“لكنني ما إن استيقظت هذا الصباح حتى عاد من تلقاء نفسه! كنت سعيدةً لأنني صرت أستطيع أن أذهب لرؤيتك بنفسي متى اشتقت إليك!”
“تشو تشو…”
مدّت لِيليانا يدها بحنوّ تمسح على رأسها، غير أنّ ملامحها سرعان ما تصلّبت بعزم.
“لا تقلقي يا تشو تشو! نحن نعرف الآن السبيل. سأجمع لك أحجار الرياح مهما كلّف الأمر، وسأستنفر كلّ مستحضر أرواح الرياح في الدنيا لأجل ذلك، أتسمعين؟”
“لكن… لكن لِيلي مشغولة دائمًا…”
“حين تتحرر، ستساعدينني، أليس كذلك؟”
ابتسمت برفق وهي تسأل، فهزّت تشو تشو رأسها بحماسة.
“نعم! سأساعد لِيلي بكل قوتي!”
كان وعدها صادقًا، قوّية النبرة، مفعمة بالثقة. عندها عزمت لِيليانا أن تجمع لها أحجار الرياح أيًّا كان الثمن.
…إلى أن جاء هِيسدين إلى قصر الزمرد، أو بالأحرى ؛ حين وقفت بجانبه ملكة أرواح الماء، “آريا”.
كان قدومه مباغتًا للغاية. صحيح أنّ هِيسدين كان من أكثر الزوار اعتيادًا على القصر، لكن لم يكن هناك درس مقرر في ذلك اليوم.
شعرت لِيليانا منذ البداية بغربة في قلبها، وما إن دخلت آريا معه، حتى تحوّل ذلك الشعور إلى يقين.
“مرّ وقت طويل، أيتها الطفلة الكبيرة.”
“مرحبًا بكِ، يا آريا. أشكرك حقًا لأنك أنقذتَ نهر غاتيس.”
“لا تشكريني. إنّ رؤية الحياة تنبض في جسدي متعة لا تضاهى.”
لم تكن المياه وحدها قد امتزجت بكيان آريا، بل حتى الأسماك والحشرات والنباتات التي كانت تعيش فيها وجدت مأوى آمنًا في حضنها.
رمقتها لِيليانا بجدية، فيما هي تبتسم بوجهها البديع.
“لم يأتِ إليّ هِيسدين، بل أنتِ يا آريا، أليس كذلك؟”
“صدقتِ. لدي ما أُخبر به الطفلة الكبيرة.”
“وما هو؟ هل يُعقل أن ملكة الأرواح العليا لها شأن بروحي الصغيرة؟”
ضاقت عينَا آريا، ثم انحنت قليلًا، فشعرت لِيليانا كأن محيطًا غامرًا يطبق عليها. ارتجفت أصابعها، لكنها شدّت قبضتها وأجبرت نفسها على النظر في عينيها الفيروزيتين. فابتسمت آريا من جديد.
“يا طفلتي الكبيرة… روحك الصغيرة لم يحن أوان تحرّرها بعد.”
“…كنت واثقة.”
حدّقت فيها بحدة وقالت:
“أنتِ من أعاد القيد إلى كاحل تشو تشو، أليس كذلك؟”
“لأكون دقيقة… كل ما فعلته هو أنني همست للظلام بأنّ القيد قد انكسر.”
لكن مهما قالت، لم يكن ذلك خاليًا من إرادتها.
“ولِمَ؟ إنها مجرّد روح صغيرة ووضيعة. إن لعبت، فكل ما تفعله أن تطيّر قبعة أحدهم أو يحل رباط حذائه. فما ذنبها لتستحق عقوبة كهذه؟!”
“يا للعجب… يا له من قلب طيب تملكينه، أيتها الطفلة الكبيرة.”
نظرت إليها آريا بعينين يغمرهما الأسى. ثم صفقت بإصبعها، فارتفعت قطرتان من الماء أمامها، وتشكلتا كيدين شفافيتين احتضنتا وجنتي لِيليانا.
حاولت أن تدفعهما بعيدًا، لكن يديها مرت عبرهما كأنهما سراب.
“رؤية الطيبين متعة عظيمة… لكن هل تعلمين؟ تشو تشو ستقترف ذنبًا لا محالة.”
“…ماذا؟”
ذنب لم يُقترف بعد؟
ارتجفت عيناها الصافيتان باضطراب شديد.
“ماذا تعنين؟ أترين أنها تلقى عقابها منذ الآن على جريمة لم ترتكبها بعد؟”
“نعم، ولكنها سترتكبها حتمًا.”
“هذا هراء!”
وثبت لِيليانا واقفة، فيما آريا تلمس ذقنها بتأمل، كأنها لم تفهم غضبها.
“ظننت أن الطفلة الكبيرة ستفهم، كم هو مؤسف.”
“ماذا أفهم؟ معاقبة من لم يذنب؟!”
“لكنّك تعرفين ما يحمله المستقبل. موتك أمر يخصك، لذا لكِ حرية القرار فيه. لكن ماذا عن ليليت؟ حين تبلغ السادسة من عمرها تقع الفيضانات الكبرى. ولأنها طفلة مباركة، استبقت الأمر وهيّأت الناس. لو أخذنا بكلامك، لعدّ ذلك جرمًا.”
“أي مغالطة هذه؟! ما فعلته ليليت أنقذ أرواحًا لا تُحصى!”
“آه… إذن الطفلة الطيبة ترى الأمر هكذا ، إن أنقذتِ البشر جاز تغيير المستقبل، وإن لم يكن، فلا يجوز تغييره؟”
نظرت لِيليانا إلى آريا وكأنها تراها لأول مرة. كانت تدين لها بالكثير، لولاها لبقيت إمبراطورية كارلو غارقة في حروب لا تنتهي.
لكنها أدركت أنّه لا جدوى من مخاطبة آريا بمعايير البشر. ومع ذلك، سألتها بشغف:
“إذن ما ذنب تشو تشو؟ أي مستقبل تريدين منعه؟”
ابتسمت آريا وعانقتها بقوة.
“طفلتي الكبيرة الحبيبة… سأخبرك يومًا بكل شيء. لكن لا تعطي تشو تشو أحجار الأرواح. أرجوك.”
كانت كلماتها الرقيقة أشبه بذرّ الرماد في العيون، لا أكثر. لم تُعطِها أي جواب حقيقي.
دفعتها لِيليانا بعيدًا وقالت بصلابة:
“لا. سأقف إلى جانب تشو تشو. سأحرص أن تكون تحت ناظري فلا تقترف ما تتحدثين عنه. إنها روح طيبه، وإن أنذرتُها ونصحتها فلن يضل الطريق.”
“هاه… يا لها من إجابة مسلية. أعجبتني.”
ابتسمت آريا ابتسامة واسعة تكاد تشقّ وجنتيها، ثم تلاشت فجأة كنسمة.
لبثت لِيليانا لحظة مذهولة، ثم أفزعها خاطر هائل. هرعت إلى النافذة حيث اعتادت تشو تشو الجلوس، غير مبالية بمقامها كملكة، تشدّ ثوبها بكلتي يديها.
لكن المكان كان خاليًا… لا تشو تشو، لا قيد، لا كرة حديد. لم يبق سوى قطعة بسكويت مهجورة.
أسرعت بخطوات متعثّرة، تتحسس الفراغ حيث كان يجلس. لم يبق أثر، ولا حتى دفء جسده.
“تشو تشو…”
همست بعينين تائهتين في الفراغ.
“تشو تشو… لقد ضاعت بسببي…”
“جلالتك!”
كان أوّل من لحق بليليانا هو هِيسدين. كاد يمدّ يده ليقبض على كتفيها، ثم تذكّر مقامها، فضمّ يديه بهدوء إلى جانبيه.
غير أنّ ليليانا استدارت كالبرق وأمسكت بكتفيه بكل قوّة.
“هِسدين، بلّغ أريا عنّي. قُل لها لن أعطي تشوتشو حجر الأرواح! أبدًا، لن أعطيها! فقط دعونا نعيش بسلام معًا، أنا وهي… أرجوك، قل لها ذلك.”
حتى هِسدين، الذي نادرًا ما يبوح بشيء من عاطفة، بدا عليه الأسى.
“جلالتك، أريا لم تأتِ إلى هنا لتسألك وحسب. لقد جاءت أصلاً لتأخذ روحك الصغيرة. سؤالهـا لك لم يكن سوى فضول عابر. صدّقيني… جوابك ما كان ليغيّر شيئًا.”
“إذن……”
“إذن، مهما قلتِ، فلن تُعيد أريا روحك إليك. فلا تُلقي باللوم على نفسكِ. وأعذريني إذ لم أستطع أن أكون لكِ عونًا.”
كانت نظرات ليليانا دامعة، تتوهّج بالعتب وهي تخترق هِسدين. امتلأ صدرها لحظةً بفيض من الغضب نحوه، لكنّها ما لبثت أن أطرقت رأسها، وأسقطت دموعها على الأرض.
“قلتَ إن العقد كان بالإكراه… نعم، أفهم. لم يكن بيدك حيلة. اذهب الآن، يا هِسدين.”
واستدارت بخطًى مثقلة.
لقد أرسلت صوفيا بعيدًا قبل حين، وها هي الآن تفقد تشوتشو كذلك. صوفيا تعرف مكانها، أمّا تشوتشو فلا أثر له.
شعور العجز كان يتفجّر في جسدها كله. تمتلك النفوذ، والمال يتكدّس بين يديها، لكن لمَ تظلّ عاجزة هكذا عن أن تصنع ما تشاء؟
ناداها هِسدين مرّة أخرى:
“جلالتكِ.”
“لا ألومك يا هِسدين. لا تقلق… سنلتقي في الدرس القادم.”
“ليس هذا ما أردت قوله. لديّ ما أُخبرك به.”
“لاحقًا……”
“جلالتك، أريا تعمّدت أن تُجبِرني على العقد حتى أقترب منكِ. لقد عقدت معي قسرًا، ووعدتني إن دخلت البلاط ودرّستك على أكمل وجه… فستُحرّرني. لا أعلم لمَ تهتمّ ملوك الأرواح بأمور البشر إلى هذا الحدّ.”
شهقت ليليانا همسًا:
“ليليت……”
ارتجفت نظراتها أوّلًا، ثم صارت صلبة براقة.
“هل رأت أنّ ليليت بحاجة إلى أم؟”
“ما الذي تعنينه؟”
“قدري أن ألد ليليت… ثم أموت.”
بدت الدهشة واضحة على وجه هِسدين؛ لم يكن يعلم ذلك. ليليانا مسحت دموعها، ونظرت إليه مباشرة.
“ملوك الأرواح، بمن فيهم أريا، يعرفون. هم يحبّون ليليت حبًا جمًّا. لهذا تحرّكوا. ولهذا أيضًا يعذّبون تشوتشو… لابدّ أن السبب يتعلّق بليليت.”
وضعت أصابعها على ذقنها تفكّر مليًّا.
في الرواية الأصلية لم يكن لذلك تفسير. إذ إن ليليت لم تعقد إلا مع اثنين من ملوك الأرواح، لأنها لم تستطع احتمال أكثر من ذلك. لكن تلك الرواية توقّفت عند عمر السادسة والعشرين. ربما بعد ذلك تجاوزت حدودها، فصارت أقوى، وارتبطت بجميع الملوك الستّة. وربما هناك حدث خطير وقع بعد ذلك.
فهل إذن ولادة ليليانا من جديد داخل الرواية نفسها… كانت من صُنع ملوك الأرواح؟ لعلّهم حاولوا إصلاح ما جرى لليليت… وربما أيضًا منحوها أمًّا حقيقية بهذه الطريقة.
أشرق في ذهنها بريق فكرة:
ربما تستطيع أن تستغلّ حبّهم لليليت لتستعيد تشوتشو… أو حتى لتكسب عونهم.
“هِسدين، هل تقدر أن تستدعي أريا؟ لست أطلب أن تعيد لي تشوتشو حالًا.”
أطرق هِسدين برأسه معتذرًا.
“المعذرة… لقد انقطع العقد.”
ابتسمت ليليانا بمرارة، ثم مرّرت أصابعها في شعرها، وزفرت طويلًا.
“آه… يا لهم من كائنات باردة.”
لكنّها أيقنت في تلك اللحظة أنّ عليها أن تبدأ من حيث انتهت: من البحث عن ملوك الأرواح أنفسهم.
♡ ֪ ࣪ ─┄── ♡ ֪ ࣪ ─┄── ♡ ֪ ࣪ ─┄── ♡ ֪ ࣪
حسابي على الإنستا:@empressamy_1213
حسابي على الواتباد: @Toro1316
ترجمة: ✧𝐀𝐌𝐘✧
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 112"