منذ زيارته الأخيرة إلى المقبرة الإمبراطورية، بات هيليو يرتاد قصر الزمرد بوتيرةٍ متزايدة. وبعبارةٍ أوضح: باتت الليالي التي يمضيانها معًا أكثر تكرارًا.
منذ أن اعترف بمشاعره وعرّفها على أنها “حب”، صار هيليو أكثر جرأةً في إغواء ليليانا.
حين اقترح عليها الاستحمام معًا، كانت على وشك أن تفقد وعيها من الصدمة.
لكن الرجل المبلل كان جميلًا على نحوٍ لا يُحتمل، فكان لا بد أن تفقد وعيها مجددًا في اليوم التالي — ولكن هذه المرة، لأسبابٍ مختلفة تمامًا.
وفي إحدى الليالي، وبينما كان هيليو يُداعب كتف ليليانا بأناملِه، لمحت عيناه شيئًا شاحب اللون فوق المنضدة الجانبية. كان ظرفًا قد فُتح من قبل، كما يبدو.
ما إن مدّ يده نحوه، حتى صفعت ليليانا يده بحدةٍ صدح لها الهواء، ثم اتخذت ملامحها تعبيرًا باردًا مُتصلّبًا.
“لا تفعل.”
نادِرًا ما كانت ليليانا تتحدث بتلك النبرة الحازمة، فاشتد فضول هيليو على الفور.
“حين تقولين لا بهذه الطريقة، أرغب برؤيته أكثر.”
“قلت لك لا!”
“لماذا؟ هل تخفين عشيقًا عني؟”
“وهل أملك تلك المهارة أصلًا؟”
ضيّق هيليو عينيه وهو يُحدّق بها بريبةٍ واضحة.
“يبدو أنك لا تعرفين. فيكِ من سمات العابثين ما يكفي.”
ضحكت ليليانا ساخرة، ثم أمسكت بالرسالة وأرته الظرف فقط.
[إلى ابنتي العزيزة… من الكونتيسة ماريان.]
“أرأيت؟ مجرد تبادل رسائل بيني وبين والدتي.”
كانت تراقب هيليو بطرف عينها، كما لو أنها راغبة في قراءة الرسالة من جديد، لكنها لا تود أن يقرأها هو كي لا يسخر منها لاحقًا.
تمدّد هيليو على جانبه، وأراح ذقنه على راحته.
“لن أقرأها… لكن أرجوكِ، اقرأِيها أنتِ لي.”
“حقًا؟”
“حقًا.”
ولأن هيليو لم يكن قط ليخلف وعدًا قاله بهذه الجدية، بدأت ليليانا تقرأ الرسالة بصوتٍ خافت، وهي تحدّق في عينيه مباشرة.
لم يقرأ هيليو سطرًا واحدًا من محتوى الرسالة، لكنه وجد متعة أكبر بكثير في تتبع ملامح ليليانا المتغيرة.
عيناها اللتان تنحنيان بحنانٍ شاحب، وشفاهها التي تكتم شيئًا يوشك أن يُبكيها…
‘ أهذا هو الحنين؟.’ سأل نفسه.
رغم أنها أكدت له مرارًا أنها لن تذهب إلى أيّ مكان، إلا أن من يحمل شوقًا لشخصٍ ما… ألن يتوق للعودة؟ ألن يحترق قلبه كالإمبراطورة الأم التي ظلت تبكي وطنها القديم؟
وما إن خطرت له هذه الفكرة، حتى تجمدت تعابير وجهه.
وما لبثت ليليانا أن لاحظت ذلك على الفور، فراحت تتفرس ملامحه بدهشة.
“ما بالك؟”
“لا شيء.”
“هل أطلتُ القراءة؟”
“لا… تابعي.”
لكن ليليانا طوت الرسالة، وأعادتها إلى المنضدة، ثم زحفت بهدوء حتى أسندت جبهتها على صدره القاسي.
“سأكمل قراءتها حين ترحل جلالتك. الوقت ما زال أمامنا.”
وبينما كان يستمع إلى همساتها اللطيفة، تبادرت إلى ذهن هيليو فكرة واحدة:
إن كان ما تفتقده ليس موجودًا هنا… فلنجلبه إلى هنا.
❈❈❈
بعد غيابٍ طويل، بدا الكونت راكل أكثر حيويةً ونضارة مما كان عليه في أول لقاء.
قيل إنّ نساءً نبيلات كثيرات قد وقعن في غرامه، حتى إن سكرتيره غرق في سيلٍ من رسائل الحب.
“حين تُقرّر الزواج مجددًا، ستدعوني، أليس كذلك؟”
سألته ليليانا مازحة، فضحك الكونت ضحكة عريضة من أعماق قلبه.
“جلالتك تسخر مني أيضًا؟ أنا بالكاد أملك وقتًا لأُعيد بناء النصف المتبقي من الشركة، ناهيك عن الحب والزواج!”
“لكن الحب لا ينتظر الفراغ، بل نصنع له الوقت!”
“هاها، معكِ حق. لكن صدقًا، لا زواج في الأفق… ولا حتى حب.”
تبادلا الحديث كما لو لم يكن بينهما غياب، كأن الزمن لم يُفرّق بين روحَين بهذا الانسجام.
“تلقيتُ مؤخرًا رسالة من الكونتيسة ماريان عبر سكرتيري، ولا أظنها أرسلت غيرها. فهل لي أن أسأل، ما سبب هذه الزيارة؟”
“كنت لأقول إنني أتيتُ لرؤيتك فحسب، لكن بعد هذا الانقطاع لا يحق لي أن أتظارف.”
ابتسمت ليليانا بلطف وقالت:
“ليس القرب هو من يصنع الصدق. الصديق الحقيقي هو من تبقى نيته طيبة حتى لو فرّق بينكما الانشغال. فلا داعي للقلق.”
لم تُظهر ليليانا الكثير من الدهشة، إذ اعتادت على زيارات خدم القصر الإمبراطوري إلى قصر الزمرد.
فقد أُرسلت لها المجوهرات، والفساتين، بل وحتى مناجم صغيرة. لكن يبدو أن هذه المرة… الهدية أكبر بكثير.
“نعم. كان جلالته يفضّل أن يُبقي الأمر سريًّا، لكن بعض الإجراءات تتطلّب تعاونك فالهديّة… ليست من الأمور المعتادة.”
“وهلّا أخبرتني ما هي؟ طريقة حديثك تُخيفني.”
بدأت ليليانا تشعر بشيء من القلق. إن وصلت الأمور إلى حدّ “الإجراءات” و”العُرف”، فالهديّة حتمًا شيء ضخم.
“ينوي جلالته أن يُشيع خبرًا… بأن جلالتك قد أصيبت بالحنين إلى الوطن، وأنك تعتزلين الظهور لبعض الوقت.فإن أكثرتِ من التنقل والحركة، قد تفسدين الأمر.”
“…الحنين؟”
رمشت ليليانا بعينيها الكبيرتين، وقد علا وجهها تعبيرٌ بالغ الدهشة، إذ لم تستوعب ما سمعته بعد.
هديّة يتدخّل فيها الإمبراطور شخصيًّا، لكنها مع ذلك قد تُثير اعتراضات بسبب الأعراف… واستئجار الكونت راكل، لا غيره… ثمّ الطلب منها أن تتظاهر بأنها مصابة بالحنين إلى الوطن.
تذكّرت حين لمح هيليو رسالتها مع الكونتيسة ماريين.
كلّ هذه التفاصيل، تجمّعت في ذهنها كقطع أحجية لا تلبث أن تشكّل صورة واحدة.
مدّت يدها إلى فنجان الشاي لتتظاهر بالتماسك، لكنّ يدها كانت ترتجف، فصدر صوت خافت من اصطكاك الفنجان بالصحن.
قبضت على معصمها، وأخذت نفسًا عميقًا لتهدئة نفسها.
“…الكونتيسة ماريين هي عشيقة ملك نييتا. حتى وإن لم يكن يُولي زوجته اهتمامًا، تظلّ تلك الحقيقة قائمة.”
أجاب الكونت راكل بثقة هادئة:
“صحيح. ولكن ما الذي لا يستطيع إمبراطور هذه الإمبراطوريّة فعله إن أراد؟”
“مع ذلك، ستنهال الاعتراضات من كلا البلدين بذريعة الأعراف والتقاليد.”
“لن تُقدَّم على أنها ستُجنّس مباشرة. سنُعلن أنها مجرّد زيارة قصيرة. سنشيع أن جلالتك تعانين من حنينٍ قاتل لوطنك وقد أثّر على صحتك. وحين تتحسّنين، سنُرجعها. بهذه الطريقة، لن يتمكن ملك نييتا من الاعتراض طويلًا.”
كلّما شرح راكل خطته، كلّما بدا الأمر أقل تهوّرًا، وأمكن لليليانا أن تستعيد رباطة جأشها.
أعادت فنجان الشاي الذي لم تذقه إلى مكانه وقالت:
“ومتى تصل إلى أراضي الإمبراطورية، لن يقدر أحد من مملكة نييتا على انتزاعها من هنا. أما أنا، فسأتحجّج بشتى الأعذار.”
“هذا مؤكد. سيأخذ الأمر بعض الوقت، لكن جلالة الإمبراطور وعد بمنحها لقبًا جديدًا. وإن أصبح نجل جلالتك ملك نييتا في المستقبل، فسيكون الأمر أسهل بكثير.”
آه، أجل… لقد نسيَت. لقد جاء الكونت راكل إلى إمبراطورية كارلو أصلاً ليُمهّد الطريق ليصبح ابن ليليانا ملكًا على نييتا.
وفي خضم هذه المعمعة السياسية، عليها أن تحمي والدتها.
حين استوعبت ذلك، عاد إليها النشاط وكأن قوة خفية تسري في عروقها.
لاحظ الكونت راكل بريق الحياة وقد عاد إلى عينيها، فقال بنبرة مفعمة بالفخر:
“جلالتكِ، لقد صرتِ أقوى بكثير مما كنتِ عليه في لقائنا الأول. حين رأيتكِ آنذاك، تساءلتُ كيف لمثل هذا الجسد الصغير أن يواجه كل تلك المحن. أما الآن، فلا يبدو أن هناك ما يُقلق.”
أجابت مبتسمة بخفة لاذعة:
“وأنت أصبحتَ أكثر دهاءً من ذي قبل.”
ضحك راكل ضحكة صافية، ثم انحنى انحناءة عميقة كما اعتاد. وما إن غادر قاعة الاستقبال، حتى وضعت ليليانا يديها على فمها وأطلقت صرخة صامتة.
الكونتيسة ماريين قادمة إلى إمبراطورية كارلو. أمّي التي لطالما حلمت بلقياها… سأراها أخيرًا!
ما إن وصلها الخبر من الكونت راكل، حتى استدعت ليليانا السيّدة “ريستون” إلى قصر الزمرد.
كانت تتوق إلى الذهاب بنفسها، لكن بما أنها ستتظاهر بالحنين المرضي منذ اليوم، لم يكن ذلك ممكنًا.
وصلت ريستون على عجل، كما لو أنها طارت إليها فورًا.
وما إن أبصرت ليليانا من بعيد، حتى خالفت كل الأعراف، وأسرعت بخطى شبه راكضة.
“جلالتك! هل حدث أمرٌ سيّئ؟…”
كان وجه ريستون شاحبًا، لكنها لم تكد تُكمل جملتها حتى ارتمت ليليانا في أحضانها وعانقتها بقوّة.
“مربيتي! أشكركِ كثيرًا لقدومك بهذه السرعة!”
ابتسمت ريستون وقد تنفّست الصعداء. ثم بدأت بالتوبيخ كأنها تتحدث إلى ابنتها الصغيرة:
“جلالتك، حتى وإن كان هذا القصر هو قصركِ، لا ينبغي لكِ أن تركضي بهذه الطريقة. ماذا سيظن الخدم إن رأوكِ هكذا؟”
ضحكت ليليانا وقالت بمكر:
“لكنكِ أنتِ أيضًا ركضتِ، وقد رأيتكِ بنفسي!”
“ذاك لأن…”
أرادت ريستون أن تُجادل، لكنها لم تستطع مقاومة ذلك الوجه المشرق. بدا لها أن من الأفضل أن تترك لها حرية التصرف.
عانقتها مرة أخرى ثم أفلتتها. فرغم حنانها، كانت ريستون بطبعها خجولة من التلامس الجسدي.
“سمعت إشاعة بأنكِ مريضة بالحنين إلى الوطن، فخشيت أن يكون قد وقع أمر سيّئ. لكن الآن، وقد رأيتكِ بهذا النشاط، يبدو أنّ هناك خبراً سارًا.”
“أجل! منذ أن جئتُ إلى هذه الإمبراطورية، لم أشعر بالفرح كما أشعر به اليوم، إلا عندما وافقتِ على أن تكوني مربيتي!”
لم تستطع ريستون أن تُبعد ناظريها عن ابنة قلبها. كأن كل ما تنطقه كان عذبًا كغناء كناري.
“وما هو هذا الخبر الذي يوازي في قيمته أن أكون عرابتكِ؟”
“أعدكِ ألا تندهشي كثيرًا…”
“سأحاول، تفضّلي.”
“والدتي، الكونتيسة ماريين، ستأتي إلى إمبراطورية كارلو! بل إن جلالة الإمبراطور وعد بالمساعدة على تجنيسها أيضًا! سيستغرق الأمر وقتًا، لكن… هذا حقيقي!”
قالت ليليانا ذلك بوجه يشعّ ضياءً.
تجمّدت ريستون للحظة من شدّة الدهشة، ثم ارتسمت على وجهها ابتسامة هادئة.
“يا إلهي… أحقًّا هذا ما حدث؟ ولكن… أليست الكونتيسة ماريين عشيقة ملك نييتا؟ أخشى أن يُعارض الأمر ويفسد الخطط.”
“هناك طريقة لحلّ ذلك! تعالي، لنكمل الحديث داخلًا مع فنجان من الشاي!”
سحبتها ليليانا من ذراعها، وكانت تتحدث بحماس لم يُخفِه مشيُها السريع.
“أنا متحمسة جدًا! أريدكِ أن تلتقي بها يوم وصولها. أشعر أنني سأكون متوترة للغاية، فهلا انتظرتِ معي في ذلك اليوم؟”
“…بالطبع، يا طفلتي.”
كانت ريستون تمشي خلفها، وعيناها مثبتتان على مؤخرة رأسها المدورة… وكان في نظرتها حنان لا يُخطئه القلب.
لكن شفتيها بقيتا مضمومتين، وملامحها لم تعد بذلك الصفاء الذي بدت عليه عند دخولها قصر الزمرد.
♡ ֪ ࣪ ─┄── ♡ ֪ ࣪ ─┄── ♡ ֪ ࣪ ─┄── ♡ ֪ ࣪
•فضلاً ضع نجمه واكتب تعليق يشجعني على الإستمرار⭐•
حسابي على الإنستا:@empressamy_1213
حسابي على الواتباد: @Toro1312
ترجمة: ✧𝐀𝐌𝐘✧
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب من بيلادونا، التي كانت تجلس ساكنة على السرير. وأمسك ذقنها بلمسةٍ خشنةٍ ورفع رأسها للأعلى. “كيف أجعلك تتحدّثين؟” “….” نظر إلى عينيها المرتجفتين، ركل لسانه وأرخى قبضته على ذقنها واستدار....مواصلة القراءة →
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب...
التعليقات لهذا الفصل " 110"