بين هيليو والإمبراطورة الأم كان هناك صمت غامض.
كان هيليو يفكر في ليلِيانا.
تأثير تلك المرأة الصغيرة على الشخصين الكبيرين لم يكن أبداً صغيراً.
جلس هيليو وهو يطوي ساقيه وأغلق عينيه ببطء ثم فتحهما.
“من السخافة أن تعتقدين الآن أن اعتذاركِ سيؤثر.”
على الرغم من كلمات هيليو الجافة، كانت تعبيرات الإمبراطورة الأم هادئة. مهما كان الاعتذار الذي خرج من قلبها لتحسين حالتها النفسية، فإن الشخص الذي يعترف بخطئه ويصارح بالحقائق يحصل على حياة أكثر هدوءاً من أولئك الذين لا يفعلون ذلك.
شعرت الإمبراطورة الأم وكأن شعور الذنب الذي كان يثقل كاهلها بدأ ينقشع قليلاً، لكنها كانت تشعر بالحزن لأن هيليو ليس لديه أي نية لقبول اعتذارها.
نظر هيليو إلى الإمبراطورة الأم التي كانت تحمل تعبيرات معقدة على وجهها ثم نهض من مكانه. توجه مباشرة إلى مكتبه وكأنما لا ينوي مواصلة الحديث، مظهراً ظهره الصلب.
“إذاً، وداعاً…”
كان تلك في اللحظة التي كانت فيها الإمبراطورة الأم على وشك مغادرة المكان.
“من فضلكِ، احضري إلى حفل تأسيس الإمبراطورية.”
“ماذا قلت؟”
“اذهبي إلى حفل التأسيس ومارسي دور الأم هناك. من يدري؟ ، ربما لو قمتِ بذلك بشكل جيد، قد تتمكنين من العودة إلى وطنكِ الذي هو أغلى من إبنك.”
حدقت الإمبراطورة الأم في هيليو وهي في وضعية الوقوف.
كانت تعتقد أنه لا يمكنها أن تُغفر، وكان من المتوقع أن يطردها بغضب.
لكن هيليو رغم قسوته في الكلمات، منحها فرصة.
وكأنه كان ينتظر اعتذارها هذا منذ وقت طويل.
وكأنه انتظرها طويلاً جداً.
تركت الإمبراطورة الأم المكتب ببطء.
لم يكن خروجها من القصر الإمبراطوري مختلفاً عن العادة، حيث كانت أنيقة كما هو الحال دائماً.
لكن لحظة صعودها إلى العربة، بدأت الإمبراطورة الأم تذرف دموعها بصمت، بعد أن كانت تكتمها طوال الوقت.
لم تكن تعلم أن هيليو كان ينتظر إعتذارها، وأنه سيمنحها الفرصة للرجوع متى أرادت بمجرد أن تبدي اعتذارها.
بينما كان هيليو يطلق نظراته المليئة بالكراهية، شعرت الإمبراطورة الأم أنه لم يعد هناك أي أمل في توقع شيء منه.
تذكرت الإمبراطورة الأم أيام هيليو في طفولته. كان الفتى اللامع الموهوب الذي كان يحاول جذب انتباهها بكتابة الشعر، وعرض مهاراته في المبارزات، وجلب العصافير المغردة، ويهديني أغلى الحيوانات في الصيد… ذلك الفتى الذي كان يتألق ويملك طموحات كبيرة.
لكن ذلك الفتى توقف عن كتابة الشعر في وقت ما، وأصبح يحمل السيف فقط لقتل الناس، ولم يعد يهتم بالحيوانات الصغيرة، وفقد شغفه بالصيد.
ومع ذلك، ظل ينتظر إعتذار أمه المخلص.
❈❈❈
لقد عاشت ليلِيانا لفترة من الزمن حياة هادئة.
فقد بدأ هيليو في قبول الطعام الذي ترسله الإمبراطورة الأم.
لم يكن يشكرها أو يعبر عن امتنانه، لكنه على الأقل لم يعد يتجاهل الطعام أو يعيده كما كان يفعل في السابق.
ولم يعد هيليو يقتحم قصر الزمرد ليقول إنه سيبقى هناك، فكان ذلك مصدر ارتياح كبير لها.
في أحد الأيام، استيقظت ليلِيانا، ومددت جسدها بمرتاح وأخذت نفساً عميقاً . لم يمض وقت طويل حتى دخلت خادمة تحمل ماء للغسل.
ثم قالت الخادمة بصوت مفعم بالحماسة:
“جلالة الملكة.”
كان من الواضح أن هناك شيء غير عادي.
شعرت ليلِيانا بالقلق أكثر من كونها متحمسة.
هل هيليو قادم؟ عادةً ما تكون زيارة الإمبراطور إلى القصر حدثاً سعيداً، لذا كان من الممكن أن يكون ذلك هو السبب.
لكن ما قالته الخادمة كان مختلفاً.
“الإمبراطورة الأم أرسلت لكِ فستاناً لحفل التأسيس.”
“ماذا؟”
“هل ترغبين في أن أدخله الآن؟”
تجمدت ليلِيانا للحظة ثم أومأت برأسها على الفور.
دخلت عارضة الأزياء إلى غرفة النوم وهي ترتدي فستاناً رائعاً للغاية.
كان الفستان الأرجواني الداكن والأنيق مزيناً بخيوط فضية على منطقة الصدر، وفوقها كانت مرصعة بالأحجار الكريمة.
بالإضافة إلى ذلك، كان الجزء السفلي من الفستان يتناثر بشكل متعرج وجميل، مما جعله أكثر بريقاً. أما القفازات السوداء المصنوعة من الدانتيل، فكانت تبدو غاية في الجاذبية.
“هل يمكنني ارتداء هذا الفستان؟”
قالت ليلِيانا بوجه شاحب.
أولاً، كان هذا الفستان يبدو غالياً للغاية.
كان من الممكن بيع هذا الفستان لشراء منزل عادي.
ثانياً، كانت ليلِيانا دائماً ترتدي ملابس بسيطة، لذا لم يسبق لها أن ارتدت فستاناً بهذا القدر من الفخامة.
لم تكن في وضع يسمح لها بذلك لأنها كانت أميرة مهجورة.
“إذا أعدته وقلت إنه مبالغ فيه…”
“سوف تخيبين أملها.”
قالت الخادمة بلهجة حاسمة وتمد يدها لتمرير ظرف أبيض.
كان عليه ختم شمعي أحمر، ما جعله يبدو بسيطاً ولكنه أنيق.
فحصت ليلِيانا الرسالة بحذر.
بداخلها كانت هناك بطاقة بريدية واحدة.
[كان هذا هو الفستان الذي ارتديته عندما دخلت العالم الإجتماعي لأول مرة. أرجو منكِ أن ترتديه في حفل التأسيس.]
وكان هذا الفستان يحمل معنىً عميقاً.
شعرت ليلِيانا وكأنها ستفقد وعيها، ولكن بما أنها قرأت الرسالة، أصبح من المستحيل إعادته. إن فعلت ذلك، ستُعتبر قد تجاهلت نية الإمبراطورة الأم.
“انظري، أعتقد أن هذا اللون سيليق بلون شعرك، أليس كذلك؟”
قالت صوفيا بابتسامة عريضة، وكأنها سعيدة لرؤية ليلِيانا تحظى بإعجاب الإمبراطورة الأم. لم تستطع ليلِيانا سوى الابتسام في وجه صوفيا.
“ماذا عن ارتداء أقراط من الياقوت الأزرق؟”
“لا يمكن.”
أوقفت الخادمة الآخرى بصرامة ما قالته صوفيا.
كانت صوفيا ولِيلِيانا تنظران بدهشة.
كان من الممكن أن تقترح شيئاً آخر قد يكون أفضل، لكن كان هذا الرفض القاطع من الخادمة أمراً غير متوقع.
عندما لاحظت تعبيرات الدهشة على وجهيهما، شرحت الخادمة:
“في حفل التأسيس، يُمنع ارتداء فساتين أو مجوهرات تحمل لون عيون الإمبراطور.”
يبدو أن هذا كان أحد القواعد الضمنية في الإمبراطورية.
عندما جربت صوفيا الأقراط الياقوتية على ليلِيانا، وضعتها بتعبير حزين، ثم اختارت بدلاً منها أقراطاً من الألماس التي بدت وكأنها تتماشى بشكل أفضل مع الفستان.
هذا أفضل ، لا داعي للقلق.”
قالت ليلِيانا مبتسمة، وسرعان ما بدا أن صوفيا قد تحسنت مزاجياً، فابتسمت وأومأت برأسها.
في يوم حفل التأسيس، كان أكثر شيء يثير فضول الناس هو
“مع من سيأخذ الإمبراطور أول رقصة؟”.
وفقاً للقواعد التقليدية للإمبراطورية، كان من الطبيعي أن تكون الرقصة الأولى مع الإمبراطورة.
لكن الآن، كان منصب الإمبراطورة شاغراً، وكانت هناك فقط الإمبراطورة الأم. ومع ذلك، لم يكن هناك شك في أن الإمبراطورة المستقبلية كانت قد تم تحديدها، والحديث كان يدور حول ذلك.
“جلالتك، يجب أن تكون الرقصة الأولى مع الأميرة غابرييل.”
كان مساعد هيليو، ترنز، يردد هذه الكلمات باستمرار منذ أيام قبل الحفل.
على الرغم من أن منصب الإمبراطورة لم يتم شغله بعد، إلا أن الأميرة غابرييل كانت من عائلة دوقية كبيرة، وكان من المهم مراعاة مشاعرهم بدقة.
“حتى لو كان الأمر كذلك، فإنك ستأخذ أول رقصة مع الإمبراطورة المستقبلية. أما الملكة القادمة من دولة مهزومة، فليست مهمة.”
“جلالتك، لا يمكن أن تكون ليلِيانا الإمبراطورة.”
قال ترنز بقلق واضح.
أما البقية، فقد كانوا يعتقدون أن الأمور ستسير ببساطة وفقاً للتوقعات.
لكن ترنز شعر أن الأمور لن تسير على النحو الذي يظنه.
فحتى الآن، لم يرد هيليو على أي من كلامه.
دخل هيليو إلى قاعة الإحتفالات مرتدياً بدلة أنيقة، متجاهلاً ترنز، ليحظى بهجوم من التصفيق الحار من الحضور، بينما صاح الخادم بصوت عالٍ:
“جلالة، الإمبراطور قد وصل!.”
كان الجميع ينتظر ظهور هيليو، ولهذا السبب انفجر التصفيق قبل أن يعلن الخادم ذلك.
ابتسم هيليو ابتسامة ساحرة وهو صعد إلى المنصة.
“شكراً لكم جميعاً على إضاءة هذا الحدث بمشاركتكم في إحتفال تأسيس الإمبراطورية ، لن ينسى العرش مشاعركم الطيبة.”
حتى مع التحية البسيطة التي قدمها هيليو، اندلعت تصفيقات حماسية أخرى في القاعة. وبعد ذلك، كان الدور التالي هو أن يقترب هيليو من شريكة الرقصة الأولى ويمد لها يده ليؤدي معها الرقصة الأولى أمام الجميع.
كان الجميع يترقبون بيستي، وكانت هي الأخرى تظن أن صاحبة الشرف في الرقصة الأولى ستكون هي. كانت تقف قليلاً أمام الجميع مبتسمة بأناقة.
نزل هيليو عن المنصة مبتسماً نحو بيستي.
شعرت بيستي أن توقعاتها قد تحققت، فخطت خطوة للأمام.
لكن هيليو أومأ برأسه لبيستي تحيةً له، ثم توجه إلى جهة أخرى.
“لماذا تختبئين هنا في الزاوية؟”
كانت كلمات هيليو ودية للغاية، وكأنما كان يمازح طفلاً صغيراً.
كان الشخص الذي يوجه إليه هذه الكلمات ليست سوى ليلِيانا.
على عكس بيستي، كانت ليلِيانا قد آمنت بأنها لن تكون هي الشريكة في الرقصة الأولى، أو بالأحرى، أنه لا يجب أن تكون كذلك، فظلت واقفة في آخر القاعة.
على الرغم من أن ليلِيانا كانت قصيرة وأخفت وجهها بالمروحة، كان من غير المتوقع أن يلاحظها أحد، ولكن هيليو اكتشفها على الفور.
ارتسمت على وجه ليلِيانا تعبيرات مرتبكة، وكأنها لا تصدق أنه يناديها.
ومع ذلك، تفرق الحضور من حولها كما لو كانوا أرضاً جافة تتشقق، ليتيحوا لهيليو وليلِيانا أن يقفا في مواجهة بعضهما.
“تعالي إلى هنا ، ملكتي ليلِيانا.”
قال هيليو منادياً باسمها بدقة وهو يمد يده.
ثم إنتشرت الهمسات والتخمينات بين الحضور.
هذا الوضع غير المتوقع كان بالنسبة للبعض مشهداً رومانسياً، لكن بالنسبة ليلِيانا كان كمشهد من فيلم إثارة.
بدأت عيناها الوردية ترتجفان بشكل لا يمكنها التحكم فيه.
في تلك اللحظة، لم يكن أمام ليلِيانا سوى خيار واحد: مد يدها وأخذ يد هيليو.
خطت نحو هيليو بصمت، وسمع صوت خطواتها التي كانت تتناغم مع صمت المكان، لتصل إلى هيليو الذي قبل ظهر يدها وهو يبتسم ابتسامة خفيفة.
“الملكة ليلِيانا، هل ترقصين معي الرقصة الأولى؟”
كان أسلوب هيليو مهذباً للغاية، وهو أمر لم تعتد عليه ليلِيانا من قبل.
لطالما عاملها هيليو كطفلة، لذا كان هذا التصرف مفاجئاً لها.
تسارعت نبضات قلب ليلِيانا بأكثر من معنى.
كانت تفكر في مدى وسامة هيليو، وكان الجميع يراقبون، ومن بينهم نظرات بيستي أيضاً التي كانت تحمل نوايا شريرة.
إذا كان بإمكان العيون أن تقتل، لكانت بيستي قد قتلت ليلِيانا بالفعل بنظراتها، فكانت شدة الغضب في عينيها واضحة للغاية.
لكن كان من المستحيل أن ترفض يد هيليو.
لا يوجد أي امرأة في هذا القصر يمكنها رفض رقصة مع الإمبراطور.
ومع وجه صارم، أجابت ليلِيانا.
“إنه لشرف عظيم لي ، جلالة الإمبراطور.”
___________________________________________
• حسابي واتباد: Toro1312 !!⭐•
《لاتدع الرواية تشغلك عن العبادات》
التعليقات لهذا الفصل " 16"