًا أن أبدو جميلة.”
وبينما كانت إحدى الخادمات تُعطّر شعرها، انفجرت أغرينا، التي كانت تُشرف على الخادمات، ضاحكةً بصوتٍ عالٍ ومريح.
تبسّمت الخادمات من حولها أيضًا، إذ وجدن سيدتهنّ ظريفةً على غير العادة.
قالت أغرينا، وهي تُحرك ذراعيها في الهواء كممثلةٍ مسرحيةٍ مبالغة في أدائها:
“يا صاحبة الجلالة! ليس الأشرار وحدهم، بل حتى الإمبراطورة يجب أن تبدو جميلةً دائمًا!”
كانت حركاتها العشوائية وانحناءاتها المتكررة مضحكةً إلى حدٍّ جعل لِيليانا تضحك وهي تعبس كطفلة.
“آه، لا أريد أن أكون إمبراطورة…”
أسندت ذقنها على حافة حوض الاستحمام، فتعالت ضحكات الحاضرات مجددًا. فقالت أغرينا بصوتٍ مسرحي:
“يا جلالتكِ! الإمبراطورة تكون لطيفة حتى آخر نَفَس، لكن ليس الإمبراطورة! أرجوكِ، لا تكوني لطيفةً أكثر مما ينبغي!”
قهقهت لِيليانا، ثم التقطت بتلة وردٍ عائمة ورمتها نحو أغرينا ؛
“رائع!”
ضحكت أغرينا مرة أخرى، وكأنها تُحاول طرد أي شعورٍ بالأسى من قلب لِيليانا بعد انتقامها من أختها غير الشقيقة.
لكن لِيليانا لم تشعر بشيءٍ على الإطلاق.
فالانتقام من كيروكا لم يترك في قلبها سوى فراغٍ باهت، بينما كان الانتقام من مملكة نيتا لذيذًا، مُرضيًا، كنسمة نصرٍ تُنعش صدرها.
من قال إن الانتقام لا يجلب إلا الانتقام؟
أحيانًا، يكفي أن تُقطَعي الصلة ليعمّ السلام.
ابتسمت لِيليانا بمكر وقالت وهي ترفع رأسها من الماء:
“لقد أصبحتِ جريئةً للغاية بعد أن عاملتُك كخادمتي المقرّبة… سأُكلّفكِ بمهرجان الحصاد القادم، يا أغرينا.”
وضعت أغرينا يدها على جبينها متصنّعةً الإغماء، فضحكت لِيليانا من جديد.
كانت تلك الدقائق الوجيزة من الراحة بين معركتين انتقاميتين هي كل ما تحتاجه لتستعيد تنفّسها.
❈❈❈
استيقظت لِيليانا على قبلةٍ دافئة تحت ضوء الشمس الذهبي.
ارتسمت ابتسامةٌ على شفتيها، إذ لم يكن أحدٌ يجرؤ على تقبيل الإمبراطورة في وضح النهار سوى شخصٍ واحد.
“ماذا؟ أحقًّا؟”
ضحك هيليو وقال وهو يُمسك بخصلات شعرها المبتلة:
“تتظاهرين بعدم الإعجاب وأنتِ تبتسمين هكذا؟”
“إنه لطيف، أليس كذلك؟”
ضحكت بخفةٍ وعانقته حول عنقه، فاحتواها هيليو بذراعيه ورفعها ببطءٍ عن السرير، وأسنَدها إلى صدره العريض.
تأوهت وهي تستند على كتفه وقالت بنصف نعاس:
“هل أتيتَ لأجل الفطور؟”
“الفطور؟ لقد تجاوزنا الغداء يا لِيليانا.”
“حقًا؟”
“نعم. أميرنا استيقظ منذ وقتٍ طويل. يبدو أنكِ الوحيدة التي تنامين حتى هذا الوقت في عائلتنا.”
رفعت رأسها، ضيّقت عينيها، فقبّل هيليو طرف جفنها برفقٍ كما لو كان يُهدّئها. اتسعت عيناها بدهشةٍ خافتة، فابتسم هو.
كان يحبّها حبًّا صافيًا يجعل كل شيءٍ حولهما يلين.
لكن منذ أن أصبحت إمبراطورة، لم يعد بوسعه أن يحصر العالم في لحظاتهما الصغيرة. كان عليه أن يُواجه مسؤولياته أيضًا.
قال بصوتٍ منخفض:
“الوفد بأكمله فرّ… بمن فيهم الأميرة رايلي.”
ضاقت عينا لِيليانا بابتسامةٍ ماكرة.
“يا إلهي… يا لها من وقحة.”
كانت تتحدث وكأنها لا تُدرك أن تلك الوقاحة تُسيء إليها شخصيًا، ثم تابعت ببرود:
“إذن سأطالب مملكة نيتا بتعويضٍ مناسب عن سلوك الوفد.”
“وماذا عن اختفاء الأميرة فيسيل؟”
“ليس لدى رايلي وقتٌ للتفكير في ذلك الآن، فلا تقلق.”
كانت تعلم أن إسقاط الملك بنفسه سيحتاج إلى آلاف الأعذار والمبررات.
لكنها لم تعد تكترث لشيءٍ يتعلق برايلي بعد الآن.
فقد ماتت فيسيل، وسيُسجَن الملك قريبًا.
ستُصارع الأميرة رايلي كل ليلةٍ دون نوم، تحاول جاهدةً أن تُسيطر على الأميرات الأخريات وتقتلع جذور الفساد بنفسها، حتى تُصبح المملكة جمهورية كما تنبأت.
أما لِيليانا، فلم تعد مملكة نيتا في عينيها ذات أهمية.
ما كانت تُريده الآن هو أن تقضي هذا الوقت البهيّ مع هيليو، بعيدًا عن السياسة والدماء.
كان صحيحًا أنّ الاستعدادات لمهرجان الحصاد حافلةً بالأحداث في الآونة الأخيرة، لكن حتى الأسبوع الماضي، كان من الصعب على ليليانا أن تنام متشابكةَ الأصابع مع هيليو.
“جلالتكِ، هل أنتِ مشغولة؟”
“لقد انتهى مهرجان الحصاد، فماذا عنك أنتَ؟”
قالت ذلك وقد احمرّ وجهها من شدّة الارتياح.
داعبت ليليانا راحة يد هيليو بأطراف أصابعها برفق، فاستقامت أكتافه التي كانت منحنية فوقها.
“جلالتكِ، حسنًا…”
ضمّت ليليانا شفتيها واحمرّ وجهها أكثر، لكن هيليو، الذي كان يملك موهبة خارقة في قراءة مزاجها، التقط توترها على الفور.
كانت تتمنى ببساطة أن يعانقها سريعًا، غير أنه بدا قلقًا، فاستجمعت شجاعتها لتتحدث بصراحة:
“…سألتُ الطبيب الإمبراطوري، فقال إن كنتُ حذرة، فسأكون بخير.”
كانت ليليانا تعتقد أنّ هيليو سيتقبّل الأمر تلقائيًا. قبل أن يُرزقا بكارل، كان يُغازلها في كل فرصة.
لكن هيليو تشبّث بأصابعها بقوة، مانعًا إياها من الاستمرار في مداعبته.
حدّقت ليليانا فيه بعينين واسعتين، فقبّلها قبلة مهذّبة وتراجع قليلًا.
كانت ابتسامتها الساحرة، فوق وجهها الناعم، أكثر إشراقًا من ضوء الشمس المتسلّل عبر الستائر. وبينما كانت تحدّق في عينيه الزرقاوين، أفاقت فجأة.
“هيليو؟”
“لا أعرف كيف أعانقكِ باعتدال.”
“هاه؟”
“أخشى أنني لن أستطيع التحكّم بنفسي.”
أفزعتها هذه الكلمات البريئة، التي بدت ماكرة في الوقت ذاته، فربّتت على ظهره بخجل.
تفاجأت ليليانا مجددًا، فأخذت تفرك ظهره برفق.
“أوه، ماذا أفعل؟ أنا آسفة… هل يؤلمك؟”
“يؤلمني… يؤلمني فعلًا.”
انحنى هيليو متظاهرًا بالألم، بينما بدا واضحًا أنّ الأمر لم يكن كذلك. أو ربما كان جلده أصلب من الفولاذ.
على أيّ حال، لم تستطع ليليانا أن تقرر إن كانت غاضبة أم مشفقة عليه، لكنها عندما استعادت وعيها، شعرت بوخزٍ في راحة يدها.
“لماذا تمزح بهذه الطريقة؟!”
وبّخته وهي تفرك كفها، فقبض على يدها بلطف.
“أنا آسف.”
قبّل كفها واعتذر بخضوع، ثم قال:
“يجب أن أذهب باكرًا اليوم، عليّ أن أستعد لمحاكمة الأميرة غابرييل. لكني أردت رؤيتك قبل ذلك.”
كان قد قال قبل قليل إنه غير مشغول، لكنه غيّر رأيه بسرعة. لم تُرِد ليليانا أن تُشير إلى تناقضه، فاكتفت باقتراح بديل.
“إذا كنتَ مشغولًا إلى هذا الحد، فعليك أن تخبرني.”
“وكيف يمكنني ذلك؟ ليس وكأنني أستطيع حملكِ معي أينما ذهبت.”
التعليقات لهذا الفصل " 163"