تنهدت لوسيا تنهيدة طويلة وهي ترفع خصلات شعرها إلى الخلف.
ولدت وترعرعت أميرةً، فأن يصدر منها صوتٌ عند التنهد أمر غير مألوف، لكنّ أنينًا خافتًا خرج منها بطول تنهيدتها، لما فيها من عمق.
“يبدو أنّ رأي هيليو لا فائدة منه الآن. يكفينا أن نعرف إن كانت جلالتكِ راضية أم لا.”
ثم أشارت بيدها نحو البعيد، فتقدّم فتى طويل القامة بخطى واثقة. كان وسيمًا، تتناغم خصلات شعره المموجة ذات اللون النحاسي مع ملامحه.
ورغم أنّ مظهره بدا عاديًّا في نظر ليليانا، التي اعتادت روعة وسامة هيليو، فإنّ هيليو نفسه لم يُدرك ذلك، فعقَد حاجبَيه في ضيق واضح.
قالت لوسيا:
“إنه ليون هيسدين . لم يمضِ وقت طويل على نيله لقب فارسٍ رسمي لصغر سنه، لكنني أراقبه منذ كان متدربًا، وهو فتى نبيل بحق. ليون، أرِ سموّ الملكة مهاراتك في المبارزة.”
“أمركِ، صاحبة السمو.”
نهض ليون في حماسة، وشرع يستعرض مهاراته بالسيف. ورغم أنّه كان يضرب في الهواء، فإنّ حركاته بدت راسخة ومليئة بالقوة. حتى ليليانا، رغم جهلها بفنون السيف، رأت فيه مهارةً حقيقية.
وما إن صفّقت ليليانا حتى جثا ليون على ركبةٍ واحدة.
سألتها لوسيا:
“ما رأيكِ؟”
فقالت ليليانا مبتسمة:
“رائع بحق. لو كان السير ليون هو من سيحميني، لشعرت بالأمان التام.”
بدت لوسيا فخورةً وهي تقول:
“ابتداءً من اليوم، سيكون حارسًا لجلالتكِ.”
“أمرك، صاحبة السمو!”
وبينما كانت ليليانا تُنصت إلى ردّه المجلجل، لاح في ذهنها اسم “ليون هيسدين”. بدا مألوفًا.
“آه! إنه الفارس الذي أهدته صاحبة السمو لوسيا إلى ليريت!”
لم تُدرك الأمر في البداية لأنه بدا آنذاك رجلًا راشدًا لا فتى. فكرة أنها تتلقى الآن ما كان من المفترض أن يكون من نصيب ليريت في القصة الأصلية، جعلها تشعر بالدهشة، وربما بشيء من الحرج.
ليون هيسدين، وإن لم يكن مشهورًا الآن، إلا أنّه سيصبح لاحقًا من أعظم الفرسان، يُضرب به المثل في الولاء والبطولة، بعد أن يواجه مع ليريت أهوالًا لا تُحصى.
لا شك أنّ لوسيا رأت موهبته وأرادت أن تُكرم ليليانا بكرمٍ كبير.
كما أن الإمبراطورة الأم ولوسيا منحتاها أيضًا اثنتين من وصيفاتهما الشخصيات. ورغم أنّ الجميع عرف أن صوفيا لم تكن خائنة، فإنّ ما حصل من فوضى في قصر الزمرد خفّض عدد الخدم بشدة.
ورغم أنّ هيليو سيعيد ملء القصر برجال آخرين، فإنّ من اختارته الإمبراطورة الأم ولوسيا كان بالفعل مُرضيًا للغاية.
قال هيليو فجأة، قاطعًا حبل الحديث:
“لتنهض جلالة الملكة.”
تبادلت كل من الإمبراطورة الأم ولوسيا وليليانا حديثًا دافئًا طويلًا، لكن هيليو قطع ذلك بجملة قصيرة.
فقالت لوسيا محتجة:
“أيعقل أن يكون الإمبراطور بهذا الجفاء؟! نحن بالكاد نرى جلالة الملكة!”
رغم أنّها وبخته، فإنّها لم تكن تملك حيلة أمام عناد الإمبراطور. تبادلت ليليانا وداعًا طويلًا مع الاثنتين، ثم غادرت برفقة هيليو قصر الإمبراطورة الأم.
❈❈❈
كان يمشي صامتًا دون أن يحدّد وجهته، ولم تسأله ليليانا عن شيء.
قال فجأة:
“ظننتكِ ستبقين في القصر تبكين، وإذا بكِ تمضين وقتًا ممتعًا.”
ضحكت ليليانا، وقد راق لها استخدامه لكلمة “تبكين” بصيغة طريفة:
“لولا أنّ جلالة الإمبراطورة الأم دعتني، لبقيت في القصر أبكي بالفعل.”
قالتها بنبرة مرحة، ثم نظرت أمامها. أنفاسها شكلت ضبابًا أبيض حجب الرؤية للحظة، ثم عاد برد الشتاء ليظهر جليًّا.
ما زالت تتذكّر بوضوح ردّ فعل هيليو الحادّ في وقتٍ سابق. خطواته الغاضبة، نظرته الحادة التي تمسح المكان، وأصابعه المتصلبة من شدة التوتر…
نظرت إليه مجددًا. كم يُتقن هذا الرجل إخفاء مشاعره!
الآن بدا فقط كإمبراطور وسيم مهيب، كما لو أنّ شيئًا لم يكن.
راودها الفضول عن سرّه الدفين، ذاك الذي لم يُذكَر حتى في القصة الأصلية.
ابنتك، ليريت، بشخصيتها البطولية، داوت جميع جراحك، فماذا عن ذلك الجرح الذي أخفيته حتى عنها؟.
هل ستبوح لي به يومًا ما؟ ما ذاك الماضي الذي يعذّبك بهذا الشكل؟.
وفيما هي غارقة في أفكارها، توقّف هيليو فجأة عن السير.
“لِمَ تنظرين إليّ بتلك النظرات الجميلة؟”
“هاه؟”
فوجئت بكلامه، فقد كانت مشغولة بالتفكير العميق، فبدت كلماته غريبة تمامًا عن السياق.
وضعت يديها على وجنتيها خجلًا، فقال لها بعفوية، وهو يُدير وجهه قليلًا:
“لمَ تخفين وجهك؟ ألا تُعجبك كلمة ‘جميلة’ حين أقولها لكِ؟”
قالت وهي لا تزال تُخفي وجنتيها:
“كنتُ أفكر في كيف يبدو وجهي الآن.”
فردّ مبتسمًا:
“لقد رأيتكِ بما فيه الكفاية، لا تقلقي، وجهك جميل وحسب.”
كلّما نطق بكلمة “جميلة”، ازداد اضطرابها.
لكن من ذا الذي يكره سماع كلمة “جميلة” من الرجل الذي يحبّه؟
سرعان ما تحوّل ارتباكها إلى خفقانٍ حلوٍ في القلب.
تظاهرت بتعديل غرتها وسألت بخفة:
“أي جزء… أي نوع من الجمال تقصده؟”
“ماذا؟”
بدا على هيليو الارتباك، وكأنه لم يتوقع منها هذا السؤال المباشر.
تابعت ليليانا بخجل طفولي:
“قلتَ إنك ستكسب قلبي… أليس هذا جزءًا من خطتك؟”
جمعت كفّيها أمام صدرها، وبدأت تعبث بأصابعها توترًا، حركاتها الطفولية كانت مخفية تحت كمّ ردائها السميك، وهو ما شعرت نحوه بامتنان.
تأمّلها هيليو بصمت، واضحٌ أنه كان يُفكر في إجابة جدية.
لكنّ صمته طال، حتى شعرت بحرارة في وجنتيها، وكأنّها لُدغت.
قالت وقد نفد صبرها:
“ما الأمر؟ صمتك الطويل هذا يدلّ على أنك كنتَ تُجامل وحسب.”
“لا، أبدًا.”
“لا بأس…”
“أقسم أنّي صادق. لقد طال تفكيري فقط لأنكِ… جميلة في كل شيء.”
لم يكن في صوت هيليو أدنى لمحة من المزاح.
“كلّها جميلة.”
قطّبت لِيليانا أنفها دون سبب ظاهر، ثم أدارت رأسها بعنف.
“يا لفراغ الجواب.”
قالتها بنبرة مقتضبة، ثم أسرعت بخطاها إلى الأمام، مما دلّ بوضوح على خجلها.
ضحك هيليو ضحكة قصيرة، ولحق بها بخفة.
“وهل تعرفين إلى أين تذهبين حتى تسبقيني هكذا؟”
أجابت لِيليانا بثقة لا تُضاهى:
“إلى قصر آريس، طبعًا.”
ضيّق هيليو عينيه بدهشة، وكأنّه يتساءل كيف عرفت.
لكن لِيليانا، وقد اعتلت وجهها نظرة مشاكسة تشبه تلك التي اعتاد أن يراها على وجهه، قالت بمرح:
“بدا وكأن جلالتك يخطط لمفاجأة، فقررت أن أتظاهر بعدم المعرفة، لكنك رددت على سؤالي بفتور، لذا… قررت أن أردّ بالمثل. أوه… هممم، أجل، حقًا؟ شيءٌ كهذا.”
“لا تصدقينني أبدًا، أليس كذلك؟”
تابع الاثنان الجدال البسيط وهما يتقدمان في ذات الاتجاه، وكانت لِيليانا محقة، فالوجهة كانت فعلًا قصر آريس.
بدا أن الباب الرئيسي قد استُبدل مؤخرًا، إذ كان مصنوعًا من مادة شفافة لامعة كالكريستال، يتلألأ بجمال نادر.
ورغم ذلك، لم تبدُ لِيليانا منبهرة، بل بدت مرتبكة.
“… لا أذكر أن هذا كان الباب الرئيسي لقصر آريس.”
قرب القصر كان يوجد دومًا “حديقة الثلج”، التي تتجلى بجمالٍ خاص في الشتاء. ولأن لِيليانا كانت تحب التجوّل فيها، كانت تقصدها كلّما دخل الشتاء.
وبما أنّ الطريق المعتاد إلى القصر يمرّ لا محالة بتلك الحديقة، فإن عدم رؤيتها أمام الباب يعني شيئًا واحدًا فقط.
وما إن اجتازا البوابة، حتى انفتح أمامهما طريق طويلٌ بديع الجمال.
على جانبيه انتصبت مصابيح حجرية دقيقة الصنع، وزُرعت أشجار كثيفة بعناية، فبدا كغابةٍ صغيرة.
الرخام المفروش على الطريق لم يكن جميلًا فقط، بل بدا متينًا أيضًا، وكأنه صالح لسير العربات، فكيف يمكن قطع هذه المسافة الطويلة مشيًا كل مرة؟
أمر هيليو بإحضار عربة، لكن لِيليانا أوقفته بلطف، ممسكة بذراعه:
“بما أنها أول مرة، أودّ السير.”
“أخبريني إن شعرتِ بالتعب.”
أومأت برأسها، وعيناها تتعلقان بالمشهد الآسر الذي سيكون ملكها قريبًا.
أما كلامها السابق عن “ردٍّ عابر”، فقد ذاب كالبخار.
أثناء السير، ظهرت عدة ممرات ضيقة بين الأشجار.
قدّرت لِيليانا المسافات بعينها ثم أشارت إلى أحدها:
“أريد أن أسلك هذا الطريق.”
ضحك هيليو وقال:
“كنت أعلم.”
“آههاها! لِمَ لم تخبرني إذًا؟!”
قهقهت لِيليانا بسعادة وهي تشدّ على ذراعه، وكأنها تمشي على طريقٍ من غزل البنات، محمولة على نسيم فرح خفيف.
وفي نهاية الطريق الذي اختارته، ظهرت حديقة الثلج كما كانت تتوقع تمامًا.
رغم أنّ الفصل شتاء، إلا أنّ صوت الماء المتدفق في جداول الحديقة كان مسموعًا.
تتبعت الصوت حتى وصلت إلى مجرى ضيّق، وما إن رأت ما أمامها حتى شهقت.
جثت بالقرب منه، ناسية وقارها.
“يا للعجب! هذا المجرى ضيق جدًا، ومع ذلك لم يتجمّد الماء فيه، مع أن البرد قارس!”
“حتى أنا أجد ذلك عجيبًا.”
انحنى هيليو قليلًا لينظر في الجدول.
ولسبب ما، بدت لِيليانا مسحورة بتلك الهيئة.
ربما كان في باله أن يضمّ هذه الحديقة إلى قصر آريس لأنها تروق لها،
لكن لا يمكن أن يكون مطّلعًا على تفاصيل أعمال البستنة والبناء.
لا شك أن الحرفيين وضعوا فيها خلاصة فنهم وتعبهم.
أن يرى الإنسان أمرًا يجهله حتى هيليو، ذاك الذي يبدو وكأنه يعلم كل شيء ويقدر على كل شيء، كان أمرًا مثيرًا للدهشة… وللإعجاب.
“هل هذه أول مرة تزور فيها هذا المكان يا جلالة الإمبراطور؟”
“نعم. وإن كان هناك ما لا يعجبكِ، فقولي الآن، سأأمر بتعديله.”
“بل يعجبني جدًا. لا يسعني الانتظار حتى أبدأ العيش هنا.”
“لا يزال هناك الكثير لم ترِه. تركتُ بعض الحدائق لتزينيها أنتِ، وطلبتُ أن يُعدّ لكِ مكان للقيام بنزهاتك. هناك، يمكنكِ أن ترقصي أو تغني كما شئتِ، ولن يراكِ أحد. يمكنكِ حتى أن تتمددي على الأرض إن رغبتِ.”
كان في نبرة هيليو شيءٌ من الحماسة غير المعتادة.
فمن الطبيعي أن تكون لِيليانا سعيدة بمكانٍ أُعدّ لها،
لكن أن يبدو هو سعيدًا أيضًا… فذلك غريب.
ثم فكّرت قليلاً: إن تقديم الهدايا لمن نحبّ، ثم رؤية سعادتهم بها…
هو من أسمى أنواع الفرح.
وفرح كهذا، لا يُولد إلا من المحبة.
رفعت لِيليانا رأسها تنظر إلى هيليو.
“يا جلالة الإمبراطور.”
“نعم؟”
اعتدل في وقفته، ونظر إليها بثبات.
أما هي، فأسندت ذقنها إلى راحتيها، وابتسمت بمكرٍ وحنان.
“أنا أعجبكَ قليلًا، أليس كذلك؟”
———————————————————————
•فضلاً ضع نجمه واكتب تعليق يشجعني على الإستمرار⭐•
حسابي على الإنستا:@empressamy_1213
حسابي على الواتباد: @Toro1312
ترجمة: ✧𝐀𝐌𝐘✧
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 105"