انتشرت شائعةٌ في أرجاء الإمبراطورية تفيدُ بأنّ دوق غابرييل هو من سيتولّى شخصيًّا تنظيم مراسم احتفال تتويج الإمبراطور. وقد انشغل الناس بتداول تلك الأخبار لدرجةٍ جعلتهم ينسَون أعمالهم.
فهناك من قال إنّ الإمبراطور لا يزال يَعُدّ دوق غابرييل أحد أعمدة الدولة.
وهناك من زعم أنّ الإمبراطور قد زرع فخًّا داخل مراسم التتويج.
في حين رأى آخرون أن صعود الملكة لِيليانا السريع قد جعله يُقدم على محاولة لقمعها مؤقتًا.
تعدّدت الأقاويل، لكن حقيقة واحدة كانت مؤكدة:
أنّ دوق غابرييل قد بذل أقصى ما بوسعه في هذا الحفل، وكأنّ حياته تتوقف عليه.
ورغم أنّ البلاط الإمبراطوري منحه ميزانيةً كبيرة، إلا أنّه أنفق من ماله الخاص ما جعل الحفل أكثر بذخًا وعظمة.
وكما توقّعت أَغرينَا، فإنّ دوق غابرييل لم يكن ليستسلم بسهولةٍ لفخٍّ منصوب. وحتى إن قدّم بعض التنازلات، فقد عزم هذه المرة على ترسيخ مكانة مرشحته لعرش الإمبراطورية.
وقد أوصى مساعديه مسبقًا بأن يُثيروا جوًّا بين الحاضرين يدفعهم للمطالبة بالمكافآت.
وما غاب عن بال دوق غابرييل هو أنّ هيليو، وقد ربّته الحروب، لم يكن يضع البروتوكولات الإمبراطورية أو كبرياء العرش في ذات المقام.
ففي النهاية، لم يظهر هيليو في الحفل مطلقًا.
وكأنّ يوم الميلاد أُقيم من دون صاحب يوم الميلاد.
وما نفع أن يُعدّ أحدهم لظهور الإمبراطور بأفخم صورة، إن لم يكن الإمبراطور حاضرًا أصلًا!
“أبي… لماذا لم يأتِ جلالته؟”
سألت ڤيستي بعينين مرتجفتين والدها.
كانت قد تزيّنت ذلك اليوم بعناية تفوق كل الأيام، حتى فاقت جمال ملك الأرواح النورانية.
لكن ما جدوى هذا الجمال إن لم يكن هيليو، من كان يجب أن يُبهر به، حاضرًا؟
تشنّجت قبضة الدوق وارتجفت من الغضب، ثم زمجر بصوتٍ خافت حتى لا يسمعه أحد:
“تبًّا له! هكذا هم المتوحشون الذين تربّوا في ساحة الحرب!”
ثم استدار بسرعة وأخذ يتلفّت حوله بجنون.
“أين الملكة؟! أين تلك المرأة اللعينة؟! لماذا لم تظهر بعد؟!”
حينها، تحوّل غضب الدوق نحو لِيليانا، واشتعل في صدره كالنار.
وفي المقابل، كانت لوسيا تتابع المشهد من مقعدها المرتفع في الجانب البعيد، فضحكت بخفة.
رغم أنها لم تسمع صوته، إلا أنّ ما يبحث عنه كان واضحًا كوضوح الشمس.
“يا للسخرية… من الطبيعي أن تكون قد خرجت للتنزه مع هيليو. يظنّ أنّها من ذلك النوع الذي ينفق ثروته فقط ليحظى برقصة واحدة؟”
ضحكت الوصيفات القريبات من لوسيا بخفوت على تعليقها.
لقد كان حفل التتويج هذا، بكل صراحة، مهرجانًا هزليًّا لا أكثر.
❈❈❈
في الحقيقة، كان هيليو ولِيليانا قد غادرا القصر منذ ساعات الفجر الأولى.
العربة التي استقلّاها كانت تبدو من الخارج كمركبة تليق بأحد الخدم رفيعي الرتبة، إلا أن داخلها كان أكثر دفئًا وراحة بكثير.
ومنذ أن اعتلت لِيليانا العربة، بدأت بالتذمّر:
“إلى هذا الحدّ أنت جادّ بشأن التملّص من المهام، لدرجة أنّك صنعتَ عدة عربات كهذه؟”
أجابها بهدوء:
“القصر خانق.”
وبالفعل، فشخص مثل هيليو، خَبِر ساحات القتال منذ أن كان صغيرًا، لا بدّ أنّه يجد في القصر، بكل ما فيه من قيودٍ وآداب ونظرات، سجنًا ثقيلًا.
وبعد أن قطعت العربة مسافة لا بأس بها، راحت لِيليانا تُطِلّ من النافذة بخفية، ثم قالت بتردد:
“لكن… إلى أين نحن ذاهبان؟”
ردّ متصنّعًا الجهل:
“مَن يدري.”
“لا تتصنّع! أنا فضولية جدًّا الآن. من طريقة سيرنا نحو مكانٍ ناءٍ، لا يبدو أنّنا متوجّهون إلى أحد المهرجانات.”
كان شعب الإمبراطورية منشغلًا بالاحتفال بمناسبة التتويج، وقد عمت الأجواء أرجاء البلاد.
وكانت لِيليانا قد استمتعت كثيرًا في المهرجان الماضي، لذا أملَت أن تكون الرحلة لواحدٍ منها، لكن يبدو أنّ ذلك لن يحدث هذه المرة.
كان هيليو يجلس متكئًا وهو يعقد ذراعيه ويضع رجلًا فوق رجل، متخذًا وضعيةً مسترخية حدّ الوقاحة.
وكم بدا غريبًا هذا التباين!
ذاك الذي يبدو مهيبًا ومغرورًا في القصر، ما إن يخرج منه، حتى يتحوّل إلى رجلٍ يتسم بالكسل والوحشية، كما لو كان فارسًا خلع درعه ليتمرّن في ساحةٍ خلوية.
أحمرّ عنق لِيليانا وهي تواصل التحديق من النافذة بشغفٍ متزايد.
وها هي العربة قد تجاوزت حدود العاصمة، وبدأت تصعد طريقًا جبليًّا منخفضًا.
لم تكن هناك مبانٍ تُرى، فخالَت لوهلة أنهم دخلوا الريف، إلا أنّ جودة الطرق ونقاط الحراسة المنتشرة أشارت إلى غير ذلك.
شيئًا فشيئًا، بدأت لِيليانا تُدرك وجهتهم.
إنه قبر العائلة الإمبراطورية.
ومن بين كلّ الأيام، كان هذا اليوم تحديدًا هو يوم تتويج هيليو.
وهذا يعني أن ذكرى مقتل والده وشقيقه على يده… لم تكن بعيدة.
لم تستطع ليليانا أن تفهم نوايا هيليو، فقلّ كلامها فجأة وبشكل ملحوظ.
ويبدو أن هيليو لاحظ توترها، فراح يطمئنها قائلاً:
“لستُ آخذكِ إلى هناك لأعذّبكِ، فلا تخافي قبل الأوان.”
“…لست خائفة، إنما أخشى أن أزعج جلالتك.”
“أنتِ لا تستطيعين إزعاجي بتلك السهولة. فأنا، كما تعلمين، معجب بكِ كثيرًا.”
قالها ضاحكًا وهو يتذكر ما دار بينهما مؤخرًا. فأشاحت ليليانا بوجهها وقد احمرّت وجنتاها، تحاول أن تخفي توترها وراء خصلات شعرها.
توقفت العربة أخيرًا على تلة مستوية، فنزل هيليو أولاً ومدّ لها يده.
وما إن أمسكت بيده ومدّت رأسها خارج العربة، حتى صفعت برودة الريح خديها. لكن المشهد أمامها كان كفيلًا بأن يُنسيها البرد كله.
بناءٌ مشيّد بخشب ذهبيّ اللمعة، محبوك بإتقانٍ هندسيّ حتى بدا كأنه من حجر، قويّ وثابت، ومع ذلك لم يُخلّ بجمال الطبيعة من حوله.
تمتمت ليليانا دون أن تدري:
“ما رأيت بناءً بهذا الجمال من قبل…”
فأجابها هيليو بصوتٍ خافت فيه نبرة غريبة من السخرية الذاتية:
“هذا مطمئن.”
سألته وهي ما زالت مأخوذة بالمشهد:
“أأنت من شيّد هذا المكان، يا جلالة الإمبرا—”
“اتفقنا أن تتركي الألقاب في الخارج.”
“…لكننا الآن في المقبرة الإمبراطورية، أليس كذلك؟”
“لا يهم. نحن خارج القصر.”
وعندما يبدأ هيليو في العناد، لا حيلة معها. لكنها لم تكن من النوع الذي يرضى بالهزيمة بسهولة.
رمقته بنظرة جانبية وقالت بنبرة ماكرة:
“حسنًا إذن… هيليو.”
للحظة، انكسرت هالة الاتزان التي تميّز هيليو. انطفأ هدوء عينيه القمريّتين واختلّت تعابير وجهه. ولم تستطع ليليانا أن تمنع نفسها من الشعور بالسرور الطفولي في داخلها.
تظاهرت بالبراءة وسألته:
“هل تراني تجاوزت حدودي؟ أتودّ أن أتوقف؟”
فضحك هيليو ضحكة صافية وقال:
“أنا من بدأ العناد… فكيف لي أن أطلب منكِ التراجع؟”
“أليس كذلك؟”
مشى هيليو بخطى واثقة، وابتسامة لا تزال تلوح على محيّاه، بينما تبعته ليليانا بخفة.
“هذه أول مرة أضحك فيها منذ دخلت هذا المكان.”
فرحت ليليانا لأنها شعرت أن مزاجه تحسّن… لكن، وكأن القدر يسخر من أملها، بدأ وجه هيليو يعبس شيئًا فشيئًا كلما اقتربا من البناء. وانطفأ النور في عينيه شيئًا فشيئًا، حتى سادتهما نظرة خاوية.
تابعا المسير في صمتٍ ثقيل، عبرا ردهات واسعة حتى وصلا إلى أعماق المبنى، حيث انكشفت أمام ناظريهما قاعةٌ بديعة.
في ممرّ دائري طويل، اصطفت أبوابٌ كثيرة لا تُعدّ، فاقترب هيليو من أحدها وفتحه بيده.
وفي الداخل، كانت هناك لوحة ضخمة وصندوق مزيّن بمهارة.
في إمبراطورية كارلو، لا يُدفن الموتى كما هم، بل يُحرق الجسد لتكتمل دورة الحياة بشرف، فلا تطاله الدواب ولا الحشرات. تلك هي رؤيتهم للموت الكريم.
وبالتالي، فلا شكّ أن ما في الصندوق هو رفات صاحب الصورة بعد إحراقه.
صاحب الصورة كان جميلاً، وإن لم يَبلغ جمال هيليو، لكنه يملك وجهًا لطيفًا، بعينين تنضحان بالصفاء ونظرة دافئة كأشعة الشمس.
إن كان يُمكن تمييز طيبة القلب من نظرة العين، فهذا الرجل لا شكّ كان نقيّ.
رغبت ليليانا في أن تسأل عن هويته، لكنها تراجعت. فاختيار هيليو لهذا الباب، من بين عشرات، يعني أنّ لهذا الرجل مكانةً خاصة في قلبه. ولم ترد أن تُفسد لحظة صمته.
قال هيليو أخيرًا، بصوتٍ جاف:
“مرّ عامٌ يا أخي.”
لكن ليليانا سمعت في كلماته حنينًا دفينًا، رغم برود نبرته.
ربما اعتاد أن يأتي إلى هذا المكان كل عام ليزوره، ومع ذلك بدا كأنه لا يعرف ما ينبغي أن يقوله. فتح فمه ثم أغلقه… وكرّر ذلك.
وفي النهاية، تنهد وهمّ بأن يستدير ويمضي، وقد وضع يده على جبينه.
لكن ليليانا أمسكت بمعصمه.
“هيليو… أيمكنني أن أقدّم تحيتي له؟”
“…لم تعرفيه، فبماذا ستخاطبينه؟”
“إذن، أخبرني باسمه، وسأفعل.”
كان يقصد شيئًا آخر… لكنها أجابت بيقينٍ لا يقبل التراجع.
فتنهّد هيليو بصوتٍ خافت، وقال كأنه يبوح بسرٍّ دفين:
“أدونيا.”
هزّت ليليانا رأسها وابتسمت، ثم اقتربت من الصورة وقالت بهدوء:
“تشرفت بمعرفتك، يا سيد أدونيا… أنا اسمي ليليانا.”
على عكس هيليو، الذي عجز عن الحديث، راحت ليليانا تتحدث بعفوية:
“يبدو أن علاقتكما كانت مميزة، بما أن هيليو لم ينسَ زيارتك أبدًا… أليس كذلك؟ كنت أظن أن أقرب الناس إلى هيليو هما فقط الأميرة لوسيا والسيد تيرنز، لكنني اكتشفت اليوم أنني كنت مخطئة. وهذا يُسعدني.”
اتكأ هيليو على الجدار، يراقبها بصمت، كأنّه يريد أن يرى إلى أي حدّ ستتمادى في حديثها.
“أظن أن، كونك كنت قريبًا من هيليو، لا بد أنك كرهت دوق غابرييل أيضًا، أليس كذلك؟ الدوق يتلقى اليوم صفعة علنية في القصر الإمبراطوري. فكرة ممتعة، أليس كذلك؟ هيليو يعيش حياة مليئة بالمقالب الثقيلة هذه الأيام… أتعلم، في الصيف الماضي—”
لكن قبل أن تُكمل، أمسك هيليو بكوعها وأوقفها.
“توقفي.”
“لماذا؟”
“لا أظن أن أخي يرغب في سماع أخباري الشخصية. سيُسعده أن يسمع عن أخبار الإمبراطورية، لا عن يومياتي.”
♡ ֪ ࣪ ─┄── ♡ ֪ ࣪ ─┄── ♡ ֪ ࣪ ─┄── ♡ ֪ ࣪
•فضلاً ضع نجمه واكتب تعليق يشجعني على الإستمرار⭐•
حسابي على الإنستا:@empressamy_1213
حسابي على الواتباد: @Toro1312
ترجمة: ✧𝐀𝐌𝐘✧
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 108"