نبرة هيليو الواثقة ملأت قلب ليليانا بالحزن. فمدّت يدها فوق يده الموضوعة على ذراعها، تُحيطها بكفّها.
رغم برودة الطقس، إلا أنّ جوّ المبنى كان دافئًا. ومع ذلك، كانت يد هيليو باردة كجسدٍ بلا حياة، قاسية لا تنبض بحرارة البشر.
قبضت ليليانا على يده بكلتا يديها بإحكام.
قالت بصوتٍ خفيض:
“هيليو، لقد فتحت هذا الباب بالذات من بين كل الأبواب. أليس لأنك ما زلت تحبّ السيد أدوينيا وتفتقده؟”
صمت هيليو طويلًا، ثم تمتم:
“…لكن، هل أستحقّ ذلك؟”
“ولِمَ لا تستحق؟”
نظر هيليو إلى يدَيه المحتضنتين بدفء يدَيها، وقال بنبرة تنضح بالسخرية من نفسه. فقد ارتكب فِعلة شنيعة، ومع ذلك راقه هذا الدفء، وأراد أن يبقى فيه، أن يحيا فيه.
وحاول أن يُبعدها بنبرةٍ حادّة متعمّدة:
“الناس يقولون إني قتلتُ أخي.”
لكن ليليانا أجابته بثبات:
“لا أعلم ما جرى في الماضي. لكن ما أعلمه جيدًا… هو أنّك لست من يقتل من يحبّ.”
رفع هيليو عينيه إليها، فالتقت نظراتهما. كانت عيناها كما عهدها دومًا، صادقة، لا يخفت فيها بريق الإرادة.
كثيرون تكلّموا أمامه بكلامٍ لطيف، لكن عيونهم كانت ميتة، خالية. أما الصادقون حقًّا، كالأميرة لوسيا، فلم ينبسوا ببنت شفة عند الحديث عن أدوينيا.
مرةً واحدة فقط، تمتمت لوسيا وهي تنظر في الفراغ:
“لا بد أن هناك سببًا… سببًا لا أستطيع فهمه، ولا أرغب حتى في محاولة فهمه.”
لكن ليليانا كانت الأولى التي صدّقته دون شرط، وآمنت ببراءته من غير التماس أعذار أو الهرب من السؤال.
ولم يكن هيليو يريد منها أن تعرف الحقيقة. لم يُرِد أن تُبصر جوانبه المظلمة.
أراد فقط أن تُبصر القصر الذي منحه لها، الذهب، الراحة… لا الجراح.
لكن ليليانا كانت مختلفة.
قال وهو يبتسم بمرارة:
“لقد قلتِ في أحد الأيام إنني أحبّك كثيرًا.”
“نعم، وهل تغيّر قلبك؟”
“لا أعلم. أظنّك تعرفين قلبي أكثر منّي.”
وفي عينيه، وهي تحدّق فيه، رأَت طبقات من المشاعر التي تراكمت منذ زمن طويل، حتى بهت لونها ولم يعد يلحظها أحد… إلا هي.
تابع وهو ينظر إليها بعمق:
“ربما… ربما تستطيعين فهم ما كان يشعر به أخي. لكنّي أخشى، إن سمعتِ القصة كاملة، أن تخافيني أنتِ أيضًا.”
وهنا تذكّرت ليليانا شيئًا.
لماذا لم يظهر ماضي هيليو أبدًا في الرواية الأصلية؟
السبب ببساطة هو أن هيليو لم يَروِ قصته لليليت قط.
لقد أحبّ ليليت. أراد أن يكون أبًا مثاليًا، دافئًا، حنونًا، لا ينكسر.
ففي عينيه، كانت ليليت شخصًا عليه أن يحميه، لا من يُلقي عليه ثقله، لا من يبحث لديه عن العزاء.
مجرد رؤيته لها تكبر، كانت تكفيه ليتجاوز ماضيه ويمضي.
لكن ليليانا… لم تكن ليليت.
ليست ابنةً وجب حمايتها، بل شريكة، رفيقة، تسير بجانبه لا خلفه.
وضعت ليليانا يدها برفق على ظاهر يده، تربّت عليه بطمأنينة وقالت:
“أنا قوية، وتعلم ذلك.”
كانت نبرتها الواثقة كفيلة بأن تذيب الجليد المتراكم في صدره.
فبدأ يحكي… لأول مرة، بصوت مسموع.
أخبرها عن كل شيء.
عن السبب الذي جعله يمدّ يده لدوق غابرييل.
ولماذا رفض توسّل أدوينيا.
ولماذا كانت كلماته لأخيه قاسية إلى هذا الحد.
وكانت عينا ليليانا تستمعان كما لو أنّ كل ما يقوله خيطٌ من حزنٍ خالص. لم تحمل أي ازدراء، بل كانت مرتعشة بالحزن، مليئة بالشجن.
ولم يعلم هيليو ما إن كان يحق له أن يُنظَر إليه بتلك العيون.
ثم تمتم:
“…وعندما عدتُ إلى قاعة العرش، كان أخي قد مات. طعن قلبه بنفسه، وجلس على العرش… كأنه يحاول أن يحميه منّي.”
كان يبحث عن معنى في فعل أخيه. وكان يشعر، في أعماقه، أن ليليانا قادرة على فهمه… على فكّ الشيفرة الموجعة.
لكنها لم تكن نبيّة، ولم تُسجّل الرواية الأصلية شيئًا عن دواخل أدوينيا.
كلّ ما استطاعت إدراكه… هو كم من الألم احتضنه قلب هيليو، كم ظلّ يحمله وحده، بصمت، حتى تعفّن داخله.
مدّت يدها، ومسحت بلطفٍ على خدّه البارد.
“هيليو، مَن قتل أدوينيا ليس أنت. بل هو دوق غابرييل.”
صمت هيليو، فتتابعت ليليانا:
“لقد قلتَ إنّ أدوينيا طيّب القلب. لكنّه لم يكن ضعيفًا، أليس كذلك؟ أن يطعن نفسه ليحمي العرش… تلك ليست شجاعة ضعفاء.فهل حقًّا كان يمنعك أنت؟ أم أنه كان يمنع غابرييل؟”
قال بنبرة شاحبة:
“…لم أكن أريد سماع هذا النوع من الكلام.”
أجابت بهدوء:
“كنتَ تسأل عن مشاعره، أليس كذلك؟ أنا أؤمن أن من يسعى للخير لا بد أن يكون أقوى من غيره. لهذا، لا أظن أن أدوينيا اختار الموت فقط لأنك خالفتَه. ربما… فقط ربما…”
تلعثمت الكلمات على شفتيها، وغمرها شعور جارف، فصمتت.
تنفّست، ثم استعادت صوتها، وفي تلك اللحظات، لم يكن هيليو يلتفت لشيء في العالم سوى صوتها ونظراتها.
“ربما… كان يتمنى أن تصعد أنت إلى العرش.”
ما إن أنهت ليليانا جملتها، حتى أدار هيليو وجهه بعيدًا عنها، فارتفعت يدها التي كانت تلامس وجنته في الهواء، مُعلّقةً بلا سند.
ضمّت ليليانا أصابعها في توسلٍ خافت، وقالت:
“كيف كانت الأوضاع وقتها؟ هل كان ثمة من يستطيع الوقوف في وجه دوق غابييل؟ هل كان لك خيار آخر لتعيش كإنسان بعد مقتل الإمبراطور السابق؟”
قال بصوت متصلب، كمن يُغلق قلبه بأبواب من حديد:
“لو أصبح أخي إمبراطورًا، لما كان مصيري يهمّني.”
لكن ليليانا لم تسمح له بالهروب من ألم الحقيقة، فاحتضنته بقوة.
“لا أظن أن أدونيا كان ليرضى بذلك. لا أن يُنفى شقيقه المحبوب إلى أرض قاحلة بتهمة قتل الإمبراطور، ولا أن يُحبس في قصر مهجور إلى الأبد، ولا أن يُرجم بكراهية الناس حتى يموت. لا… لم يكن ليبتغي لك هذا المصير.”
رفعت ليليانا رأسها عن صدره، ونظرت إليه بعينين تشعّان صدقًا:
“أدونيا، على الأرجح، لم يكن يمانع أن يُضحّي بنفسه… ما دام يعلم أنك ستكون بخير. لذلك، لم تكن أنت من قتله. ما قتله هو تلك الظروف التي لم تترك له مهربًا، والدوق غابرييل الذي صنعها.”
خفض هيليو رأسه، وأسند جبينه إلى جبينها. تملّكه سؤال: لمَ تتحدث بهذه الحرقة؟ لمَ تُدافع عني وكأن حياتي حياتها؟
ضمّها إليه أكثر، وبأقرب مسافة بين اثنين، أفرغ قلبه لها:
“غريبٌ هذا… أريد أن أصدّق كلّ ما تقولينه، مهما بدا مستحيلاً.”
“صدّقني، يمكنك أن تفعل.”
“حتى فكرة أن أخي ظل يحبّني حتى لحظة موته؟ أليست وهماً جميلاً لا أكثر؟”
“بل هي الحقيقة. صدّقني.”
كان في نبرة ليليانا ثقة مطلقة، كأنها تُقسم له على صدقها.
نظر إليها هيليو بعينٍ مفعمة بحنانٍ لم يُرَ على وجهه من قبل، ثم مال برفق ليطبع قبلة خفيفة على شفتيها.
لكن ليليانا شهقت بارتباك، ودفعته قليلاً وهي تهمس:
“هنا… هنا يرقد أدونيا! لا يصحّ!”
ضحك هيليو بهدوء وقال:
“ولكنك لم تُمانعي حين كنا في الحديقة.”
“لأني لم أكن قد التقيت بأدونيا من قبل! ماذا لو ظنّ أني امرأة غير محترمة؟!”
تلعثمت، وأرادت الابتعاد، لكن هيليو لم يُفلتها، بل ضمّها إلى صدره أكثر، ضاحكًا، وكأنها طفلٌ يحاول الهرب من حضن دافئ.
ورغم ارتباكها، لم تكن ليليانا تمانع في أن تبقى بين ذراعيه، بل أحبّت تلك القفزات التي يُحدِثها ضحكه في صدره كلما التصق بها.
قال بهدوء:
“ليلي…”
“نعم؟”
“إن كنتِ على حق، فهذا يعني أنني… أحبكِ، أليس كذلك؟”
سؤاله بدا طفوليًّا. لا يشبه اعترافًا، ولا يُمكن أخذه بجدّية، ومع ذلك، كان كافياً ليزرع في قلبها رجفة.
قالت بخفة:
“صحيح.”
فأردف بسذاجة ساحرة:
“وأنتِ؟ تحبينني… نوعًا ما أيضًا؟”
أرادت أن تقول: أنا أعشقك، أنت أغلى ما في هذا العالم، وأقسم أنني مستعدة لتغيير قدري كله لأجلك.
لكن الكلمات احتبست في حلقها… فما زالت لا تظن أنها تستحق قولها بعد.
ربتت على ظهره وقالت بهمس:
“ليس الآن. لا أستطيع أن أقول ذلك بعد.”
كان هيليو رجلاً يعرف كل شيء، إلا العواطف. لذا، لم يفهم ما عنته، ونظر إليها بعينٍ ممتلئة بالخيبة.
“ليس الآن؟”
“أجل. ليس بعد.”
“يا لكِ من امرأة قاسية.”
زفر تنهيدة طويلة، ثم حرّرها من حضنه، لكنّه أمسك بمعصمها بإحكام وقال:
“فقط لا تقولي لي إنكِ ستذهبين.”
ضحكت ليليانا بحرارة، وكأنها سمعت نكتة لطيفة:
“وأين سأذهب؟”
لكن رغم ضحكتها، شعر هيليو بوخزٍ خفيّ في قلبه… وكأنها ستغادر يومًا.
بل، الأسوأ… كأنه ودّعها ذات مرّة، في زمنٍ آخر.
هل هذا وهمٌ من أوهام الحب؟ أم ظلّ من ظلال فقدٍ لم يندمل؟
نظر إليها مرارًا، يريد طمأنينة، لكن ابتسامتها كانت جميلة لدرجة أوجعته أكثر.
❈❈❈
بمجرد عودة الاثنين من مقبرة العائلة الإمبراطورية، جاء “تيرنز” بتقريرٍ عن مراسم الذكرى.
المفاجأة؟ دوق غابرييل لا يزال في القصر الإمبراطوري، رغم انتهاء المراسم منذ وقت طويل.
“مقزِز…” تمتمت ليليانا وهي تكتم اشمئزازها، فما كان من هيليو إلا أن وضع يديه على أذنيها، وأمر بالتوجّه مباشرة إلى قصر الزمرد.
قال بصرامة:
“لا تسمحوا له بالحصول على غرفة.”
ترددت ليليانا:
“ألن يُثير هذا مشكلة؟”
فأجابها بثقة لا تزعزع:
“لن تكون هناك مشكلة.”
ووافقت، فقد انتهى دور الإمبراطورية في مجاملة غابرييل. حتى أولئك النبلاء الذين أوصاهم الدوق بحضور مجلس الطبقة العليا، لم يعودوا في صفّه تمامًا.
في ذلك الوقت، كانت قاعة الذكرى ـ التي خلت من الناس ـ موحشة وباردة كزمهرير الشتاء، إلا أنّ دوق غابرييل، في ثورة غضبه، ما كان ليشعر بالبرد. وصورة وجهه الغاضب، وسط البرد والوحدة، كانت كافية لترسم البسمة على وجه ليليانا.
أما مشروع تطوير الحدود بقيادة شركة “رينا”، فكان يسير بسلاسة، مما يعني أن قبضة عائلة غابرييل على السياسة والاقتصاد لم تعد بالقوة نفسها.
شدّت ليليانا على يد هيليو بقوة.
نظر إليها متسائلًا إن كان هناك ما يقلقها، وكان في نظرته دفء، جعل قلبها يرتجف.
“هيليو، لم يبقَ سوى القليل…”
“أمهلني فقط، وسأقولها لك، قبل أن يفوت الأوان.”
“أنا… أحبك أكثر مما تحبني.”
♡ ֪ ࣪ ─┄── ♡ ֪ ࣪ ─┄── ♡ ֪ ࣪ ─┄── ♡ ֪ ࣪
•فضلاً ضع نجمه واكتب تعليق يشجعني على الإستمرار⭐•
حسابي على الإنستا:@empressamy_1213
حسابي على الواتباد: @Toro1312
ترجمة: ✧𝐀𝐌𝐘✧
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب من بيلادونا، التي كانت تجلس ساكنة على السرير. وأمسك ذقنها بلمسةٍ خشنةٍ ورفع رأسها للأعلى. “كيف أجعلك تتحدّثين؟” “….” نظر إلى عينيها المرتجفتين، ركل لسانه وأرخى قبضته على ذقنها واستدار....مواصلة القراءة →
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب...
التعليقات لهذا الفصل " 109"