بالنسبة إلى ليليانا كان الأمر “أخيرًا” لقاءَ أمها، لكن في عيون أعدائها لم يكن سوى “في النهاية” بلوغ الكونتيسة ماريين إلى قلب الإمبراطورية الكارلية.
أن تخرج عشيقة الملك من أسوار القصر كان وحده حدثًا عظيمًا، فكيف إذا ما قطعت الأم أرضًا غريبة إلى بلاد بعيدة من أجل ابنتها؟ لقد توافرت لكل الألسن مادة للحديث والغمز واللمز.
“إنها نهاية عهد دوق غابرييل.”
قالها أحدهم بصوت غير خافت، وهو يراقب عربة الكونتيسة تدخل إلى أسوار القصر الإمبراطوري.
كلمات كهذه، قبل شهور معدودة، كانت تعني مقامرة بالحياة، أما الآن فلا أحد حتى تظاهر بالتحفظ أو رفع إصبعه إلى شفتيه طلبًا للصمت.
وكانت أول وجهةٍ للكونتيسة ماريين قصرَ الإمبراطورة الأم. فالعُرف يقضي أن أول تحيةٍ تؤدى في القصر هي لصاحبة المقام الأعلى فيه.
وما إن نزلت من عربتها حتى رفعت بصرها إلى البنيان المهيب، يتملكها سرٌّ خفي من الدهشة ، لم يكن هذا قصر الإمبراطور نفسه، بل مقرّ الأرملة العجوز، ومع ذلك فاق عظمةَ قصر ملك نييتا.
وبما أنّها ليست من أهل البيت الإمبراطوري، فقد كان عليها أن تواصل المسير على قدميها. كان في مشيتها بعض العرج من أثر الجراح، لكنها شدت ظهرها مستقيمًا حتى لا تظهر ضعفًا يجرح كبرياء ابنتها. غير أنّ ثوبها الفخم ووطأة الألم كانا يخونانها مع كل خطوة.
لم تكد تمضي عشر خطوات حتى اندفع إليها فارس يعدو كالسهم، وتساءلت بدهشة ‘ أيسوغ لفارس أن يجري داخل قصر الإمبراطورة الأم؟ ‘
لكن الرجل ما لبث أن انحنى عميقًا وقال:
“سيدتي الكونتيسة ماريين، لقد أذنت جلالتها الإمبراطورة الأم بأن تتابعي طريقك في العربة.”
“وكيف لي أن أرتكب مثل هذه المخالفة؟”
“جلالتها تحبّ سمّو الملكة ليليانا حبًا عظيمًا، ولذلك عدّت مقامك مقام أشرف الضيوف. ورأت أنه لا يليق أن تمشي الكونتيسة بجراحها على هذا النحو.”
فرفعت ماريين بصرها ثانيةً إلى القصر، يملؤها العجب. كانت تعلم أن ابنتها تنعم بمكانة عالية في القصر، لكنها ظنّتها لعبة سياسية تُدار كل يوم، وظلت تخشى مكرها. أما الآن فقد رأت أن ما تحمله الإمبراطورة الأم لابنتها هو أقرب إلى المودّة الحقيقية.
هزّت رأسها إعجابًا وهمست:
“أشكر لجلالتها لطفها وعنايتها.”
ثم أُذن لها أن تدخل بعربتها حتى بوابة القصر. لكن الذي كان في استقبالها لم يكن الأرملة العجوز، بل ابنتها الحبيبة، تلك التي انتظرتها حتى في المنام.
كانت ليليانا تضحك بوجه يغشاه البكاء، وما إن اقتربت حتى فتحت ذراعيها هاتفةً:
“أمي!”
فاندفعت ماريين إليها، واحتضنتها بقوة، ثم تراجعت قليلًا لترى وجهها. ابنتها التي بكت عليها كل ليلة، فإذا بها تقف أمامها أصحّ مما تخيلت، تفوح منها روائح عطرة كأنها استحمّت بالورد. كانت تفتقد عبير طفولتها الناعم، لكن الاطمئنان غلب الحنين.
“يا إلهي… ليلي…ابنتي…”
مدّت يديها لترتّب على وجنتيها، لكن ارتعاشة أصابعها منعتها؛ خافت أن تخدش بشرتها . فابتسمت ليليانا، وأخذت يد أمها تضعها على خدها وتمسح بها.
“أمي، حمدًا للرب على سلامتكِ.”
سرعان ما استعادت الكونتيسة رصانتها وقالت في وقار:
“لقد كان الطريق يسيرًا بفضل الفرسان الذين أرسلتِهم.”
“بل بفضل سماح كبراء القصر. هيا بنا، فثمّة من ينتظركِ.”
نظرت الكونتيسة حولها فلم تجد غير ابنتها في البهو، أحقًّا يجوز لليليانا أن تستقبلها هكذا قبل لقاء الإمبراطورة؟ ألن يُعَدّ هذا خرقًا للبروتوكول؟
لكن ليليانا ابتسمت كمن يطمئن طفلة وقالت:
“لا تقلقي يا أمي، جلالتها امرأة رقيقة حقًا. وفوق ذلك، تنتظركِ في الداخل سيدتي العرّابة أيضًا. ما كنت أظن أن يأتي يوم تلتقيان فيه.”
سمعت الكونتيسة الكثير: أنّ الأرملة باردة القلب حتى إنها ضحّت بولدها، وأن العرّابة ـ السيدة ريستون ـ تحولت بعد موت ابنتها إلى شبحٍ ساكن لا مشاعر له. لكن خطوات ليليانا كانت مفعمة بالبهجة وهي تمسك بيدها.
وصعدتا الدرجات معًا، يدًا بيد، غير مباليتين بالقواعد، والعيون من حولهما تفيض بالسرور المكظوم.
ولما دخلا قاعة الاستقبال، وجدت ماريين امرأتين باسمتين تنتظرانها. كانتا في مثل سنّها تقريبًا، والهيئة وحدها تكفي ليميز المرء بين الإمبراطورة الأرملة والعرّابة.
فانحنت وقالت:
“تشرفني رؤيتكِ يا جلالة الإمبراطورة الأم.”
وانتصبت السيدة ريستون هي الأخرى لتحيّيها، وتبادلت السيدتان النظرات.
“مرحبًا بكِ يا سيدتي. لقد أتعبتني بإبطائك. أوَتعلمين كم خشيت أن ينكسر قلب هذه الصغيرة من طول الانتظار؟ لقد كنت أعدّ الليالي معها.”
كان في كلماتها مزيج من الدعابة والحنان، فأحسّت ماريين بالارتباك وهي تهمّ بالرد.
“أعتذر يا جلالتك. لقد سببت لإبنتي الكثير من العناء.”
“ما أراه من تواضعك يدل على أن الأم وابنتها سواء في الشمائل. هلمّ بنا إلى الحديث جلوسًا ولتقترب الملكة إليّ.”
“نعم، يا جلالتك.”
اقتربت ليليانا وهي تضحك بوجه مشرق، وجلست إلى جانب الأرملة. أما ماريين فجلست بمحاذاتها بمعونة إحدى الوصيفات.
“يا للعجب، كنت دائمًا أتساءل ممن ورثت صاحبة السمو هذا الجمال… فإذا بها صورة من أمها.”
فأجابت ماريين خجلًا:
“تغدقين عليّ أكثر مما أستحق.”
“بل هو الحقّ، وإن عينيّ تشهدان.”
وكان أن تبادلتا الثناء، فارتبكت ماريين؛ لم تعتد مثل هذا الاهتمام. لقد قضت عشرين عامًا في ظلّ الملك كعشيقةً منبوذة، تنوء بعزلةٍ أشد من السجن، حتى ألفت الإعراض ونسيَت حرارة العيون.
أما ليليانا فقد بدا عليها شيء من الحياء، لكنها كانت أكثر ألفة مع مثل هذا الموقف.
ابتسمت الإمبراطورة الأم وقالت مازحة:
“أخبريني يا صغيرة، أما وقد حضرت والدتك، أفلا تعودين ترينني أما ثانية؟”
فبادرت ليليانا بحماس، وقد احمرّت وجنتاها:
“وكيف لي أن أفعل؟ إن ساعتي مع جلالتك أثمن ما أملك! بل إن جلالة الإمبراطور نفسه يلومني قائلًا إنني أهملت مجالسته لأجل جلالتك.”
“حقًا؟ أيمضي ذاك الصبي إلى حد الغيرة مني؟”
“أجل، وما أظنه إلا من شدّة دلاله. وحين قلت له إني أفضّل صحبتك، أجابني أن أترك قصر أريس وأقيم في قصر ماغنوليا.”
وكان قصر ماغنوليا قصرًا ملاصقًا للأرملة، يُخصّ به من تحظى بأعظم مودتها. فابتسمت الأرملة ابتهاجًا وقالت:
“إن صحّ ذلك، فذاك يسعدني كثيرًا؛ سأراكِ كل يوم.”
“وأنا أيضًا، يا جلالتك.”
لكن الأرملة سرعان ما تهدّج صوتها بحزن:
“غير أنني أعلم أن الإمبراطور مازحكِ فقط. أما إذا رُزقتِ ولدًا يومًا، فهلاّ سمحتِ أن يُربى في ماغنوليا إلى جواري؟”
كان وجهها يفيض رجاءً صادقًا، حتى إن قلب ماريين اضطرب خوفًا: ماذا لو لم ترغب ليليانا في ذلك؟ لكن الابنة أومأت بعينين يلمع فيهما الفرح، وقالت:
“نعم، جلالتك. فما من حضنٍ أقدس ولا أنبل لتنشئة الطفل من جوارك.”
“حقًا؟ يا لي من محظوظة! في يوم اجتماع الأم بابنتها أنال أنا هديّة العمر.”
ولم تخفِ السيدة ريستون غيرتها الودودة. لقد كان واضحًا أن الحبّ ينساب في هذا المجلس كما ينساب النسيم. الجميع أحبّ ليليانا بصدق، والجميع أكرم والدتها بالاحترام.
ولم تنسَ ريستون أن تشرك ماريين في الحديث من حين إلى حين، كي لا تظلّ على الهامش. وحين انتهى اللقاء وغادرن القاعة، تبادلن الدعابة والأحاديث الخفيفة.
وعند الوداع، تقدّمت ماريين بخطوات حذرة، وأمسكت يد ريستون وقد غمرها التأثر:
“يا سيدتي ريستون… لست تعلمين كم سررت بلقائك. لما سمعت أنك العرّابة التي آوت ابنتي، بكيت ليلًا من شدّة الامتنان. هي طفلة ضعيفة، فأرجو أن تبقي لها سندًا ومرشدًا.”
تأملت ريستون وجهها الرقيق، ورأت كم يشبهه وجه ليليانا. لم يكن الشبه في الجمال فحسب، بل في النقاء والبراءة أيضًا.
“اطمئني، يا سيدتي. سأكون بجوار صاحبة السمو ما حييت، قوةً وسندًا إلى الأبد.”
كلماتها تلك جعلت قلب ماريين يشرق سرورًا. ثم استقلت ماريين مع ابنتها العربة نحو القصر الإمبراطوري، بينما عادت ريستون لتتهيأ للرجوع إلى مقرّها.
وجلست في عربتها وحيدة، تهمس لنفسها ،
“ما أشبههما… حقًا… ما أشبههما.”
♡ ֪ ࣪ ─┄── ♡ ֪ ࣪ ─┄── ♡ ֪ ࣪ ─┄── ♡ ֪ ࣪
حسابي على الإنستا:@empressamy_1213
حسابي على الواتباد: @Toro1316
ترجمة: ✧𝐀𝐌𝐘✧
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 114"