ما إن دخلت السيّدة رِيستون حتى أخذت لِيليانا تتحرّك بعجلة وارتباك. راح يضيق صدرها من شكل الفناجين غير الجميل، وتحدّثت عن وجوب تبديل مفرش الطاولة، بل وحتى درجة حرارة الشاي التي لم تكن تُبالي بها عادة، أولتها اهتمامًا مفرطًا.
كان من الحسن أن تهتم بضيافة ضيفتها، غير أنّ تلك الحركات المبعثرة لم تكن لائقة بأعراف البلاط الإمبراطوري.
وحين رأت السيدة رِيستون ذلك، نهرتها بصوت لطيف قائلة:
“جلالتك، لستِ تفعلين الأمر نفسه أمام سائر كبار الأسرة الإمبراطورية، أليس كذلك؟”
فاحمرّ وجه لِيليانا وقالت بلهجة خجولة:
“ذلك صحيح. لكن أمامكِ يا أمي العزيزة أشعر أنّني أفقد رصانتي بلا وعي… فارحمي طيشي هذا وعدّيه دلالًا.”
فابتسمت السيّدة رِيستون برضا وهي تملأ وجهها بالسرور:
“إذن لا بأس.”
كانت تعلم أنّ سائر الوصيفات في البلاط يكنّون لِلِيليانا محبة خاصة، فلا أحد كان ليؤاخذها على أخطاء صغيرة، بل يرونها أرقّ وأظرف. ومع ذلك، فإنّ لِيليانا لم تُبدِ مثل هذا التصرّف البسيط مع أحد سوى السيّدة رِيستون.
ثم سألتها رِيستون بصوت مفعم باللطف:
“هل أنتِ، جلالتك، من توسّط لِمنح السيدة ماريين حقّ التجنّيس؟”
“لا، أبدًا. لم يخطر ببالي أمر كهذا، ولم أتخيّل أنّني سألتقي والدتي ثانية في حياتي. غير أنّ جلالته، حين رآني في المرة الماضية أقرأ رسالة من مسقط رأسي، رقّ لحالي على ما يبدو.” “يبدو أنّ جلالته يكنّ لجلالتك عنايةً عظيمة.”
“…… نعم، إنّه يحسن إليّ حقًا.”
ثم سترت لِيليانا وجنتيها المتوردتين بكفها وضحكت في حياء، فأخذت رِيستون يدها وربّتت على ظاهرها بحنوّ.
“برأيي، جلالته لن يقف حجر عثرة في طريقكِ إلى عرش الإمبراطورة. إن أنجزتِ ما يكفي لإسقاط بيت دوق غابرييل، فسيقوم الدليل القوي، ويحين يومكم الموعود.”
هيليو يحب لِيليانا بالفعل.
تلك الحقيقة باتت ماثلة بينهما، غير أنّ كلمة “إمبراطورة” لم ترد فيها.
لكن لِيليانا عقدت العزم ألّا ترتجف من فكرة أنّ أميرة دولة صغيرة لا تليق بمقام الإمبراطورة. فإن هي صارت بنفسها جديرة بالعرش، فلن يكون لهيليو اعتراض.
ابتسمت واثقة وهزّت رأسها.
حينها أخرجت السيّدة رِيستون بعض الوثائق التي أعدّتها سلفًا، وناولتها إيّاها.
كان فيها بيان مُفصّل عن الأرواحيين الذين استقطبهم اتحاد “رِينيا”، والأحجار الروحية التي صاغوها، مع مجموع الحصيلة حتّى الآن.
وبينما تقرأ بتمعّن، اكتشفت لِيليانا بعض الأمور
“يبدو أنّ كثرة التدريب تمكّنهم من إنتاج مزيد من الأحجار الروحية. حتى من لم يُظهروا موهبة عظيمة في البداية، إن واصلوا السعي فهم يستحقّون الاستثمار.”
“نعم. خصوصًا أولئك الذين خاطروا بحياتهم وجاؤوا إلى اتحاد رِينيا منذ البداية، فقد أبلوا جميعًا بلاءً حسنًا.”
“إذن، قدّموا جوائز للرّوحانيين المتفوّقين بحيث يعرف الجميع إنجازهم. سواءً أكانت جوائز مالية أم مناصب في الاتحاد، فامنحوهم ما يبتغون.”
“نعم، جلالتكِ.”
“وأيضًا… عدد أحجار الرياح قليل فعلًا.”
“ذلك لأنّ ثمّة روحانيًا واحدًا فقط عقد ميثاقًا مع روح الرياح، ولا مفرّ من هذه الندرة.”
كانت قد سمعت من أغرينا من قبل أنّ أحجار الرياح نادرة. ولم يكن هذا التفصيل في النص الأصلي، فاستوقفها الأمر. واليوم رأت أنّ وقت استثماره تجاريًا قد حان.
“انتقوا من أحجار الرياح ما هو أجود نوعًا، واطرحوه وحده في السوق.”
“تريدين التشديد على ندرته إذن.”
“نعم. أمّا الرديء منها الذي لا يصلح جوهرةً، فابعثوا به إلى الحدود ليستعمل في إحياء الأرض. فإغراق السوق بالأحجار الدونية لن يجلب سوى هبوط القيمة.”
“حسنًا. وكيف نُحدّد سعرها؟”
“في البداية لا بدّ أن تُعرض في مزاد. سنستثمر الضجة التي أثارها حجر الضوء والظلام بفضل جلالة الإمبراطورة الأم، ثم نطلق الأحجار تباعًا. أمّا حجر الرياح فليُطرح بعد تداول بقية الأنواع ثلاث مرّات. وضعوا له سعر افتتاحي بالغ الارتفاع.”
“كم تريدين أن يكون؟”
أسندت ذقنها إلى كفها قليلًا وفكّرت، ثم قالت:
“عشرة ملايين غولد.”
تغيّر وجه السيّدة رِيستون قلقًا؛ فذلك المبلغ يكفي لشراء بيت مستقلّ في العاصمة.
“…… ألن يكون ذلك مبالغًا فيه؟”
غير أنّ لِيليانا انفرجت بابتسامة مشرقة، مرحّبة بقلقها:
“ردّكِ يجعلني أزداد يقينًا أنّه السعر المناسب. فلا بدّ أن يكون الثمن صادمًا ليُثير الرغبة. أتعلمين؟ أحيانًا يتمنّى الناس امتلاك الشيء لأنّه غالٍ.”
فأومأت رِيستون موافقة.
“إذن فليكن.”
“ينبغي أن تُصاغ الأحجار الأولى بصياغة خاصة. فحين ينخفض سعر السوق في المستقبل، قد يتذمّر المشترون الأوائل. فلنُميز أحجارهم بختم “إصدار أول”، ليظلّ لها قيمة مستقلة.”
“فكرة طيبة. لقد فكرتِ طويلًا في الأمر على ما يبدو.”
ابتسمت لِيليانا بتواضع:
“الفضل يعود إلى مَن حولي دومًا. فهم لا يكفّون عن نصحي.”
وكان ذلك صحيحًا، فبين رِيستون، وهِسدين، ولوسيا، لطالما وجدت بجانبها مرشدين حكماء. وكانت كل يوم تُدهَش من حظّها الطيب بهم.
“هل بوسعي أن آخذ حجر رياح واحدًا لي؟”
“بالطبع، فهو ملككِ أصلًا يا جلالتك.”
أجابت رِيستون على الفور، كأنّها تستغرب السؤال.
“شكرًا لكِ، أمي. أريد أن أقدّمه هدية لجنيّتي الصغيرة.”
فضربت لِيليانا كفّيها فرحة. لقد شعرت بالذنب لعدم اهتمامها بـ”تشو تشو” مؤخرًا، فخالها أنّه سيسعد بهدية من حجر يفيض بطاقة الرياح مثله.
❈❈❈
ما إن عادت السيّدة رِيستون إلى دارها، حتى بعثت على الفور حجر الرياح إلى لِيليانا. كان الحجر مسجونًا في صندوق صغير، يسطع بضياء هادئ يشي بروح الريح الكامنة فيه. وما إن تلقّته، حتى أسرعت بقلب مفعم بالبهجة نحو “تشو تشو”.
“تشو تشو!”
قفزت الأخيرة من مكانها مذعورةً ، وكان على عادتها مستلقية على حافة النافذة، تلتهم قطع الشوكولاتة. وضعت يديها على خصرها وتقطّب جبينها بامتعاض ظاهر، كأنّها قد هُجرت طويلًا.
“لِـيلِي! لِمَ تهملينني هكذا هذه الأيام؟”
“آسفة.”
“بسبب انشغالك الدائم، صرتِ تتركين تلك المرأة الشاذة تجلب لي الحلوى!”
وكانت تقصد بتلك “المرأة الشاذة” أغرينا. فعلى الرغم من أنّ أغرينا كانت تخفي اندفاعها الطفولي أمام لِيليانا، إلا أنّ حبّها للأرواح كان صادقًا لا ريب فيه. كانت كلّما رأت تشو تشو، أطلقت صيحات الدلال من شدّة ظرافته، وأخرجت روحها “فيفي” كي تلعب معها بمرح.
ولأنّ لِيليانا لم تستطع دومًا الاهتمام بتأمين الحلوى لتشو تشو، فقد أوكلت الأمر إلى أغرينا منذ أن صارت وصيفة لها. لكنّ تشو تشو كانت تخفي ضيقًا من ذلك.
اقتربت لِيليانا وجلست على حافة النافذة قربها ووجهها غارق في الأسف.
“هل جعلتك تنتظرين طويلًا؟”
“تشو تشو تنتظر لِيلي دومًا!”
“آه…”
انبهرت لِيليانا من جوابها، ثم أطلقت ضحكة خافتة.
وأخرجت من صدرها الصندوق الصغير ومدّته إليها. أحسّت تشو تشو بما يحويه، فوضعت قطعة الشوكولاتة جانبًا، وارتمت نحو الصندوق.
تمتمت تشو تشو وهي تضع كفّها على الحجر. وما إن فعلت، حتى مال النسيم الساكن فيه نحو راحتها. ولَم يلبث أن تصاعد حول جسدها رياح عاتية تصفر بحدة.
“تشو تشو! ما هذا؟ هل أنتِ بخير؟”
وبينما تصرخ لِيليانا مذهولة،
طَـرَاك!–
تناثر القيد المعدني المثبّت في كاحلها بشظايا سوداء، وتلاشت غشاوة الشرّ التي طالما كبّلتها. كان ذاك القيد قد استعصى على الكسر أكثر من نصف عام، فإذا به ينهار بلمح البصر.
“هـ… ها؟”
تعالت شهقة لِيليانا، وإذا بتشو تشو ترتفع في الهواء. كانت السلسلة ما تزال متصلة بكاحلها، غير أنّ ثِقَل القيد قد زال، فصار خفيفًا كريشة.
“هل هذا يعني أنّكِ تستطيعين الطيران؟ تشو تشو، هل عادت قوتك؟”
“ما زالت السلسلة متعبة… لكنني أظن أنني أستطيع الطيران!”
قالتها بتبرّم وهي تشير إلى القيد، ثم لم يلبث أن قفزت في الهواء تدور في دوامات بهلوانية، حتى أشرق وجهها بالفرح.
“يا لِلدهشة، لِيلي! أنتِ حقًا أعظم صديقة في العالم!”
واندفعت نحوها تطبع قبلة على أنفها الصغير. فضحكت وهي تربّت على ظهرها بسبّابتها وتغمز أنفها.
“لم أتخيّل أبدًا أنّ الأمر سينتهي هكذا. أردت فقط أن أُهديك شيئًا مألوفًا… أيمكن للأحجار الروحية أن تمنحك القوة؟ لِمَ لم تخبريني؟”
“أنا نفسي لم أتذكر إلا حين رأيت الحجر!”
“تتذكرين؟! أَعادت إليك ذاكرتك؟”
هتفت لِيليانا بذهول، لكن تشو تشو تشابك ذراعيها في الهواء وهزت رأسها.
“كل ما تذكرتُه أنّني قادر على أكل الأحجار الروحية… لا غير. آه، كم هو أمر محبط!”
أخذت تتذمّر، فأطلقت لِيليانا ضحكة دافئة.
“لا تقلقي، تشو تشو. سأجلب لك المزيد من أحجار الرياح.”
“حقًا؟”
“لن يكون كثيرًا، لكن… سيبقى بعض الفائض. وإن لم يصلح للبيع، فسأطلب أن يعطوني إيّاه لك.”
“أحبكِ يا لِيلي!”
طارت بخفة لتطبع قبلة صغيرة على خدها، كانت كلمسة فرخ عصفور، فابتسمت من أعماق قلبها وقد غمرتها الطمأنينة. على الأقل استطاعت أن تجبر تقصيرها نحوه بعض الشيء.
ثم بادرت إلى كتابة رسالة للسيّدة رِيستون، ترجُوها أن ترسل لها حتى الأحجار المعيبة من الرياح.
❈❈❈
لكن ما إن أشرقت شمس اليوم التالي، وذهبت لتفقّد تشو تشو، حتى وجدتها جالسةً على حافة النافذة شاحبة الوجه. كان القيد الملعون قد عاد ليطوّق كاحلها، وعلى طرفه كرة الحديد السوداء التي تحطّمت بالأمس.
“تشو تشو!”
صرخت لِيليانا مرعوبة، فاندفعت نحوه. رفعت عينيها الجميلتين وقد غمرهما الدمع، ثم انفجرت في بكاء مرير:
“لـ… لِيلي! أنا… أنا لم أعد أستطيع الطيران!”
♡ ֪ ࣪ ─┄── ♡ ֪ ࣪ ─┄── ♡ ֪ ࣪ ─┄── ♡ ֪ ࣪
حسابي على الإنستا:@empressamy_1213
حسابي على الواتباد: @Toro1316
ترجمة: ✧𝐀𝐌𝐘✧
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 111"