كانت قلعة كيركا موحشة دومًا، حتى في مواسم الإزهار لم تكن تختلف كثيرًا.
كان بايل يسير في الممرات التي يلفها الصقيع والبرود، مستغرقًا في ذكريات الماضي.
فقد كانت هذه القلعة يومًا ما تعج بالضحكات والركض، حين كان هو وأغريانا يلهوان مع الخادمات في ألعاب المطاردة.
غير أن الدفء اختفى منذ أُبعدت أسرتهم ذات الأربعة أفراد، واستولى كيركا على المبنى بأسره، ليُحوِّله إلى عرين كئيب.
قادته إحدى الخادمات إلى باب غرفة، وما إن اقترب حتى تسللت رائحة الأعشاب الطبية النفاذة من خلفه.
“سيدي كيركا، إنني أنا بايل.”
“ادخل.”
فتحت الخادمة الباب، وخطا بايل إلى الداخل بخطوات واثقة.
كان كيركا، الذي لم يره منذ زمن، ما يزال يحمل آثار المرض الثقيلة على وجهه، عيناه غائرتان كأنما نُزعتا بملعقة، وجسده هزيل يثير الشفقة.
ولأن علّته منذ الطفولة أعاقت نموه، بدا صغيرًا أقرب إلى طفل لم يكتمل نضجه، لا إلى رجل مكتمل. وبجواره بدا بايل، الطويل عريض المنكبين، أضخم وأشد وضوحًا في المقارنة.
قال كيركا وهو يحدّق فيه:
“سمعت أنك أصبحت أخي الآن؟”
أجاب بايل بانحناءة طفيفة:
“نعم. بفضل عطايا دوقنا المعظم.”
ابتسم كيركا ابتسامة ساخرة:
“أتريد أن ترث مكاني حين أموت؟”
“ما أردته فقط هو مقعد في السلالة المباشرة. وهذا أمر تم الاتفاق عليه مع الدوق بنفسه، ويمكنك التحقق منه إن شئت.”
زمّ كيركا شفتيه بغضب، ثم أنزل ساقيه النحيلتين من السرير وحدّق فيه بحدة، إذ لم يكن بمقدوره سوى ذلك.
“إن كان كلامك صادقًا، فأثبته.”
“وبماذا تريدني أن أثبت ذلك؟”
تردد كيركا لحظة قبل أن يقول، كمن يستحي من نفسه:
“هناك شائعة تدور بين الخادمات هذه الأيام…”
عضّ شفته السفلى، وكأنه يخجل من التلفظ بتلك السخافة، غير أنّه كمريض قديم لا يسعه إهمال أي بارقة أمل مهما كانت.
“يقولون إن هناك ساحر أرواح قادر على شفاء جميع الأمراض.”
كاد بايل أن يعترض، فقاطعه كيركا بصوت مرتفع:
“أعرف! أعلم أنه هراء… لكن ماذا يسعني غير أن أجرب كل شيء؟”
“لم أقصد تكذيب الأمر. بل أردت أن أخبرك أنني سمعت شيئًا مشابهًا.”
ارتفعت أذنا كيركا انتباهًا، لم يثق تمامًا ببايل، لكنه لم يستطع تجاهل كلماته.
قال بايل:
“تتردد شائعات أن البارون إيرميل أنفق ثروة طائلة ليستأجر ساحر أرواح. لست متأكدًا، لكن هكذا وصلني الخبر.”
أطلق كيركا ضحكة ساخرة، مسندًا ذقنه على يده وهو يرفع ساقًا فوق السرير:
“تلك الشائعة سمعتها أيضًا. يقولون إنه اشترى حجر أرواح بثلاثين مليون جولد من أجل ابنته الصغرى.”
هزّ بايل رأسه:
“وليس هذا فحسب، بل دفع ثلاثين مليونًا أخرى لمجموعة رينيا.”
تجعد جبين كيركا:
“مجموعة رينيا؟”
“نعم. إنها المجموعة التي تتولى توزيع أحجار الأرواح. ومن تمكن من وضع يده على الحجر الوحيد فلا بد أنه على علاقة وثيقة بدوقية لاوبه.”
حدّق كيركا بعينيه الكئيبتين في بايل، يدرسه بعناية. كان هذا الأخير قد صار حديثًا الابن بالتبنّي لدوق غابرييل، ولا شك أنه سيبذل كل جهده لإثبات قيمته وترسيخ مكانته.
“اذهب إذن، واكتشف لماذا دفع البارون ثلاثين مليونًا إضافية.”
“ولماذا عليّ أن أفعل ذلك؟”
تسمرت عينا كيركا ؛
“ماذا قلت؟”
ابتسم بايل باستخفاف:
“يبدو أنك واهم. لقد دفعت ثمن تبنّيي مسبقًا. خدمت العائلة، وأنقذت حياة الدوق المعظم نفسه. اسمي بات مسجلًا في السجلات الرسمية، أفلا يكفي هذا؟ هل عليّ أن أزحف إليك أيضًا طمعًا برضاك؟”
احمرّت عينا كيركا بالدماء من شدة الغضب، فهو لم يعرف يومًا الصبر. أمسك بكأس ماء ورماه نحو بايل، لكن الأخير التقطه بخفة ووضعه على الطاولة قرب السرير.
قال بايل بهدوء:
“ليس من اللائق أن يرفع الأخ يده على أخيه. فلنكتفِ بالحوار.”
صرخ كيركا:
“حوار؟ مع أمثالك؟”
اقترب بايل خطوة وقال بجدية:
“ألم تكن لك مطالب مني؟ لدي أنا أيضًا مطلب منك.”
أكمل وهو يعيد الكأس إلى مكانه بتأنٍ:
“لقد تذوقت طعم المجد في المعركة، وأدركت أنني أحتاج إلى مزيد من الخبرة العسكرية. لذا أريد أن أتولى تدريب فرسانك.”
صاح كيركا ساخرًا:
“أن أسلّمك فرقتي؟ هل جننت؟”
ابتسم بايل:
“ليس تسليمًا، بل إعارة مؤقتة. أنت مشغول دائمًا، وليس لديك وقت كافٍ لتدريبهم بنفسك. سأقوم أنا بذلك، وأنت تجني ثمرة جيش منظم دون أن تحرك إصبعًا. وفوق ذلك سأوافيك بتقارير دقيقة عن البارون إرميل.”
ظل كيركا يتأمله بعين مرتابة، لكن المنطق لم يكن يترك له مجالًا للرفض. ما الضرر في إعارته الفرسان لبعض الوقت؟ وإن ساءت الأمور، فما أسهل أن يستعيدهم عبر كلمة من والده الدوق.
وأخيرًا، توصّل كيركا إلى قراره.
“افعل ذلك.”
“شكرًا لك. التدريب والتحقيق، كلاهما سيرضيانك.”
غادر بايل مكانه على عجل، وكأنه يخشى أن يطول بقاؤه أكثر فيندفع إلى خنق كيركا بيديه.
لكن على الأقل أنهى ما أمرته به ليليانا بسلام.
فقد غرست ليليانا بعض الخادمات في قلعة كيركا، وجعلتهن ينشرن شائعة تقول: إن مستحضر الأرواح قادر على شفاء كل الأمراض النادرة.
لو كان النبلاء هم من يتحدثون بهذا، لعدَّ ذلك عارًا، لكن حين تكون الخادمات هن من ينقلن الخبر، لا يتجاوز كونه تسلية عابرة. شيئًا فشيئًا راحت الخادمات اللواتي زرعتهن ليليانا ينسجن على تلك الشائعة خيوطًا جديدة حتى غدت مقنعة ومتماسكة.
كيركا بطبيعة الحال أراد أن يتثبت من صحتها، لكنه لم يستطع أن يتحرك بنفسه. أما غابرييل الدوق فلم يكن ليرضى أن يُعرَف عنه أنه يلهث خلف مثل هذه الخرافات.
وهكذا بدا بايل، الابن بالتبني في ذلك التوقيت الحساس، المرشح الأمثل ليُكلَّف بالمهمة.
كل ما خططت له ليليانا وقع كما توقعت تمامًا. وحين سألها بايل عن الخطوة التالية، أجابته ببساطة:
“حينها، قُل إنك سمعت أنت أيضًا تلك الشائعة.”
فقال بايل مترددًا:
“ألم تقولي من قبل إن النبلاء لن يتفوهوا بمثل هذا الهراء؟”
“ذلك في البداية فقط. أما الآن وقد استدعوك بنفسهم، فهذا يعني أنهم بدأوا يرغبون بتصديق ما يُقال. فإذا زعمتَ أنك سمعت الخبر، سيغدو أكثر مصداقية. هكذا هي نفس البشر.”
كانت كلماتها دائمًا تخترق صميم النفس، وكأنها تقرأ الخبايا المستورة. ومع شك بايل، كانت تزيده يقينًا بقولها الواثق:
“حين يأمرك كيركا بالتحقيق، أظهر انزعاجك وقل إن لا سبب لك لفعل ذلك. لكن إن سلّمك فرسانه مؤقتًا، عندها وافق على التحقيق مقابل ذلك.”
“أتريدينني ألا أطالب بالفرسان، بل أستعيرهم فقط؟ ما النفع في ذلك؟”
“النفع كبير. فرسان كيركا لم يروه إلا نادرًا، فهم لا يملكون ولاءً حقيقيًا له. إن اعتنيت بهم جيدًا، ستصبح في أعينهم سيدهم الحق. وحين يحين الوقت… سيقفون إلى جانبك.”
وكان واضحًا أن “الوقت” الذي تتحدث عنه يعني اللحظة التي ينهار فيها بيت غابرييل كليًا، حين ينبغي سلبهم حتى قوتهم العسكرية الأخيرة.
“تذكّر، عليك أن تسرِّب لكيركا أمر مجموعة رينيا والبارون إيرميل. هذه فرصتنا للتخلص من أحد ورثة الدوق الشرعيين.”
كانت ليليانا قد التقت بايل في شارع ناءٍ بعد غياب طويل، ورغم ما بدا عليها من إنهاك جسدي، فإن بريق عينيها كان أشد من أي وقت مضى. إرادتها الصلبة كانت تكاد تُلمس باليد.
والآن بعد أن واجه كيركا، وجد بايل أن نتائج اتباع أوامرها كانت مدهشة ،
ذلك المتغطرس سلّمه مؤقتًا قيادة فرسانه، وأبدى اهتمامًا بالغًا بالبارون إيرميل وبمجموعة رينيا.
طريقة ليليانا في إدارة الناس كانت سرية إلى حد مدهش، ومع ذلك حاسمة. أما كيركا، فلم يخطر له أبدًا أنه مجرد أسير شائعة صُنعت خصيصًا لأجله.
“……إنها حقًا مذهلة.”
ابتسم بايل ابتسامة خافتة وهو يستحضر صورتها في ذهنه، شاع في قلبه شعور بأنه مستعد لفعل أي شيء تطلبه.
حتى وإن كان عاجزًا الآن عن لقائها في قصر أريس، إلا أن شوقه إليها لم يخمد، بل ازداد يومًا بعد يوم.
❈❈❈
ما إن أنهت تعليماتها لبايل، حتى غادرت ليليانا إلى مكان أكثر عزلة.
كانت بلدة صغيرة في أطراف العاصمة، ساكنة حد الرتابة، حتى إن بلدة أرسين الحدودية بدت أكثر حيوية منها.
فالناس هنا يغادرون صباحًا إلى العاصمة للعمل، ولا يعودون إلا ليلًا، لذا يغدو النهار ساكنًا صامتًا.
وفي هذه البلدة بالذات، كان يقيم طبيبة مسنّة اشتهرت بمهارتها العجيبة في كل ما يتصل بالحمل والولادة.
أثارت دعابتها ضحكة خفيفة من ليليانا، ثم قالت بصوت منخفض:
“أظن أنني حامل، وأردت أن أتأكد مرة أخرى.”
هزت العجوز رأسها مبتسمة:
“وهل لا تثقين بالأطباء؟”
“ليس كذلك، لكن… زوجي يترقب الأمر بشغف شديد، ولا أريد أن أخيّب أمله.”
ارتعش قلبها حين لفظت كلمة “زوجي”، وتمنت لو كان الأمر حقًا مجرد حياة هادئة مع من تحب، زوجان عاديان لا أكثر.
أجلستها العجوز وفحصتها بمهارة، كانت حركات يديها المتغضنتين رشيقة على غير المتوقع، بل غمرها دفء غريب جعلها تسترخي كأنها تتلقى تدليكًا لطيفًا.
ابتسمت العجوز فجأة وقالت بحزم:
“أنتِ حامل بالفعل.”
“حقًا؟”
“بالتأكيد. أخبري زوجك، ودعيه يخدمك كما يليق. طالما انتظر هذا الطفل، أليس كذلك؟”
كتمت ليليانا ضحكة صغيرة خلف كفيها. ليس من السهل جعله يخدمني… فكرت في سرها، لكنها وجدت أن مجرد تخيل ذلك لم يكن سيئًا.
“نعم، سأفعل.”
وقد كانت مهيأة للأمر من قبل، فلم ينتبها خوف أو تردد حين سمعت النبأ المؤكد، بل غمرها شعور بالراحة. أدركت في تلك اللحظة أنها كانت، في أعماقها، تريد هذا الطفل حقًا.
ربّتت على بطنها مرات عدة، ثم دفعت الأجرة وغادرت العيادة.
لم يخطر ببالها أن تبحث عن طبيب آخر، فقد بدا يقينها راسخًا كأنما العجوز بثت الطمأنينة في روحها.
اعتلت عربة بهدوء، وعقدت العزم ، الآن حقًا حان وقت أن أخبر هيليو.
♡ ֪ ࣪ ─┄── ♡ ֪ ࣪ ─┄── ♡ ֪ ࣪ ─┄── ♡ ֪ ࣪
حسابي على الإنستا:@empressamy_1213
حسابي على الواتباد: @Toro1316
ترجمة: ✧𝐀𝐌𝐘✧
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 120"