كانت بارعة في التظاهر بالنبل بعد أن بذلت كل ما في وسعها.
“أرجوكِ يا أختي.”
سارت ليليانا، وهي لا تزال تبتسم ابتسامة مشرقة، لتجلس مقابل رايلي.
“جلالتك، ماذا تريدين أن تخبريني؟”
سألت رايلي بأدب، فانفجرت ليليانا ضاحكةً، كما لو أنها سمعت للتو شيئًا مُسليًا حقًا. كان الضحك بصوت عالٍ دون تغطية الوجه بمروحة يُعتبر جريمةً جسيمةً في مملكة نيتا.
“أرجوكِ يا أختي، تحدثي بحرية. علاوةً على ذلك، أنتِ من لديه ما يقوله، وليس أنا.”
كان هذا يعني أنها نادتها لأنها بدت لديها ما تقوله. أمسكت رايلي بطرف فستانها بعناية، ثم أفلتته برفق. ثم، وهي لا تزال تتحدث بأدب، تحدثت.
“جلالتكِ، بما أنكِ منحتني الفرصة، فلن أرفض.”
بالتأكيد، كانت أكثر عقلانية من فيسيل.
“الأميرة فيسيل اختفت. أعلم أنكِ منهكة، ولكن بالنظر إلى العلاقات الخارجية بين بلدينا، هل يمكنكِ مساعدتي قليلاً…”
“أوه، الأخت فيسيل، قصدتي.”
لم تنتظر ليليانا حتى تُنهي رايلي كلامه.
“عاقبتها لنشرها شائعات كاذبة عني.”
“هاه؟”
“الأخت فيسيل كانت تقول أشياءً لا تُصدق عني. مثل، أنني نمتُ مع خنازير في حظيرة خنازير، أو أنني قد لا أكون من العائلة المالكة في نيتا… لا أطيق تركها دون قول. سيكون ذلك ضارًا ليس فقط بالإمبراطورية، بل أيضًا بمملكة نيتا.”
لم تستطع رايلي إخفاء حيرتها. لقد كُشف مصدر الشائعات. الأمور تسير على نحو خاطئ. حدقت ليليانا في رايلي للحظة، ثم أومأت برأسها وكأنها تفهم مشاعرها.
“كما هو متوقع. أخت رايلي، لم تكوني تعلمين، أليس كذلك؟”
ضغطت رايلي على فكها، وأغلقت فمها بإحكام. من المستحيل ألا تعلم.
من المرجح أن كل فعل تقريبًا قامت به فيسيل كان بتوجيه من رايلي.
كيف لشخص لا يفهم حتى علاقة ماضي ليليانا المكروه بمكانتها كإمبراطورة أن يمتلك البراعة للتخطيط بمفرده؟
ومع ذلك، كان من الحماقة أن تخبرها وجهًا لوجه أنها أمرت بذلك.
ترددت رايلي، ثم فتحت فمها أخيرًا لتعتذر.
“هل أنا مخطئة في شيء؟”
” حسنًا، أنا متأكدة أن الأخت رايلي طلبت منها أن تنشر الحقيقة فقط، لكن من المحرج أن تنشر الأخت فيسيل إشاعة كهذه.”
لم تعرف رايلي ماذا تقول.
‘ كنت أعرف أن ليليانا ذكية، لكنني لم أتوقع أن تعرف كل هذا.’
وضعت ليليانا يدها على فمها، وارتسمت ابتسامة خفيفة على وجهها، وأشارت إلى أغرينا. تحركت أغرينا على الفور لخطف المروحة من يد رايلي.
“ماذا…!”
“لقد سئمت من هذا النقاش الطويل. لندخل في صلب الموضوع.”
في مملكة نيتا، كانت مروحة المرأة رمزًا للطبقة الراقية. وكان أخذها بعيدًا يعني رفضًا للأدب.
شحب وجه رايلي، وارتجف كتفيها.
“… يا جلالة الإمبراطورة، بما أنك تريد التعمق في الموضوع، فسأفعل. أعلم أن جلالتك لا تكنّ أي مشاعر طيبة لمملكة نيتا. ولكن أليست وطنك؟.”
“إذاً؟”
انقطعت كلمات ليليانا، لكن رايلي لم يُتح لم المجال لسؤالها.
“أرجو أن تجدي الأميرة فيسيل. وأرجو… أن تُلغي هذا الاجتماع.”
كانت الأميرة رايلي شخصًا محترمًا للغاية في بيتها. لا شيء يُمكن أن يُحطم كبرياءها هكذا.
ولكن الآن وقد تحطم تحالفها مع الدوق غابرييل، لم يعد كبرياء الأميرة شيئًا يُذكر.
“آه، هل تقصدين أنك كنت تتباهين بشراء الأحجار السحرية بسعر عادل لأنك لم تعودي بحاجة إلى دعم الإمبراطورية؟”
“….”
“حسنًا، بعد أن دمّرت فيسيل كل شيء، من المستحيل أن يتنازل الدوق غابرييل عن المال.”
سواء أكانت لِيليانا تسخر أم لا، أغمضت رايلي عينيها بإحكام وواصلت حديثها بثبات.
“يا جلالة الإمبراطورة، إن ساعدتنا في هذا الأمر، فستبقى مملكة نيتا إلى الأبد في صفّ جلالتك. بما أنكِ الآن الإمبراطورة، فسيأتي يوم تصبحين فيه الإمبراطورة الأرملة للإمبراطورية، وسيجلس الأمير كارل على العرش إمبراطورًا. عندها، لن تكون مملكتنا والإمبراطورية خصمين بعد اليوم.”
“ولن يصبح الأمير ملكًا أبدًا، إذن لسنا أعداء؟”
ارتسمت على وجهها نظرة حيرة غامضة، وأدركت رايلي أن ذلك ليس فألًا حسنًا على الإطلاق.
“الإمبراطورية مزدهرة، وسلطتها ثابتة، وأنا مُباركة من ملوك الأرواح، فلا يعتريني المرض، وكانت ولادتي أيسر من غيري بعشرات المرات، إن لم تكن مئة. ثم إن بيني وبين جلالتك علاقة ودٍّ حسنة… فكيف لي أن أُنجب طفلًا واحدًا فحسب؟ مجرد رغبتك في تصديق ذلك لا تجعله حقيقة. إن كنتِ تريدين قيادة أمة، فعليكِ أن تفرّقي بين الأمنيات والواقع.”
تكلّمت لِيليانا بندمٍ خافت، فيما رمشت رايلي جفنيها وقد جُرح كبرياؤها، ثم تمتمت بصوت خافت:
“…سأضع ذلك في اعتباري.”
فابتسمت لِيليانا قليلًا وقالت:
“هذا لا يعني أنني سأحلّ محلكِ الآن.”
تنفّست رايلي الصعداء عند سماع تلك الجملة، لكنها كانت تعلم في قرارة نفسها أن لِيليانا لا تمنح فضلًا إلا وفيه نية أخرى.
“لا أريد أن يعيش إبني في مملكة فاسدة كهذه. حتى إن أحسنت، فستُنتقد، وإن لم تُحسن، فستُنتقد كذلك. إنه مكانٌ موحش، كأنما خُلِق لتُشنق فيه الأخت بيديها.”
“ماذا تقولين؟!”
كانت رايلي قد جاءت مستعدة للانحناء والتملّق، غير أنها لم تحتمل تقليل الشأن بالعرش، فحدّقت في لِيليانا بذهولٍ وغضب.
لكن لِيليانا لم تلتفت إليها، بل ظلّت غارقةً في أفكارها العميقة.
‘ لكن لا يمكنني تجاهل طلب الكونت راكل… يا له من رجل ماكر! يطلب مني أن أُصبح مواطنة إمبراطورية لقاءَ إصلاح فساد المملكة، عبر تنصيب ابنه على العرش. يبدو أنه أدرك أن دون قوّة الإمبراطورية، يستحيل اقتلاع الجذور الفاسدة من تلك المملكة.’
شبكت لِيليانا ساقيها تحت فستانها، ونقرت بإصبعها على ركبتها تفكر. كانت نظراتها لامعة وذكية كما عهدها الجميع.
لم يكن الانتقام أو الجاه أو المال ما يُحرّكها، بل كانت روحها أرفع من كل ذلك.
كانت تنظر إلى العالم من علٍ، باحثةً عن الترس الوحيد الذي سيبقي عجلة النظام متماسكة.
“هل تعلمين أن هناك دولةً خلف القارة لا يحكمها ملك؟ إنها الجمهورية.”
بدت ملامح رايلي خاوية، عاجزة عن مجاراة تلك الفكرة الغريبة. عندها ابتسمت لِيليانا ابتسامةً رقيقة ؛
“جمهورية نيتا… لا يبدو ذلك خيارًا سيئًا أبدًا.”
وما إن استوعبت رايلي معنى كلامها حتى نهضت من مقعدها بعنف، فهبّ الفرسان المحيطون بغرفة الاستقبال متأهبين، توشك قلوبهم أن تتوقف إن تحرّكت الأميرة خطوة واحدة أخرى.
صرخت رايلي وقد احمرّ وجهها من الغضب:
“أتجرئين؟! أتظنين أنكِ ستُحكمين مملكة نيتا لمجرد أنكِ إمبراطورة الإمبراطورية؟!”
وحين وجدت نفسها محاصَرة، لجأت إلى تقليد هيئة لِيليانا المتعجرفة علّها تستعيد هيبتها، لكنها لم تستطع إخفاء ارتجاف يديها ولا خوفها من الفرسان المحيطين بها.
نهضت لِيليانا من مقعدها بخطواتٍ هادئة، ورغم قامتها الصغيرة ووجهها الشاب، شعرت رايلي وكأن الهواء نفسه يثقل صدرها مع كل حركة منها.
اقتربت لِيليانا من الطاولة الكبيرة واستدارت لتقف أمامها مباشرة. عندها شعرت رايلي بأن ركبتيها تكادان تخونانها.
“لا تنسي أنكِ مدينة لي بمعروف، يا أميرة.”
لم يبقَ في نبرة لِيليانا أي أثرٍ للاحترام. انخفض رأس رايلي من تلقاء نفسه، ثم فكرت مليًّا قبل أن تثني ركبتها اليمنى، فاليُسرى، ببطء. ولم تتكلم لِيليانا إلا بعد أن لامستا السجادة الفاخرة.
“أولًا، عودي إلى مملكتكِ وأقتلي الملك فورًا. يمكنكِ الجلوس على العرش مكانه، لكن لا تفعلي ذلك بدافعٍ أناني. حاربي بكل قوتكِ لإيقاف الفساد الذي نخر مملكتك. ترك هذا العبء لغيرك سيكون خطأ فادحًا.”
تجمّدت رايلي في مكانها، لكنها تمسكت بالصبر ظنًّا منها أن ذلك هو الحكمة. غير أن كلمات لِيليانا لم تتوقف عند هذا الحد.
“وإذا أخطأتِ أدنى خطأ… فسوف يثور عليكِ شعب المملكة.”
“ماذا؟! وكيف لشعب المملكة أن…”
قاطعتها لِيليانا بانحناءةٍ خفيفة، رفعت بها ذقن رايلي بسبابتها وهي تبتسم ببرود:
“هل تعتقدين حقًا أنني لا أقدر على ذلك؟”
في تلك اللحظة، أدركت رايلي كم كانت مخطئة في فهمها.
كانت تظن يومًا أن لِيليانا تشبه الملك في حِكمته وقسوته، وأنها الوحيدة من بين الأميرات القادرة على التفاهم معه، حتى خُيّل إليها أن الملك سيضمها إليه يومًا ما.
لكن يا لها من فكرة متغطرسة.
فليليانا لم تُشبه أحدًا قطّ، لا الملك ولا سواه.
كانت لِيليانا نجمًا لامعًا بذاتها، لا تحتاج إلى من يُشبهها لتتألق.
التعليقات لهذا الفصل " 162"